حسين نوح .. إبحار في عالم المرأة على صهوة جواد (حابي)
كتب : محمد حبوشة
وسط أهازيج من الفرح تتأرجح ما بين الظلال والألوان، في وجود حشد فني وثقافي كبير وغير مسبوق في معرض للفن التشكيلي، وفي حضرة وزيرة الثقافة المصرية (د. إيناس عبد الدايم) وكوكبة من نجوم الفن، امتطى الفنان التشكيلي والموسيقي والروائي صهوة جواد (حابي) – عنوان المعرض – الذي أقامه ليلة أمس الثلاثاء 16 نوفمبر، بقاعة صلاح طاهر بدار الأوبرا المصرية من خلال عدة لوحات تجسد عشقه للمرأة وشغفا بأحوالها وهمومها، متلاعبا بالعجائن اللونية والسجاد الشرقي بوهج يجمع بين العاطفة والجسد ومعاناة الحياة في أبرز صورها بألوان تتأرجح بين (درجات الأصفر والأحمر والأزرق والبني الداكن) مستمدا زاده اللوني من عمق الحضارة المصرية العريقة.
وبوصفه عازفا محترفا فقد أوضحت خطوطه وألوانه الدافئة، أن هناك تشابكا واضحا بين تجاربه فى الموسيقى والمسرح والتصميم والنحت والرسم على الزجاج، فى كل ما يفعل من فن يظهر جليا فى طبيعة التكوينات والخطوط وصولا إلى توظيف الزخارف والخطوط المتواجدة فى السجادة، فكل الفنون بالنسبة له تغذى بعضها بعضا وتزف في مجملها نشيد الحياة التي تتدفق مع سريان نهر النيل.
تبرز اللوحات في مجملها المرأة المصرية وصمودها ومعاناتها، وفي كثير من اللوحات جسد الفنان المرأة تحت وطأة القهر، أو بجوار حصان عربي أصيل كرمز للصمود والتصدي وشغف الحرية، حتى كأنك في كل لوحة تشعر بأنها تروي حكاية إنسانية بآلامها وأفراحها، ولا يكتفي (نوح) برصد ملامح المرأة في شتى حالاتها: الفرحة والنشوة والحزن ومشاعر الوحدة، وإنما استطاع بضربات فرشاته أن يجذب المتلقي ليقف مشدوها متأملا براعته في تجسيد عذاباتها، بل وسماع أناتها في آلامها وضربات قلبها الفرحة أو المتخوفة من المجهول، كما شعرت بذلك ليلة أمس الثلاثاء، رغم سكون الألوان والظلال الكثيفة أحيانا.
وسط نجوم الفن (حسين فهمي، خالد زكي، ليلى علوي، إلهام شاهين، عمر عبد العزيز، مجدي أبو عميرة، محمد التاجي، شريف خير الله، وبوسي شلبي وهاني لاشين، مدحت العدل، عاطف بشاي، مجدي صابر، أحمد صقر ويوسف ابو سيف، جمال عبد الناصر، المخرج حسام الدين صلاح، والفنانة سحر نوح)، انتابني شعور جارف نحو الغوص في تفاصيل اللوحات التي تنبض شخصياتها بالحيوية والحرية، ولأن لدي شغف الإبحار بعمق في عالم (حسين نوح) السحري على مقام الدهشىة الإبداعية التي غلبت عليها الألوان الساخنة فقد أدركت أن لسان حال (نوح) يقول: المرأة هى ملهمتي وملهمة كل فنان، والأم هي البداية دائما، وأنا أدين بالفضل الكبير لأمي التي لم تكن تعرف القراءة والكتابة وعلمتني حب القراءة والاطلاع وعشق الموسيقى، وهذا المعرض محاولة مني لتكريم المرأة التي أراها تتجسد في والدتي، والتي أعتبرها تمثل كل نساء العالم، فالمرأة دائما تدرك رسالتها، تؤدي أدوارها بلا كلل، تقف بصلابة، كالشجرة الراسخة الجذور.
