من قتل هاشم الرفاعي .. شاعر الحرية؟!
بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
لو أمهل القدر هاشم الرفاعي لصار أمير الشعر والشعراء قاطبة ) كانت تلك هي كلمات عباس العقاد عندما وصله نبأ مصرع الشاعر الشاب هاشم الرفاعي .. لم يكن غريبا أن تخرج هذه الكلمات من قلم العقاد وهو من هو في حق شاعر قضى نحبه وهو مازال غض الإهاب معطر الجلباب، كان هاشم الرفاعي قبل موته قد بدأ يشق طريقه في دنيا الأدب وعالم الشعر حتى تسنم ذروة الإبداع بلا منازع يبزه من جيله أو من أجيال سبقته.
لله در هذا الشاعر لم أعرف في حياتي قصيدة تتبعها الشعراء وكتبوا على منوالها كقصيدته ( رسالة في ليلة التنفيذ ) فقد أحصى أحد النقاد أكثر من مائتي قصيدة كتبها العشرات من الشعراء بنفس نسق قصيدة الرفاعي السامقة بمعناها ومبناها .. تلك القصيدة التي قال فيها:
أبتاه مـاذا قـد يخط بناني
والحبل والجلاد منتظران
هذا الكتاب إليك من زنزانة
مقرورة صخرية الجدران
لـم تبق إلا لـيلة أحيا بها
وأحس أن ظلامها أكفاني
ستمر ياأبتاه لست أشك
في هذا وتحمل بعدها جثماني
ولكن الغريب أن جماعة الإخوان حاولت أن تسرق هاشم الرفاعي من الوطن، نعم أرادت أن تسرقه من مصر وتنسبه إليها، مع أن هاشم الرفاعي كان شاعر الثورة، ثورة يوليو 1952 ، وكان يكره الإخوان كراهية التحريم، ولكن الإخوان أشاعوا أن قصيدته رسالة في ليلة التنفيذ هي قصيدة للإخوان، مع أنا كانت قصيدة يرثي فيها الشباب الذين قتلوا السير (لي ستاك سردرار) الجيش البريطاني في مصر وقت الاحتلال الانجليزي لمصر، وقد كان هاشم الرفاعي قد قرأ قصة هؤلاء الشباب وتأثر بهم فكتب قصيدته يتصور فيها واحدا من هؤلاء الشباب وهو يكتب رسالة لأبيه، ولم تكن لهذه القصيدة أي علاقة بالإخوان.
ولد هاشم الرفاعي في منتصف مارس من عام 1935 في أنشاص الرمل من محافظة الشرقية، حيث ينتهي نسبه إلى الإمام أبي العباس أحمد الرفاعي الذي أسس الطريقة الرفاعية في القرن السادس الهجري .. وفي أنشاص الرائعة ـ والتي كان من المقادير أن نشأت أنا فيها أيضا حيث تنسمت حدائقها واستغرقتني طبيعتها ـ حيث الخمائل والحدائق وعطر الربيع وسحر المكان وروعة الزمان نشأ الصغير هاشم، حيث درج في بيت علم وفقه زاخر بأمهات الكتب في الأدب والفقه فجمع بين علوم العقول وعلوم القلوب، وعندما شب عن الطوق استلفت نظره ضريح جده الشيخ مصطفى الرفاعي .. وتناهى إلى سمعه من كبار العائلة فضل هذا الرجل وعلمه ودينه فجعله قدوة له يتنسم عبقها.
حفظ الصبي القرآن مبكرا في كُتّاب الشيخ محمد عثمان رحمه الله ـ الذي أخرج من كُتّابه العديد من الأجيال ـ (وقد حباني الله بفضل كبير في طفولتي أن التحقت بهذا الكتاب قبل دخولي للمدرسة وحفظت عنده ما تيسر من القرآن الكريم) وفيه ومن داخل هذا الكُتّاب انفتح وجدان هاشم الرفاعي وعقله على مجالس العلم ومجالس تلاوة القرآن، فشغف بها وأمضى وقته في تتبعها .. وفي طفولته الباكرة ظهر ولهه بالشعر حتى أنه كان يجلس على مصطبة أمام بيته حيث يتجمع حوله أقرانه وهو ينشدهم بعض أبيات فاحت بها قريحته، وفي تلك السن المبكرة كان يصطحب أترابه فيذهبون إلى حدائق الملك في أنشاص الخاصة حيث الجداول والظلال والخمائل والاشجار الباسقة ، وعند الغروب يذهبون لترعة الإسماعيلية يجلسون في وله لمشاهدة مشهد عجائبي من مشاهد الكون حين تغيب الشمس عن الوجود في موكب برونزي تتيه منه العقول .. فإذا قرأت شعره بعد ذلك عرفت على التو أن تلك الطبيعة الساحرة عكست صورها في وجدانه فاتسع أفقه ورحب خياله فكان شعره بعضا من جمال الطبيعة وعبقا من حريتها.
