بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
أتذكر من الأيام السعيدة حين أصبح (محمد نوح) ظاهرة يجتمع عليها الجميع ونجح في (اللاروند) نجاحاً مدوياً.
جاء الصيف.. افتتح (لطفي) القاعة الصيفية في الحديقة الكبيرة، وكانت تتسع لجلوس أكثر من ألفين من الضيوف وثلاث آلاف مع الوقوف، وجاء أول خميس وكان المكان مزدحم جدا والممرات يقف فيها الشباب.. وبدأ حضور الفنانين.
وأتذكر طاولة سامي المهندس شقيق فؤاد المهندس، طاولة سناء جميل وزوجها الكاتب الصحفي الكبير لويس جريس، ثم فريد شوقي ونور الشريف وناديه لطفي، وجموع من من مصر للطيران ورجال أعمال ومطربين ويبدأ نوح من الثانية صباحاً حتي الرابعة.. وأحياناً نجد معظم ملاهي شارع الهرم كثير من روادها يتحركون في الثانية للاستماع لنوح.
ظاهرة كانت عجيبة وأتذكر أن بعض من الحضور كان يتحرك من العجمي ويحضر لسماع نوح في الصالة الصيفية ويعود، ومن العجيب أنني أتذكر كثير من أسماء الحضور من تكرار تواجدهم، وحين حضر مصر (عمر الشريف) جاء ليشاهد نوح وما يحدث، حتي أولاد شاه إيران حضروا ليشاهدونه.
وكان لتفاعل الفنانين مع نوح وصراخه أثر كبير لإشعال حماس الحضور، فالكلمات قوية ومؤثرة وأحياناً وجود سناء جميل ونور الشريف وناديه لطفي. يزيد من اشتعال حماس المشاهدين، ولا أنسي بالذات القديرة سناء جميل.
كان الرئيس السادات يعرف أن محمد نوح تنقل مع فرقته بين معظم وحدات القوات المسلحة والجبهة، وفي احد الأيام ونحن مجتمعين مع الحاجة (نوحة) بالمنزل وفي انتظار الغذاء ووصول أخي شاكر وأولاده من الإسماعيلية ويجلس نوح مع زوج شقيقتي الكبري، ونتبادل الأحاديث وقد جلست أمي بعد أن انهت أعمال المطبخ وأعدت طعام الغذاء للقبيلة النوحية، رِن جرس التليفون ولاحقته أمي فهي في انتظار مكالمة فرفعت السماعة بسرعة واحمر وجهها وهى تردد: مين مين والله ما ينفع الهزار كده.. عيب وأغلقت السماعة وهى غاضبة وقد اكتسي بوجهها باللون الأحمر.
سألها نوح: مين يا نوحة؟، أجابت وقد قضبت حاجبيها ومازال وجهها أحمراً من حرارة المطبخ وزادها حرارة الموقف، واحد بيهزر ويقول أنا أنور السادات لم تكمل ورن جرس التليفون وكان فوزي عبد الحافظ مدير مكتب الرئيس وتلعثم نوح أيوه يا فندم: أمي الحاجة يمكن مش مصدقه.. آسف آسف جدا افتكرت حد بيعاكس.. وعلق الرئيس بعد أن أخذ السماعة من مدير مكتبه: قول لأمك يا محمد متقفلش في وش رئيس الجمهورية.. عيب وضحك وبصوته المعهود إحنا بنكلفك بمهمة وطنية وأنا عارف دورك وإخلاصك لمصر.
أوامر سيادتك.. روح يا محمد سيناء رجعت والناس يمكن بعضهم مش فاكر كلمه مصر والبلد والأرض.. سمعهم مصر وغني وخليهم يغنو لمصرمعاك وقول احميني ومدد وشدي حيلك يا بلد.
لقد كنّا ونوح والجنود المصريين أول من دخل سينا بعد خروج الصهاينة وغني نوح وهتفت معه الأهالي من سيناء والجنود المصريين بكل حماس.
