الرئيس يكرم الفن.. ومسؤولون يعرقلون !
بقلم : محمود حسونة
محظوظون الفنانون المصريون بالرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي لا يترك فرصة إلا ويعبر خلالها بالأفعال والأقوال احترامه للفن وتقديره لأهله الذين تجنت عل البعض منهم بعض فئات مريضة وحاولت النيل منهم ومن أعمالهم وسلوكهم وبذلت الغالي والنفيس في سبيل تحريض الناس ضدهم.
والغريب أن بعض المسؤولين لا يبصرون ما يبصره الرئيس من أهمية للفن في مواجهة الأمراض الاجتماعية المزمنة التي تعاني منها مجتمعاتنا، ومن تحقيق الإصلاح الفكري والتغيير السلوكي والاجتماعي المنشود، فبعد ساعات من مداخلة الرئيس مع برنامج (صالة التحرير) على قناة صدى البلد، للثناء على الفن ودوره من خلال السيناريست المبدع عبدالرحيم كمال، ومطالبة كمال وزملائه بالمزيد في معركة الوعي التي تخوضها الدولة ضد المتلاعبين بعقول أبنائنا وبناتنا، فوجئ الفنانون بقرار محافظ القاهرة بفرض رسوم قدرها 15 ألف جنيه لكل ساعة تصوير سينمائي أو درامي في شوارع القاهرة، و 100 ألف جنيه عن اليوم الكامل، وهو ما أثار غضب الفنانين والمبدعين والمدركين لقيمة الفن ودوره الحيوي في حياة الناس وأهميته كسلاح داعم للدولة ضد الفكر الظلامي، وهدد الفنانون بمقاطعة التصوير في الشوارع وهو ما أعلنه بلا لبس الدكتور أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية باسم جموع الفنانين.
بعض الناس لا يعرفون للفن قيمةً، ويحلمون دائماً بمن يضع في طريقه العراقيل، ويعيقه عن أداء رسالته الفاضحة للسلبيات، وهذا أمر موجود عندنا وعند غيرنا، ولكن حين يكون الشخص في موقع مسؤولية فهذا هو ما نخشى عواقبه، إذ ينبغي على كل من يجلس في موقع مسؤولية أن يكون مدركاً لقيمة الفن عبر التاريخ المصري، حيث كان من أهم أدواتنا الناعمة التي ميّزتنا عن غيرنا، وجعلت بلادنا قبلة للمبدعين من مختلف الأقطار العربية؛ فإلى الفن يعود الفضل في انتشار لهجتنا بين الشعوب الشقيقة، وإليه الفضل في معرفة أشقائنا بجغرافية بلادنا وتاريخنا السياسي وعمقنا الحضاري وتقسيماتنا الاجتماعية.
بفضل الفن يتعرف القاصي والداني على أهم ميادين القاهرة والأسكندرية وغيرهما، بل أنه كان محفزاً للسياح العرب على القدوم إلى بلادنا وزيارة أماكن بعينها دارت فيها أحداث أفلام ومسلسلات، ويكفي أن (شاطئ الغرام) في مرسى مطروح مازال مقصداً للكثير من السائحين بفضل فيلم ليلى مراد وحسين صدقي، وهذا مجرد مثال من أمثلة عدة لا يتسع المجال لسردها.
بعد يومين من نشر القرار الغريب، نشرت مواقع نقلاً عن مصادر لم تسمها أنباءً عن التراجع عن القرار، وبصرف النظر عن مدى صحة ذلك من عدمه، فإن قراراً كهذا، يذكرنا بما تقدمه تركيا من تسهيلات للتصوير في مواقع الحيوية، كوسيلة للترويج السياحي وهو الأمر الذي آتى أكله، إذ يكفي أعداد السياح العرب الذين زاروا هذه الدولة وعيونهم على القصر الذي تم فيه تصوير أحداث (حريم السلطان) والشوارع التي تم فيها تصوير مشاهد بعض المسلسلات التي عرضت عربياً ولاقت إقبالاً جماهيرياً.
