رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

سمير (المصريين) غانم .. المادة الخام للفكاهة المصرية

كرمة سامي

بقلم : د. كرمة سامي

(هناك نجم كوميدي اسمه سمير غانم مازالت أفلامنا تعجز عن استغلال قدراته الحقيقية.)

(سامي السلاموني “بنت اسمها محمود” مجلة الإذاعة 24/5/1975)

(الشيء الوحيد الذي يمكن احتماله هو سمير غانم الذي يبعث الضحكات كعادته

 في جسد ميت وبموهبته الخاصة المجردة.)

(سامي السلاموني – عندما يسقط الجسد – الإذاعة 19/2/1977)

سمير المصريين هو ثاني ظاهرة إنسانية ذات طابع مهني جماهيري تأسر قلوب المصريين بعد نديمهم في ثورة عرابي. دخل بيوتنا وسكن قلوبنا لفترة تزيد عن نصف قرن بصفته الشخصية وعلى المسرح والشاشتين الصغيرة والكبيرة والميكروفون. هو (سمير وسمورة وفطوطة ومسعودي وميزو وچوليو وقبطان عزالدين الحسيني)، لكنه قبل كل هؤلاء الممثل الرسمي لشخصية: درش.. المواطن المصري خفيف الظل الذي  – حرفيا – يضحك طوب الأرض.

نجم كبير مبدأه لا غرور في الفن، وشعاره كما صرح في لقاء مع الإعلامي وائل الإبراشي: (ارحموا من في الصالة يرحمكم من في السماء)، استحق لقب نجومية الأداء بعيدا عن حجم الدور، وعلمنا وعلم الأجيال الفنية أن قيمة الدور بمؤديه وليس بعدد كلماته وأسطره. الموهبة هى التى صنعت منه بطلا في أعمال لم يستنكف أن يشارك فيها رغم علمه أنه على (الورق) ليس البطل، لكن الجمهور المصري توجه بطلا ونجما لا مثيل له في مجال الكوميديا ولهذا تربطه بجمهوره علاقة من نوع خاص ظهرت جلية فور تعرضه لأزمته الصحية الأخيرة ورحيله إلى دار الحق.

اتفق النقاد المتخصصون والشعبيون أنه جمع بين فنون الكوميديا على تنوعها وخرج بأسلوب انتقائي يحمل اسمه وعلامته المميزة: سمير غانم. ولهذا تفاعل المصريون مع خبر رحيل سمير غانم بعاطفة تليق بمكانته، وفق اتفاق بين القلوب أقيم له تأبين يليق بموهبته، لم يكن وداعا وانما احتفاء بموهبة نادرة وكشفا لطبيعة نجومية سمير غانم وحجمها رغم ابتعاده النبيل عن المقارنات، فلم يتظاهر بتبني أيديولوجيا، أو تأسيس مدرسة فنية، أو استجداء جماهيرية، أو التظاهر بفلسفة وإنما تطبيقا لمبدأ نبيل في بساطته لإمتاع المشاهد المصري والعربي في نفس الوقت الذي يستمتع فيه الفنان بما يؤديه. يحب عمله ويستمر في أدائه حتى نهاية الرحلة، مخلصا لرسالته دون الإعلان عنها.

ولهذا فإن سمير غانم موهبة فريدة تشبه في ثرائها موهبة الممثل الإنجليزي (بيتر سيلرز) وتتجاوزها، فنَّد سمير غانم، علميا دون تنظير، ظاهرة تجهم الممثل الكوميدي وحرصه على إبراز الجانب الجاد من شخصيته الجماهيرية، لم تعن صورة النجم أمام جمهوره شيئا لسمير غانم الذي خرج من مستطيل جهاز التليفزيون ليجلس بين أفراد الأسرة المصرية متربعا على كنبة الصالة يضاحكهم فيما يحتسي كوبا من الشاي بالنعناع، وينادوه باسم (الدلع: سمورة)، منضما إلي نادي عظماء الفن: ثومة (أم كلثوم) وسُمعة (إسماعيل ياسين).

