بقلم : محمود حسونة
كثير من الأعمال الدرامية ينتهي عرضها من دون أن يحس بها أحد، خالية من المضمون والأداء بارد والإخراج تقليدي، وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون فاقدة التأثير، وقليل من الدراما يصيبنا بصدمات ويصاحب عرضه صدامات بين متابعيه وضجيج وأصوات متداخلة وشائعات، وعادة ما تكشف لنا هذه الأعمال مستوراً وتفضح خونة وتعلن خافياً، المضمون نختلف حوله ولكنه ثري، والممثلون نتعاطف معهم ونصدق كلامهم ونقدر أفعالهم، والمخرج نصفق له ونراه من نوعية نادرة تتعامل مع الفن على أنه رسالة وليس سبوبة ولا مجرد مصدر رزق.
الأعمال الوطنية التي تم عرضها في الموسم الرمضاني المنتهي كلها تنتمي إلى النوعية الثانية ومعها القليل القليل من الأعمال الاجتماعية التي تتماس مع قضايا الوطن والمواطن، والفانتازيا التي تتخذ من الأسطورة إطاراً لإعلان موقف عن ما يحدث في الحاضر والتحذير من التمادي الذي يهدد المستقبل.
مسلسل (بطلوع الروح) واحد من الأعمال التي أثارت ضجيجاً على مواقع التواصل الاجتماعي قبل عرضها، وهو الضجيج الذي استمر وازداد طوال أيام العرض، ومازال مستمراً اليوم، وسيظل أيضاً غداً وبعد غدٍ. بدأ الضجيج فور نشر صور البوستر الإعلاني، هاجت وماجت الكتائب الإرهابية خوفاً من مسلسل يمكن أن يفضح فضائحهم. وبالرغم من أن الله كشف مستورهم أمام العالم ولم يعد أحد من المهتمين على الكوكب إلا ويعرف جيداً أن (داعش) جماعة اتخذت من ترهيب البشر وسيلة للفت النظر إليها، قتلت الشيوخ وسبَت النساء واغتصبت الأطفال وذبحت الأبرياء وحرقت الشباب وحصدت أرواح من انتموا اليها وندموا وحاولوا الهرب من جحيمها بأبشع الأساليب، كتبت عنها صحف العالم واستفاضت بحثاً وتحليلاً لجرائمها محطات التليفزيون، وتباهت هى نفسها بما ارتكبته بأفلام وضعتها على الإنترنت أملاً في ترهيب الحكومات والشعوب والجيوش.. بالرغم من كل ذلك إلا أن فرائصهم ارتعدت من مسلسل تليفزيوني سيقدم صورة حية عن واقعهم الأسود ويضع جرائمهم في إطار قصصي درامي سيضاعف غضب الناس عليهم ويترك من التأثير ما عجزت عن تركه المقالات والتقارير وروايات الهاربين من جحيمهم في الصحف وعلى الشاشات وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.
هم يعلمون أن الدراما أكثر تأثيراً لذا خافوا، ونحن نعلم أنها أكثر تعبيراً فأقبلنا على مشاهدة المسلسل، ولأن العمل يحمل توقيع المخرجة (كاملة أبو ذكري) فقد كانوا على حق في خوفهم، وكنا على حق في إقبالنا، حيث استطاعت المخرجة الكبيرة بحرفيتها المعهودة أن تتفوق على نفسها وتأخذ مشاهديها إلى مدينة الرقة السورية التي كانت مقراً لدولة الباطل، وتطلعهم على حياة الظلام والظلم والجهل والتطرف والعنف هناك، أقاموا دولة لا تنتمي إلى هذا الزمان، الرجال فيها عبيد للأمير، ينفذون أوامره بشكل أعمى، والنساء مغلوبات على أمرهن، مقهورات، مضطهدات، ومجرد أدوات في أيدي رجالهن والقيادات من النساء والرجال على حد سواء.
المسلسل تدور أحداثه حول السيدة المصرية الراقية المظهر والمضمون (روح)، التي يخدعها زوجها المضلَّل ويأخذها وابنهما الطفل المريض إلى تركيا في رحلة أوهمها أنها سياحية، ولكنها فوجئت به يختطفها هو وزميلهما المشترك من أيام الجامعة (عمر)، لتجد نفسها في دولة الظلم والإرهاب، داعش، ومحكوم عليها من الزميل الذي رفضته حبيباً أيام الجامعة، وبواسطة الزوج المغيب على أن تعيش في حياة لا تناسب البشر وتنفذ قوانين وضعها أباطرة الإرهاب لتكون معبراً لهم للحصول على ملذاتهم وإشباع شهواتهم الجامحة، ولا تجد أمامها سوى الرضوخ لبعض الوقت حتى تبحث عن وسيلة للهروب من الجحيم، وفي رحلة البحث هذه تتعرض لأزمات وأزمات قبل أن تنجح في الهرب بطلوع الروح، وتخرج مع مصور صحفي بعد سقوط الرقة وتنفض عن نفسها غبار الأيام السوداء التي عاشتها وسط عالم لا ينتمي إلى العالم.
القصة قال عنها المؤلف محمد هشام عبية أنها حقيقية، قرأها في تحقيق في إحدى الصحف ومزجها ببعض الخيال، لتفتح له طريق النجاح في عالم التأليف الدرامي، وأكدت سيدات سوريات وعراقيات عانين الجحيم الداعشي عبر مواقع التواصل الاجتماعي في تعليقات لهن على المسلسل، أن القصة واقعية ولكنها ليست سوى نقطة في بحر الإرهاب الداعشي الذي عانوا منه، وجسدتها بصدق وتألق الفنانة (منة شلبي) التي لم تشغل نفسها بمظهرها ولا جمالها بقدر ما انشغلت بأن تجسد التعبير الحقيقي عن كل امرأة سيقت إلى هذا الجحيم رغم إرادتها، لتجد نفسها وسط أناس فقدوا العقل وشوهوا الدين وأساؤوا للبشر ولرب البشر؛ أما الفنانة (إلهام شاهين) فقد فرغت شحنة الغل التي تحملها تجاه كل تجار الدين في أدائها لشخصية (أم جهاد) القيادية الداعشية المغرورة والموهومة بأنها تدافع عن حق وهو كله باطل، والفنان (أحمد السعدني) أعيد اكتشافه ليكتب اسمه بين عتاولة التمثيل في العالم العربي بتجسيده لشخصية الأمير الداعشي الجبار ظاهرياً والمهزوم داخلياً من حبه المرفوض من زمن الجامعة والساعي للاستيلاء والاستحواذ على هذه المحبوبة بأي ثمن.
أدوات التميز في المسلسل كثيرة، وكل المشاركين فيه تمثيلاً وديكوراً وموسيقى ومؤثرات وإنتاجاً كانوا أبطالاً وفروا للمخرجة والنجوم والمؤلف الأجواء التي تسهل توصيل رسالتهم بسلاسة إلى المشاهدين.
(بطلوع الروح) و (العائدون) مجرد عملين عن تنظيم ارتكب كل الفظاعات ولا يغطيان سوى القليل القليل مما فعله في حياة الناس، ومما خططه للدول، ومما شوهه من قيم دينية، ومن المؤكد أننا سنرى في المستقبل القريب العديد من الأعمال التي تفضح (داعش) وأشقائه من جماعات الإرهاب.
mahmoudhassouna2020@gmail.com