المغرب، حكاية أخرى في هذا المجال، فالتسهيلات لا تمنح فقط لتصوير الأعمال الفنية المحلية هناك، ولكنها تمنح أيضاً للأفلام الهوليودية والأوروبية، وهو ما كان سبباً في شهرة الكثير من مواقعها عالمياً، ومعرفة الناس من أطراف الدنيا الأربع بمدن ورزازات وأغادير وكازابلانكا وطنجة بجانب مراكش، وقد احتفلت المغرب العام قبل الماضي بمرور 100 سنة على تصوير أول فيلم عالمي بها وهو فيلم (مكتوب) الذي أخرجه جي بينشون عام 1919 واستُلهمت فكرته من (تاريخ وأعراف المغرب)، رغم أنهم يختلفون حول المدينة التي تم تصويره فيها، بعضهم يقول طنجة والبعض يدعي أنها مراكش والبعض الثالث يؤكد أنها الدار البيضاء.
ليس مطلوباً من مسؤولينا سوى السير على هدي الرئيس عبد الفتاح السيسي، فهو الأكثر إدراكاً لأهمية الفن وإيماناً بدوره الحيوي، وهو أمر لم يستحدثه بعد أن تولى زمام المسؤولية، فعندما كان مرشحاً رئاسياً اعتبر أن الفن له دور كبير جدًا في تحسين الحالة التي نعيشها، وشدد في لقائه وفدًا يضم من الفنانين، على أن الفن والثقافة والوعي هي حائط الصد أمام التطرف والتشدد، وعندما يتراجع دور الفن تظهر دائمًا مشكلات عدة.
هكذا كان رأيه عندما كان مرشحاً، وهو لم يكن مجرد كلام للاستهلاك ووسيلة للاقناع بل هو بالنسبة له نهج حياة، حيث تطابقت أفعاله بعد تحمل المسؤولية، مع أقواله، اتصل بفنانين مرضى للاطمئنان عليهم ووجه بتقديم أفضل رعاية طبية لهم، ولم يقتصر اهتمامه بنجوم الصف الأول فقط، ولكن بكل فنان تعرض لمحنة حتى لو كانت شهرته محدودة، وهو الذي كرم الفنان الراحل سمير غانم بإطلاق اسمه على أحد الكباري الرئيسية شأنه في ذلك شأن قادة القوات المسلحة والشخصيات العامة التي أفنت حياتها خدمة وإخلاصاً لهذا الوطن، وكان آخر أفعال التكريم اتصاله ببرنامج (صالة التحرير) ليثني على المؤلف عبد الرحيم كمال في كلامه عن تجديد الخطاب الروحي ودعوته له ولغيره لترجمة ذلك إلى أعمال تعيد صياغة الوعي الجماهيري متعهداً بتقديم كل الدعم له ولهم.
إنه منتهى التكريم للفن، ومنتهى الثقة في صناعه، ومنتهى الأمل في أن يلعب الدور المفترض في تحرير العقل المصري مما علق به من أتربة وغبار فكري على مر عصور مضت، ومنتهى الذكاء في وضع الكرة في ملعب المبدعين ليتحرروا من القيود التي فرضوها على أنفسهم ويحرروا الجمهور من الأفكار البالية التي استمتع بالعيش أسيراً لها.
نتمنى أن يدرك كل مسؤول من موقعه أهمية دور الفن وتأثيره على المجتمع، ويكفي أن نجد دعماً صريحاً ومباشراً من الرئيس للفن والإبداع كي نمشي جميعاً في نفس الاتجاه ونستفيد من هذه الفرصة، والمفروض أن تُفتح الأبواب لتسهيل عبور الفكر من الأقلام والأوراق إلى الصناعة فالشاشات ليتلقفها الجمهور بكل ترحاب وإعجاب، هنا تعم الفائدة أكثر وأكبر بكثير من فائدة رسوم مبالغ فيها تحجم الفن في إطار عدّاد يحسب الإبداع بالوقت ويعد الفلوس التي تدخل الخزنة.