هى محبة وضعها الله في قلوب الجمهور أنقذته، ومعها موهبته، من مستنقع أفلام المقاولات التي لم يخجل منها، بل كان أولى بالخجل كتاب السينما ومخرجيها ومنتجيها الذين لم يعرضوا على سمير غانم أدوارًا تضاف لتاريخ السينما، ورغم ذلك استمر سمير غانم في عطائه معتمدا على معين لا ينضب من خفة الظل المصرية الفطرية التي وضعته على القمة وحفظت له مكانا مرموقا يليق به عليها.

دون دراسة فنية أكاديمية أو توجيه من أساتذة أو تعاون مع كتاب أو مخرجين بعينهم، خرجت موهبة سمير غانم ونمت وفاضت، هكذا، على باب الله، ليصبح التجسيد العملي لتعبير (يوقعك من الضحك)، وهي مهارة تمكن منها مع اختلاف الوسائط متصدرا مشهدا مسرحيا أو مشاركا في إعلان شركة اتصالات!

جعل من الخروج على النص نصا موازيا

جعل سمير غانم من الخروج على النص نصا رئيسا.. فيحيرك بالسؤال: هل يوجد مؤلف معتمد لهذا النص؟ بالطبع السمات الأسلوبية الغالبة على الأعمال التي شارك فيها سمير غانم بعيدا عن حجم الدور تؤكد أن المؤلف هو المؤدي نفسه، فكانت هذه هي طبيعة التلقي التعاقدي الغريزي بين الفنان وجمهوره إذ ربطت بين سمير وجمهوره علاقة محبة عبر أكثر من نصف قرن أصبح فيها سمير غانم مؤسسا لمدرسة موازية لمدرسة العملاق عبدالمنعم مدبولي. ولكنها مدرسة حرة في الهواء الطلق دون أسوار أو أجراس، يتلقى فيها الجمهور إفيهات كوميدية عالية المستوى من نوعية: (يو سبيك لندن؟)، و(مطار بني سواڤيا) فيضحك المتفرج للمباغتة الكوميدية ويجد نفسه أسيرا لها وتلميذا نجيبا للمعلم الكوميدي.

أهلته عناصر مثل اعتدال القامة والقوام وتناسق الملامح لدور الكوميديان (الچان) وقتما يشاء دون أن يلجأ لحيلة أي ممثل كوميدي في انتزاع الضحكات استغلالا لنقيصة ظاهرة في البدن. وتتابعت أدواره تضحكنا من القلب دون أن نتأمل فلسفة الضحك الخفية التى اعتمدها سمير بشكل فطري دون فزلكة وكأنه دَرَس مسرح العبث بكافة روافده الأوروبية والإنجليزية والأمريكية، مطلقا من بين يديه كوميديا جديدة تطبق تعريف الناقد مارتِن إسلن لمسرح العبث (منطق ماوراء اللا المنطق).

هل يمكن أن يكون سمير غانم خرج من كواليس مسرحيات (صمويل بيكيت) وانطلق هاربا من صحبة (ڤلاديمير واستراجون) مواجها عبث الواقع بـ (فكاهة المقاومة)؟. لا يخفى على متفرج فَطِن التشابه الحزين بين سمير غانم وبيتر سلرز (المؤدي العبثي الكبير)، وسر الحزن أن التشابه في نوع الموهبة تمثل في نواح أدائية شتى أبرزها تميز المؤدي في التحكم في أدواته التعبيرية في نبرات الصوت، وقسمات الوجه وحركات الجسد، والتنقل السريع بين الحالات المزاجية.

لكن سمير لم يتوفر له السياق الثقافي الذي توفر لبيتر سلرز أعظم كوميديان في الغرب، ولم يُخرج له (هال آشبي أو بليك إدواردز أو ستانلي كيوبريك)، ولم يُرشح لجائزة أوسكار، ولم يفز بجولدن جلوب، لكنه كان سمير المصريين، سميرنا، خرج من بيننا ليعبر عنا، ويعلمنا فن الضحك، ويحلق بنا في آفاق الكوميديا والضحك والفكاهة حتى لا يضحكنا (أعتى) المضحكين لأننا أبناء معايير سمير غانم في الضحك، ومن يضحكه سمير غانم لن يرضى بمن هو دونه.

