بقلم : محمد حبوشة
ليس في الفجيعة أقسى من الغياب .. و ليس في الغياب أوجع من رحيل من تحب ، ولأن الغياب شكل من أشكال الحضور يغيب البعض وهم يسجلون حضورا طاغيا في أذهاننا أكثر من وقت حضورهم في حياتنا، وعلى حد قول شاعرنا الراحل الكبير محمود دويش: في حضرة الغياب سيدري العابرون إلى قلوبنا كيف هو الجفاء وكيف سيفقد اللقاء رونقُه بعد كل هذا الانتظار، فنحن في الغياب لا نشبهنا، وفي بعض الغياب حضور كثيف، وهناك دائما أشخاص تستطيع أن تحتفظ بهم في قلبك بكل حفاوه رغم مواسم الغياب الطويله لأن حضورهم الأول لم يكن عاديا أبدا.
ومن هنا سيبقى في غياب (وحيد حامد) – الذي شيع إلى مثواه الأخير قبل ساعات – حضورا طاغيا بأعماله الرائعة التي ارتبطت بهموم الإنسان المصري، لقد كان يعرف جدوى حياة مكتظة بالنجاح وهى هناك في موانئ الغياب والهجر والصد، وأدرك في بدايات أعماله السينمائية والدرامية ماجدوى كل هذه الحياة من غير قلب يخفق لانتصاراتك أو يسجل لحظة إخفاقك عبر شفتين ترتجفان فرقا عليك .. أي هزيمة وجدانية نعيشها الآن يا صانع سيناريو البهجة في الحياة المصرية طوال أكثر من نصف قرن من الزمان .. قد لا نفتقدتك لأنك معنا بروحك غائب بجسدك، بعدما بدا ألم الغياب كخيط دقيق مضفور بخيط آخر من الزهو بإبداعك ربما ومن الامتنان لك على تشريحك الدقيق لقضايا الإنسان المصري في أعمالك السينمائية الفريدة، ومسلسلاتك التليفزيونية فائقة الجودة، وحتى مقالتك الكاشفة لزيف الحقيقة المرة في أحايين كثيرة.
ولأن الغياب شكل من أشكال الحضور حيث يغيب البعض وهم حاضرون في أذهاننا أكثر من وقت حضورهم في حياتنا، ففي ساعات الغياب نقيم العزاء على رفات لحظة الحضور ، تماما كما تخمد الريح الشمعة وتزيد اشتعال النار.. ولكن ليس في الغياب أوجع من رحيل من تحب ، إنه الغياب الآتم للنسيان .. فالغياب لا يدعي الصور، والصورة التي صنعتها يا صاحب السيناريو الفاتن على الشاشة وحدها ستربط بين القلب والقلب، ليصير غيابك أبيضا كما هو موت بعيد، ربما يبدو الغياب سارقا للفرح في القلوب لأنه يجعل الروح تحلق وحيدة على أطراف حلم لا ملامح له، بعيداً عن مرافئ الحنان والأمان، وربما أيضاً هو اكتشاف الوجه الآخر الحقيقي لمن تحب.
ولكن لماذا يباغتنا الغياب دوما من باب كان مهيأ للحضور؟، إن الغياب هو أعظم قوة لمن نحب، لأنه يصبغ عليه صفات الجمال والكمال، وكأنه كائن خرافي وأسطوري، فنتوهم في غيابه أن لديه تلك المقدرة على تغيير كل الأشياء والأحاسيس بمجرد حضورهم، ومن هنا فإنه في غياب (الأستاذ) صانع السيناريو الحي للحياة (وحيد حامد) نرى من نحب بصورة أوضح ونحس بمدى أثره وتأثيره بشكل أدق، من خلال أعماله التي عرضت قبل أيام قليلة على الشاشة (اللعب مع الكبار – اضحك الصورة تطلع حلوة)، حيث نكتشف الآن أن في غيابه تكبر محبتنا له وتصغر محبتنا لأنفسنا، وفي غيابه أيضا نقرأ دفاتر الذكريات لوحدنا ونزينها بألوان الحنين الزاهية ونرسم على السطور بعضاً من علامات الاستفهام والتعجب والفواصل التي طرحها في لغة سينمائية بليغة جاءت على لسان أبطاله، لذا نتردد ونحن نضع نقطة في آخر سطر كتبه في حياته بحبر المحبة والحنين.
باختصار: لأننا نخشى أن تكون هذه النقطة الأخيرة هى نقطة الوداع والفراق الأخير، لكنها حدثت يابارع السيناريو، وأكتشفنا أن في غيابك تتسع خارطة الشوق في جغرافية الروح؛ وتضيق مساحة العتاب والخصام، لأننا نعرف جيداً طعم بكاء الأشياء التي يخلفها الغياب، ونرى كيف أن الحزن فيه يصفد أبواب الحلم؟.
في غياب (وحيد حامد) يبقى القلب مشرعاً، بيارق من خوف وأمل ورجاء، تنتظر من يأتي وربما لا يأتي .. في غيابه نرى دوماً الشوق والحنين وجهين لعملة واحدة، الشوق لما هو آتي، والحنين لما مضى، وكلاهما طعمه شديد المرارة والحموضة والملوحة، فكما هو معروف أن الفيلم أو المسلسل الجيد والمتميز لايمكن أن يحقق النجاح إلا إذا كان السيناريو قد بني بطريقة فنية جيدة ورائعة من سماتها: التنسيق والتوليف والتسلسل واحترام التعاقب الزمني والتجديد في المضمون والطرح والهدف، فضلا عن الإبداع في الشكل والتقنية والمنظور، وكل ذلك من أجل إثارة الجمهور وجذب انتباهه البصري والسمعي والذهني، كما أن السيناريو قصة سردية كي تكتب بطريقة مشخصة بالحركات والنقل المرئي البصر فإنها تستلزم كاتبا ومؤلفا من طراز خاص وعى درجة من الوعى الذي يكفل له نجاح التجربة.