وبعد أن دخل الصغير المدارس الابتدائية سرعان ماتحول إلى الدراسة الدينية، حيث التحق عام 1947 بمعهد الزقازيق الديني .. ومن هذا المعهد كانت أول قصائده المبكرة وهو في السنة الثانية الإبتدائية الأزهرية وكانت عن ( جرح فلسطين ) . وفي عام 1956 تخرج الفتى من معهد الزقازيق الديني حيث شكلت فترة الدراسة معالم شخصيته وأثقلت مواهبه حتى فاق في شعره كبار شعراء عصره .. كان هذا هو شاعر الوطن الذي لم يكن بعيدا عن قضايا أمته وعن تلك اللحظة الوطنية المشبوبة.. لحظة تحول نظام حكم من ملكي إلى جمهوري .. لحظة جلاء احتلال عن بلدنا ، ذلك الاحتلال البغيض الذي امتص من شرايين مصر خيراتها حتى كاد النيل أن يتوقف عن جريانه احتجاجا على تسلط الدولة المستعمرة .. (وكأنه الآن في يومنا هذا يكاد يتوقف عن جريانه احتجاجا على ظلم حكامنا لنا وتسلطهم وطغيانهم وتبعيتهم للاستعمار الحديث ).
كان هاشم الرفاعي قبل الثورة قائدا من قيادات المظاهرات التي تنادي بالجلاء حتى أنه أصيب في إحدى المظاهرات برصاصة طائشة تركت أثرا في أعلى رأسه .. وطنية كأعلى ما تكون الوطنية.. وطنية حفها إيمان .. وإيمان حاطته وطنية .. هكذا تربى وهكذا نشأ .. وبهذه التربية الدينية وتلك المشاعر الوطنية خرجت قصيدته المتفردة رسالة في ليلة التنفيذ .. تلحظ مشاعره الوطنية عندما قال:
الليل من حولي هدوء قاتل
والذكريات تمور في وجداني
ويهدني ألمي فأنشد راحتي
في بضع آيات من القرآن
قد عشت أومن بالإله ولـم أذق
إلا أخـيراً لذة الإيمان
ياله من شاعر تهادى إليه الشعر وكأنما يقدم إليه إقنيما مقدسا من أقانيم الإبداع فتوالت عليه عبقرية بلا انقطاع ، أخرج يراع هاشم الرفاعي المئات من القصائد في كافة المجالات وهو بعد صغير وكتب خمس مسرحيات شعرية منها مسرحيته العبقرية التي طاف فيها حول حياة الشاعر العذري ( عروة بن حزام )، وفي عام 1958 فاز الشاعر الشاب بجائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب، ونال تكريما كبيرا من الرئيس جمال عبد الناصر، ونال أيضا تكريما من كمال الدين حسين وقت أن كان وزيرا للتعليم، وأصبح شعره الوطني في تلك الفترة معبرا عن نبض الجماهير التي استشرفت معاني الوحدة والقومية، ولذلك سرعان ماتبناه ورعى موهبته الأديب الكبيـر يوسف السباعي وأنزله منزلته التي يستحقها.
ومن الغريب أن شاعرنا لم يترك مجالا من مجالات الشعر إلا وكتب فيه حتى أنه طرق مجال الشعر العامي وأصبح عضوا في رابطة الزجالين وقامت مناظرات زجلية طريفة ومبدعة بينه وبين كبير الزجالين بالإسكندرية تناقلتها الصحف وجرى حديثها بين الناس .. ولكن هل يبقى الأمر على حاله ؟، وهل تترك شياطين الإنس جداول الشعر تغذي وجدان أمتها .. سيظل الصراع بين الحق والباطل باقيا ما بقيت الدنيا .
هل تعرفون كيف كانت نهاية هذا الشاعر المدهش حد الغرابة؟. إن نهايته كانت على يد الإخوان!! نعم أيها السادة الكرام، الإخوان هم الذين قتلوا هاشم الرفاعي، وبعد ذلك وفي فترة السبعينيات اتهموا نظام عبد الناصر بأنه القاتل، وكما يقول المثل العربي: (رمتني بدائها وانسلت)، من أسف تمكن الحقد من نفس ابن عم لهاشم الرفاعي كان ينتمي لتنظيم الإخوان، وكان هذا القريب الغادر يطمع في أن يصل إلى مكانة ما فوجد هاشم يبزه ويسبقه، فأعمل الحسد معاوله في نفسه حتى قام هذا الأثيم وحمل سكينا أخفاها في طيات ملابسه وفاجأ شاعرنا وطعنه غيلة وغدرا فسقط مضرجا في دماءه في يوليو من عام 1959 ولم يكن قد وصل إلى الخامسة والعشرين من عمره بعد .. وكأن دمه خط على الأرض أبياتا من قصيدته تعبر عن حاله:
أنا لست أدري هل ستذكر قصتي
أم سوف يعروها دجى النسيان
أو أنني سأكون في تاريخنا
متآمرا أو هـادم الأوثان
كل الذي أدريه أن تجرعي
كأس المذلة ليس في إمكاني.
اضحك او أبكي على قولك قتله ابن عمه؟؟
مش فاهم كلامك
القاتل ليس ابن عم الشاعر بل كان صدقيه فى يوم من الايام