فى الذكرى الـ 60 لـ (إسماعيل الحبروك) نكشف: الأغنية التى اضطهدتها الإذاعة وأنصفتها سوريا !
كتب : أحمد السماحي
36 ربيعا فقط هى التى عاشها شاعرنا المبدع الرقيق (إسماعيل الحبروك) الذي نحيي خلال الأيام القليلة القادمة، وبالتحديد يوم 16 مارس الذكرى الستين لرحيل هذا الشاعر المرهف الحس صاحب أشهر الأغنيات العاطفية والوطنية التى ما زالت تتردد حتى اليوم منها (بتسأل ليه عليا، تخونوه، أول مرة تحب يا قلبي، مشغول وحياتك مشغول، كل شيئ راح وانقضي، أسمر يا أسمراني،أمانة ما تسهرني يا بكره، أوعى تكون بتحب يا يا قلبي، يا فايتني في حيرة مشغول البال، يا واد يا سمارة، الحب الأولاني، عينيا مهما قالوا عنك، تصبح على خير يا حبيبي)، وفى الغناء الوطني (يا أغلى اسم في الوجود، أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد، يا جمال يا حبيب الملايين) وغيرها من الروائع التى قدمها.
ولم يقتصر إبداعه على الشعر فقط فقد كان روائيا وأديبا كبيرا، كتب أكثر من قصة ورواية، وفاز بجائزة القصة فى إذاعة لندن عام 1949 وحصل على جائزة الدولة عن أحسن مجموعة أغان وطنية عام 1956.
اليوم سنتوقف مع صوت (إسماعيل الحبروك) نفسه الذي سيحكي لنا عن واحدة من أشهر أغنياته الوطنية التى قدمها عام 1951 وهى بعنوان (صفر يا وابور)، حيث كتب مقال في مجلة (الكواكب) في 11 نوفمبر عام 1952 تحدث فيها عن ظروف ولادة هذه الأغنية فقال:
كنت في طريقي إلى الإسماعيلية، ويومئذ كان ميدان القتال الذي افتتحه الفدائيون المصريون عقب إلغاء المعاهدة، ويومها وجدتني أترنم بمطلع أغنية لم ألبث أن أكملته وهو :
(صفر يا وابور واجري شوية
وصلني قوام الإسماعيلية
عاوز أوفى الندر اللي عليه).
ولم أزد حرفا على المطلع، بل نسيت الأغنية تحت وابل من الرصاص الذى استقبلتني به المدينة المجاهدة، كصحفي جاء ينشد الأخبار فقد وصلت ليلة أكبر معركة شهدتها الإسماعيلية بين جنود بلوكات النظام والجنود الإنجليز، وقد خرج فيها بلوكات النظام والجنود عن تعليمات القاهرة المدللة وانقلبوا إلى وحوش يدافعون ببسالة عن أرض الوطن.
وعدت إلى القاهرة بعد ان انهيت مهمتي الصحفية، وهدأت الحالة، وزارني على غير موعد صديقي الموسيقار المعروف (أحمد صدقي)، ولم أكن في مكتبي عندما دلف إليه، وأخذ يعبث بما عليه من أوراق وما أكثرها، المهم أنني عدت بعد قليل إلى حجرتي فوجدته يترنم بلحن، وأشار لي بالجلوس دون أن أصافحه أو أحييه، وبعد دقائق قليلة اسمعني مطلع أغنية (صفر يا وابور) كما لحنه، فقد عثر على الورقة التى كتبت فيها المطلع، ولم ينتظر أن يستأذن، أو يسأل، بل بادر من فوره فلحن المطلع وسألني عن البقية، فقلت لم أكتب غير المطلع.
وهنا قال لي: (أنا في عرضك هل يرضيك أن تمر هذه المناسبة دون أن أخرج أغنية واحدة، وهذه هي الكلمات التى أطمع فى تلحينها في عرضك كملها)، وبعد ساعة سلمت لصديقي (أحمد صدقي) بقية الأغنية، وفي المساء تقابلنا واسمعني اللحن كله، وكان معنا الدكتور (عبدالله العريان) المدرس بكلية الحقوق، وهو موسيقي هاو من أحسن الهواه، واستمعنا للحن، وبعد مرة واحدة صرنا نردده مع (أحمد صدقي)، وقال الدكتور العريان : أني أرشح هذه الأغنية لتكون أغنية معركة الإسماعيلية، وسوف نعترف دائما بالمعركة التى تجري هناك.