ظلت الحاجة نوحة لا تقترب من التليفون لمده تقترب من الأسبوع وطبعا الكل يلاعبها ويضحك أيوه يا نوحة الرئيس.. وأعلّق أنا خايف كارتر يطلبك والله لو ابويا حامد موجود كان زمانه بياخد حقه وتعلق: أختشي ويعلق نوح: شوف أمك بتقول كلمة أنا نسيتها من زمان من أيام اليشمك وبين القصرين.. معقول يا نوحة أختشي اربعيناتي قديمه جداً.
كنّا دائماً أسرة تحاول البحث عن البهجة.. هل كان ذلك عوضاً عن إحساس بموت الأب والمسؤلية والظروف التي مررنا بها.. أمي كانت خفيفة الظل أحياناً تغني وأخرى تقلد إحدي الشغالات أو السائق أو البواب أو أحد من أبنائها كان لقاء (الحاجة نوحة) مقدس دائماً لا يتغيب عنه أحد ولم يتوقف إلا بعد موت أمي رجمة الله عليها.
في فرح لإحدي بنات الرئيس السادات وكان نوح يشارك في معظم الاحتفالات الخاصة بالرياسة، وقد كان من ضمن المعازيم الفنان عمر الشريف وقد دعاه الرئيس للعودة حين قابله في واشنطن، وحضر الحفل معظم الساسه والنجوم من مصر والدول العربية وبعض السفراء، وضيوف عرب وأجانب واندهش نوح حين أنهي إحدي اغانيه وطلبت ابنة الرئيس الصغري وبصوت عالي الكوسة يانوح.
وتكرر من أحد الحضور وبصوت عالي الكوسة يا محمد، نظر نوح للفرقه ومسح علي وجهه ونظر بنصف عين فوجد الرئيس يضحك ويشاور قول، وأشار نوح أن تبداأ الفرقه وبدأ بالموال:
حقولك ايه يا خال علي جري وبكاني
سنين طويله شغال والشغل سوان
تقريري في الشغل امتياز ومخلص ومش مرتشي
ومعرفش ايه.. تانيييييييييي
لحد ما جه ابن أخت السيد الوزير.. وهوبا.. وشغًلوه مكاني ومشيت أهلوس لوحدي في مسألة محيراني :
ليه نزرع القمح في سنين يا بلد
يا بلد يا بلد
ويطلع القرع في ثواني
وزاد الهرج
وارتفعت الضحكات والتصفيق
وأكمل نوح علي الموسيقي ومع السقف
يا بلدنا يا عجيبة
يا بلدنا يا عجيبة
فيك حاجه محيراني
نزرع القمح في سنين
يطلع القرع ف ثواني .
كانت دهشتنا جميعا من مدي إعجاب الرئيس.. انتقلت الحالة لكل الحضور وصافح الرئيس نوح بعد الحفل وأصبح يتقابل كثيرا معه، وتوطدت علاقته به وكان يرسل له الجلاليب والرمان والمانجو، وفي إحدي المرات سأل الرئيس محمد نوح: انت عمرك يا محمد ما طلبت أي حاجة من الدولة.. انت مش محتاج، ولاحقه نوح: محتاج يا ريس قطعة أرض ابني عليها مسرحاً حسيبه للبلد.. عاوز أبني مسرح يليق بتاريخ مصر في الفنون، وطلب الرئيس فوزي عبد الحافظ وأبلغه ولم يمض الكثير من الأيام وكنا بمكتب محافظ القاهرة نشاهد الممكن من القطع المتاحة والصالحة.
ولكن اغتيل السادات وأصبح مع محمد نوح ورقة موقعة من الرئيس السادات بمنح قطعة أرض لبناء مسرح، وانتقلت من مكتب إلى آخر وسط دهاليز الموافقات والبيروقراطية إلى أن كتب الأستاذ أنيس منصور في عاموده: إمضاء السادات أوقفت حرب طويله بين مصر وإسرائيل، ولكنها لم تستطيع أن تتخلص من بيروقراطية الدولة وموظفيها المتجذرة.