اتجه سمير غانم بأدائه نحو أسلوب طفولي فكاهي عبثي ينتقل سريعا من سياق إلى سياق آخر مصاحبا بتغير وضع جسد المؤدي ونبرات صوته وملامح وجهه، ومزاجه النفسي.. كل هذا لم يشفع لسمير غانم الذي لم يكتب له بديع خيري مثلا أو أبو السعود الابياري أو وحيد حامد أو أخرج له فطين عبدالوهاب! وتخيلوا لو كان استمر التعاون بينه ولينين الرملي وعمر عبد العزيز، ولو اتسعت مساحة الأدوار الإنسانية من خلال مواقف كوميدية ورُفع عن الكوميديان العبقري عبء إضحاك الجمهور ليكشف لنا عن جوانب خفية من موهبته!!

لهذا تسبب سمير غانم لي في (أزمة وعي) منذ أن شاهدت في طفولتى مسرحية (موسيقى في الحي الشرقي) عبر التليفزيون، ثم تفاقمت الأزمة مع مشاهدتي مسرحية (المتزوجون) في المسرح وأنا في العاشرة لأتأمل طريقة دخوله خشبة المسرح وتصاعد أنفاس الجمهور انتظارا له ليبهجهم. كان الأثر الذي يتركه سمير غانم بعد موجات الضحك هو بناء الكوميديا الذى شيده بسلاسة على المسرح في ثوان في تعبيرات متناقضة غير مترابطة، تتوالى سريعة وتكاد تقترب من حافة العبث ثم تعود إلى استكانتها فجأة، لتستأنف انفجاراتها مرة أخرى وهكذا!

أدرك الآن أن مشاهدة سمير غانم على المسرح في سن مبكرة كانت سببا في حبي للفن المسرحي ولطبيعة بناء الموقف الكوميدي التي أحرص على تدريسها لطلابي في مقرر الدراما لنقوم بتحليل مشاهده وجزيئاتها، هكذا اكتشفت علاقة كوميديا سمير غانم الفطرية بالمحبظاتية والسمَّاجة، وبمسرح (العصر الإليزابيثي)، ومسرح إعادة الملكية!. يكفيه أن يذكر اسم المطرب “عبدالحفيظ حالم” أو فيلم “سَلِت ڤوري” Love story أو ينادي  على الطالب المصري المغترب (يا عبدالمعطي آلووو) بصوت مستعار، أو يحاول إقناعنا بالعلاقة بين (شيخ البلد خلف ولد) و(سترينچرز إن ذا نايت)!.

عبر أكثر من نصف قرن دَرَّب سمير غانم جمهوره على نوع جديد من الفكاهة، وفرض على الجمهور احترام أسلوبه، وتدريجيا دخلت تعبيراته الضاحكة في اللغة الدارجة وإعادة تشكيل وعي الجمهور بقيمة الكوميديا الأخلاقية الوجودية، وربما كان سمير غانم سببا في الحفاظ على خفة ظل الشعب المصري بل والارتقاء بقيمتها النوعية.

يلعب سمير دور صديق البطل، مساعده أو جاره، دور لم تره الشمس.. ولم يضع كاتب السيناريو يده فيه، وغالبا كتب اسم سمير غانم على كل سطر حوار واثقا أن سمورة سيقوم باللازم وينقذ الفيلم، المهم أن سمير فعلا ينقذ العمل، ويكفيك أن تتخيل ممثلا آخر يقوم بالدور في العمل الفني لتعرف ما أقصده!

لن أثقل على القاريء المبتسم الحزين – مثلي – بمصطلحات في التحليل المسرحي تصف تفاصيل إفيهات سمير غانم، ولكن يكفي أن نسترجع لمحات من مسيرة كوميديان عبقري ترك لنا إرثا قيما من (الفمتوكوميديا) التي اخترعها، وتستحق أن تدرس طبيعتها الفطرية وقدرتها على التطور بنجاح والتكيف مع تحولات جزيئات المشهد الدرامي السريعة.