وبقى أن نقصد الإذاعة، وطرقت باب الإذاعة وحدد لها تاريخ لتمر من لجنة مراقبة الأغاني، ولم تمر بسهولة بل استغرق مرورها اسبوعا كاملا رغم أن أغلب أعضاء اللجنة أبدوا إعجابهم بالأغنية، وقال لي مسئول فى الإذاعة: (لازم ناخدها مختارات)، ووافقت طبعا لأني فهمت من لفظ المختارات أنها ستكون أغنية محظية، وحمدت الله على ذلك، ولكن المسئول نفسه قال لي: (راح نديها لعبدالوهاب) فقلت له: لقد لحنها (أحمد صدقي)، وحفظها (عباس البليدي)، فقال وهو معتدل في جلسته: (دي مشكلة، أحمد صدقي فيه خلاف بين الاذاعة وبينه على الأجر) فرددت عليه: (أنا وأحمد صدقي) متبرعين بثمن الأغنية، وأجر اللحن للفدائيين في الإسماعيلية، وعاد يقول وهو ينفث دخان سيجارته: (ده تعقيد كبير للمسألة، راح ندي لأحمد صدقي كام؟).
وتركت هذا المسئول يفكر في أجر (أحمد صدقي)، وذهبت إلى مسئول أكبر فقال لي: (مفيش مانع)، واتصل بالمسئولين عن التسجيل لتحديد موعد لتسجيل الأغنية، وتحدد بعد أسبوعين لأن الفرقة الموسيقية ــ وأنا لي رأي يشاركني فيه الجميع فى هذه الفرقة التى تمثل أصدق تمثيل لتكايا الحكومة وتنابلة السلطان ــ كانت مشغولة بلا شيئ على الإطلاق !!، وفى أول اجتماع لم تكتمل الفرقة، وتأجل التسجيل، وفي ثاني اجتماع تم تسجيل الأغنية.
استغرقت الأغنية ساعة في وضعها، وثلاث ساعات في تلحينها، وشهرا كاملا في تسجيلها، وبقيت إذاعتها، وسافرت إلى الإسماعيلية مرة أخرى، وبدأت الإسماعيلية تحتل عناوين الصحف اليومية 1951، إذ بدأت المعارك تشتد فيها، وبدأت الهجمات تتوالى مع المدينة الباسلة، فلم تكن تنقضي ليلة دون أن يحدث اشتباك مسلح بين دبابات القوات البريطانية وبين الأهالي.
وطلبت مسئولا كبيرا في الإذاعة، وقلت هل تسمع هذه الطلقات النارية؟ فقال لي: (أيوه أنت بتتكلم منين؟) فقلت له: من الإسماعيلية، عندكم أغنية عن الإسماعيلية، والراديو في البلد المحاربة عمال يذيع (جفنة علم الغزل)!، ما تدوروا أغنية الإسماعيلية؟! فقال لي: (طيب راح أشوف المسألة دي دلوقت حالا، واطلبني بعد شوية)، وطلبته مرة أخرى بعد نصف ساعة فقال لي: (خلاص كلمتهم وحطوها على البرنامج يوم 8 الشهر القادم)، وألقيت السماعة من يدي، فقد كنا يوم 22 فبراير، أي على أن أنتظر أسبوعين!!.
واستطعت بأصدقائي أن أقدم موعد إذاعة الأغنية أياما على أن تذاع عقب النشرة المالية والتجارية ونشرة مصلحة الطبيعيات، وأذيعت الأغنية ست مرات أو سبعا، ثم أوقفت، واعتقلت عندما اعتقل الفدائيون!، فهل ماتت الأغنية؟ لم تمت أخذتها المطربة (نجاح سلام) وأعادت غنائها بصوتها، بعد أن غيرت لها بعض الكلمات، واستبدلنا إسماعيلية بسوريا، وذهبت بها إلى محطة دمشق، وبعد أسبوع أصبحت (صفر يا وابور) هى أغنية الموسم بل هي النشيد القومي السوري، واليوم في سوريا هى أول أغنية تذاع في برنامج ما يطلبه المستمعون، وقد أجرت إحدى الصحف السورية استفتاء عن أغنية الموسم فكانت (صفر يا وابور).