ويبدو لافتا لي تميز الفنان (حسين نوح) في تقنية رسوماته باستخدام تكويناته اللونية وزخارفه في خلق وابتكار لوحات تعبر عن التراث المصري وتنبض بالحياة بين الظل والنور محلقا في عالم خيالي فاتن، وربما السر يكمن في أن تلك التقنية هى التي يعمل عليها نوح منذ أكثر من 20 سنة، محاولا تطويرها لتجسيد تكوينات لونية فريدة تنطلق من التراث المصري، ويضفي استخدام الفنان للسجاد مع العجائن اللونية رونقا خاصا وسحرا من عبق الشرق على اللوحات التي أطل بها في هذا المعرض.
لقد بدا واضحا لي ولعشاق الفن التشكيلي – كما سمعت من همس بعضهم – تأثر نوح بالفنان الإيطالي تتسيانو (1488م – 1567م) المعروف ببراعته في استخدام الألوان والعجائن، فقد استطاع نوح التلاعب بالتدريجات اللونية ليجسد حركة الدم في عروق المرأة ودموعها المنسابة ومسحة الحزن التي تكسو بعض وجوههن؛ الأمر الذي عكس براعته في التلاعب بالعجائن مع تموهات الفرشاة، وهو الأمر الذي أكسب اللوحات القدرة على إثارة مشاعر المتلقي بالضرورة ودمجه في الحالة النفسية لشخوص اللوحات، وقد استعان الفنان هنا برمزية جسد الخيل في بعض اللوحات تعبيرا عن جموح المرأة أحيانا وانطلاقها وحريتها وثورتها أحيانا أخرى، كما استطاع نوح أن يوزع المساحات اللونية على فراغ اللوحات مكسبا إياها قيما لمسية تتجلى في خواص الزجاج والوبر وغيرها من خامات مستخدمة.
حسين نوح اختاراسم (حابى) عنوانا للمعرض وهو المعروف بـ (إله النيل لدى القدماء المصريين)، ليعكس فى لوحاته عبر تكوينات متباينة، كل معانى الخير والنماء والحياة ذاتها، منطلقا من أن النيل حياة المصريين، مرددا داخل براويز لوحاته قول (حور محب) في (أنشودة حابي):
أنت خالق النور الذى يأتى من رحم الظلمة
بقدرتك خلق كل شئ حى، ولا حياة لمخلوق بدونك
من خيرك يكتسى الناس
لأن كتان حقولك هو الذى علمهم صنعة النسيج
و بفضلك تستنشق أنوفهم أطيب العطور
لأن أزهارك اللوتس هى التى علمتهم صناعة العطور
و بفضلك عرف الصناع كل فنون بتاح
و من أعواد البردى التى نبتت فى مستنقعاتك صنعت أوراق البردى
وصارت كتبا تدون فيها حكمتك
و يبقى مجيئك سرا غامضا لا يعلمه أحد.
وبعد أكثر من 25 معرضا قدمها منفردا أو مشاركا لكبار الفنانين التشكيليين، يعود نوح من جديد محلقا بمعرضه (حابى الحياة)، ليتمرد على المعتاد والمألوف ويطرق أبوابا جديدة، بعد ما امتلك شجاعة التجريب عبر مسيرتة الفنية الطويلة، منطلقا إلى التجريد وإلى عالم أكثر رحابة اختار الفنان التشكيلي المبدع (حابي) إله النيل لدى القدماء المصريين، ليعكس فى لوحاته عبر تكوينات متباينة وبفرشاة متمردة، كل معانى الخير والنماء والحياة ذاتها التي تسطع في سمائها شمس مصر الدافئة، منطلقا من أن النيل حياة المصريين، وهو ما بدا واضحا في عدد من اللوحات التي تعكس طبيعة عيش المصريين على صفحة مياهه العذبة أو بين ضفتين تكتسيان بخضرة يافعة مستمدة من جريان هذا النهر الخالد.