فيلم (الزواج على الطريقة الحديثة)

وهل ننسى مشهد مباراة الشاطيء من (الزواج على الطريقة الحديثة – 1968) إخراج صلاح كريم أداء سمير غانم الفذ في دور المعلق على أحداث الماتش حاملا كبشة في يده بديلا للميكروفون وتكراره الطريف لجملة: (أنا قريت في مجلة علمية)،  ثم المفاجأة الأدائية عند إعلانه الاستراحة عندما يتحول صوتيا إلى بائع الأطعمة والمشروبات في المدرجات؟

بكيزة وزغلول الحلقة الرابعة عشرة والأخيرة (1987) وظهور مفاجيء ل سمير غانم في دور عفت محمد العشماوي الذي تهلل له الجمهور ظنا أنها بداية الجزء الثاني من مسلسل جماهيري كبير

الأمثلة كثيرة من الأفلام التى (اختطفها) سمير غانم من أبطالها متبعا سياسة (الفمتوكوميديا) الماكرة، فرسكة مرتجلة في مشهد ليس له قيمة درامية، لكن سمير يحول (فسيخه إلى شراب ورد) ليسرق من الأبطال الرسميين الحضور المشهدي رغم نجوميتهم وأود طلتهم السينمائية: (صغيرة على الحب – 1966) لـ نيازي مصطفى وأبو السعود الابياري، و(أضواء المدينة – 1972) لـ فطين عبدالوهاب وعلي الزرقاني، و(خللي بالك من زوزو – 1972) لـ حسن الإمام وصلاح چاهين،  و(أميرة حبي أنا – 1975) لـ حسن الإمام وصلاح جاهين، وبالطبع (عالم عيال عيال – 1976) لـ محمد عبدالعزيز ويوسف عوف.

أميرة حبي أنا
خللى بالك من زوزو
يا رجل امسك انت صاحب عيال، الله يكون في عونك، أنا قلت لأبويا مايدخلنيش كلية الطب!فيلم (عالم عيال عيال)

بفكاهة راكب الأتوبيس، وسائق التاكسي، والموظف الغلبان جعل سمير غانم من الفرسكة فنا يحترم، تمكن من كل أدواته ولم يقصر في رسالته وتحكم تحكما دقيقا في نبرات صوته، وفي تعبيرات وجهه، وحركات يديه، وأوضاع جسمه، وسخرها لابهاج المتفرج، ولهاذا ستظل أعمال سمير غانم غيمة تظلل علينا في موجات الحر في أي يوم من أيام واقعنا المر.

ولا أقصد بما كتبته تقديرا لموهبة سمير غانم الانتقاص من أي كوميديان في مصر عبر تاريخها، فكل منهم اجتهد وأجاد وأضحكنا، ولكن يقف سمير غانم خارج الصف بعطاء فني سَمْح غير مشروط حبا في الفن والفكاهة والجمهور، وهذه حقيقة.

أطلق رحيل سمير غانم فيضا من طاقات التحليل النقدي الشعبية على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتابعت منشورات جماهيره عبر الوسائط المتعددة بالصوت والصورة لتحليل جوانب موهبته الفنية بانبهار محب وفخر، والبحث في أرشيفه الثري ليذكر كل منا الآخرين تاريخنا الشخصي والجمعي من الضحكات والابتسامات التي كان سمير غانم سببا فيها بل والدها الروحي.

تسأل كيف اكتشف سمير غانم (الفمتوكوميديا)؟

وأين تعلم كل هذه الحيل في فن الإضحاك وهو خريج كلية الزراعة؟

تذكر بساطة الحقيقة في عبارة صلاح چاهين على لسان محمود عبدالعزيز في فيلم (المتوحشة):

عمر الزهور ما حد علمها فن الألوان

دي لوحدها هى ..

 سحر أنا بجمالها الفتان.

 سمير غانم هو الغيمة التي حمتنا من قيظ أيامنا، نعمة من الرحمن، وهدية من هدايا مصر للعالم، رحمه الله وقد رحل وقد ترك لنا إرثا من الفكاهة البريئة، وهديتين تحملان اسمه وعبق فنه: (دنيا وإيمي) .. رحمة ونورا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.