(نوح)، هو أحد أهم الفنانين التشكيليين في مصر والمبدعين الذي عاش وتربى في أسرة فنية، فهو شقيق الموسيقار الفنان الراحل محمد نوح، ويمتلك مسيرة فنية متميزة زاخرة بالعديد من الأعمال الفنية، فهو خريج كلية الفنون جامعة حلوان، وعضو عامل بنقابة التشكيليين وعمل بمجال هندسة الديكور والتصميم وإدارة شركة النهار للإنتاج الفنى والتوزيع واستديوهات الصوت في الثمانينيات حتى أواخر التسعينيات بإدارة وحدة تصوير الفيديو، وشارك في العزف الموسيقي مع الأوكسترا السيمفونى والكونسرفتوار وفرقة النهار، كما شارك في تنفيذ إنتاج أعمال مسرحية وتلفزيونية، منها (ثمن الخوف) لنور الشريف، و(بنت من شبرا) لـ ليلى علوى، ومسلسل (سحابة من الماضى) لـ خالد زكى، والفيلم التلفزيونى (الحياة على طريقة فلفل) لـ أحمد بدير وهالة فاخر، و(عقد الياسمين) لـ صلاح ذوالفقار وأمينة رزق وصفاء السبع إخراج يوسف فرنسيس، وفيلم تليفزيونى آخر هو (الأستاذ والهلفوت) جميل راتب والمنتصر بالله إخراج رضا النجار، و(كذبة لونها وردى) ليلى طاهر ووائل نور.
تميزت لوحات (حسين نوح) في معرض (حابي .. الحياة) بالمصرية الشديدة، انطلاقا من أن فكرة المعرض مبنية على ارتباط النيل بحياة المصريين، فيمثل النيل شريان الحياة عند المصريين القدماء ولا يزال على العهد مع شعبها على مر الأزمنة، ولكن اختلفت مكانته كثيراً عند أجدادنا قدماء المصرييين الذين قدسوه، وأولوه احتراما عقائديا؛ لأنه ينجيهم من المهالك، وأطلقوا عليه عددا من التسميات أبرزها (حعبي) أو (حابي) وهو الاسم المقدس، الذي يفيض عليهم فيعم السرور في أراضيهم، وتفزع القلوب لتأخره خوفا من الدمار في اعتقادهم.
والمعرض يمثل خطوة تقدمية في مسيرة حسين نوح الإبداعية والتي تعزف على التراث المصري وجوهر الشخصية والهوية المصرية، وتستلهم ريشته حكايات الأم الفلاحة وطين الأرض وأساطير القصص السحرية عند الساقية ونول النسيج وخيوط الشمس في غروب الحقول، حيث يقفز بك إلى تجربة حداثية في الشكل والألوان والأسلوب فرغلي التجريد أو التجريب على إبداعه الجديد، من خلال 40 لوحة استخدم فيها الفنان تقنيات متنوعة ما بين التصوير الزيتي والمائي على التوال والخشب والسجاد، وتوشي رمزية خطوطه بتحد وتمرد أعمق ولكنه هنا يتخذ من التراث الفرعوني ملهما، وبتجسد ذلك في لوحة (حابي الحياة) التي اعتبرها شعار وعنوان معرضه، وهو ما يريد أن يوقع بها رسالته متماهيا مع الواقع الحالي، فنهر النيل ليس مجرد شريان الحياة المصريين بل هو دم المصريين وشرفهم واصل وجودهم في الحياة.
وفي النهاية أستطيع القول أن الفنان الكبير (حسين) قدم لنا وجبة فنية بصرية وجمالية ثرية، لكنه يصرخ في الوقت ذاته برسالة وبوصلة طريق تؤكد أن الفنان الواعي سلاح لوطنه ومجتمعه، وهو مااعتاد أن يمارسه حسين نوح المبدع والمفكر الوطني في كل مسيرته، فهو فنان شامل حيث يعزف على آلة الدرامز وعمل منتجا ومخرجا لأعمال غنائية ودرامية كما طرق مجال الأدب وألف روايتين ومسرحية ويقيم صالونا ثقافيا يرتاده كبار المثقفين في مصر.