وتلك كلها عناصر وصفات توفرت بشكل كبير في السيناريست الكبير (وحيد حامد)، والذي مثل في كتابة السيناريو للسينما والتليفزيون أيقونة إبداع يزداد تألقها مع مرور الزمن، مثلها مثل جوهرة ماس تمنح ألقها أكثر كلما مسّتها بصمات السنين، وعلى الرغم من بلوغه 76 عاما كان ومازال قابضا على جمر الإبداع، ورغم ذلك لم يرتد يوما ثوب الواعظ ولا الخطيب ولا سمسار الأخلاق أو تاجر السياسة، ولم يراهن طوال حياته إلا على الفن والفن فقط، منذ أن حمل مجموعته القصصيه القصيرة الأولى إلى الأديب الكبير يوسف إدريس، محملا بغبار قطار منيا القمح، وأشار إدريس إلى أن الدراما هى قدره وجنته وجحيمه ونوره وناره، يهدى بمصباحها الحيارى.
وإذا كان الكاتب الروائي يمكن أن يكتب الكثير من الصفحات بل ربما مجلدات، فهو غير مقيد بالوقت؛ لأنه حر في كتابته التخييلية، فهو يكتب لقارئ ضمني متفرغ للكتابة، ولكن السيناريست غير حر في هذا فهو مقيد بمدة الشريط ومدة الفيلم أو المسلسل، ومقيد كذلك برغبة المتفرج، إذا لابد أن يراعى السيناريست التوقيت أثناء كتابة الجملة السردية السينمائية أو الدرامية ويكيفها حسب مدة العرض، ولابد أن يراعي وقت المشاهد وغيرها من العناصر الأخرى التي تدخل في إطار صناعة الفيلم أو المسلسل وعليه يضع كاتب السيناريو خطة لفيلمه أو مسلسله الذي يستغرق مدة زمنية معينة، ثم يقسم خطته إلى عدد محدد من اللقطات، وفي الوقت نفسه، يتحتم عليه أن يكون لديه فكرة تقريبية عن طول كل لقطة، وغالبا ما يتحدد طول اللقطة على أساس الحس الفني الذي اكتسبه كاتب السيناريو من طول المران وتمكنه من ناحية التوقيت.
البعد الاجتماعي في أعماله
من هذا المنطلق اهتم (وحيد حامد) في مشواره مع الكتابة الدرامية بتقديم أعمال اجتماعية لها بعد وإسقاط سياسي كبير، حيث بدأ حياته بكتابة القصة القصيرة والمسرحية في بداية مشواره الأدبي ثم اتجه إلى الكتابة للإذاعة المصرية، فقدم العديد من الأعمال الدرامية والمسلسلات، و من الإذاعة إلى التليفزيون والسينما حيث قدم عشرات الأفلام و المسلسلات، وفضلا عن ذلك فهو يقوم بكتابة المقال السياسي والاجتماعي في أكثر الصحف انتشارا و يحظى بجمهور واسع من القراء، وكذلك أشرف على ورشة السيناريو بالمعهد العالي للسينما لمدة أربع سنوات متتالية حيث تخرج على يديه عدد من أفضل كتاب السيناريو الحاليين، وباعتباره ليس مثقفا عاديا يرطن بالمصطلحات المعقدة، لكنه مثقف ملتحم بالناس، بسيط لدرجة استحالة التقليد، ومن فرط تلك البساطة يمتلك رادارا حساسا فى منتهى الدقة تجاه القضايا والظواهر التي تطرأ على المجتمع، لهذا يمكننا أن نطلق إنه (زرقاء يمامة الفن المصرى) من دون شك.
ومن خلال مراقبتي الشخصية لمسيرته في الكتابة الدرامية، لاحظت أن كاتبنا الكبير( وحيد حامد) من المؤمنين بمقوله: (إنه يستحب لكاتب السيناريو أن يعرف حركات الكاميرا ليعرف طرائق التشخيص والتمثيل وزوايا النظر)، ومن ثم فالكاميرا قد تكون ثابتة المدار( الحركة البانورامية السريعة) أو دائرية أو متحركة أو مرتفعة ككاميرا الزرافة التي تتخذ اتجاهات متنوعة أثناء التقاط صور السهرة والحفلات الغنائية، كما لديه معرفة كاملة عن الكاميرا اليدوية التي تحمل على الكتف، وكاميرا الترا لينك و الكاميرا الثابتة، والكاميرا المحمولة بواسطة السيارة، وكاميرا الزوم، كما يعرف جيدا كيف تقوم الإضاءة بدور هام في تشكيل الفيلم السينمائي، لذا فهو يقوم بتوظيفها جيدا في السيناريو، من حيث هل هى إضاءة خافتة توحي بالهدوء والصمت والمواقف الرومانسية أم هى إضاءة ساطعة قوية توحي بالعجب أو الخوف؟ .. تلك حرفة يجيدها كثيرا كما يتضح لنا من أعماله ذات المغزى الاجتماعي والسياسي وحتى الكوميدي منها؟
لغته السينمائية والتليفزيونية
هناك تقنيات كان يستخدمها كاتب السيناريو (وحيد حامد) صنعت لغته السينمائية والتليفزيونية الخاصة جدا، كالتركيب والتوليف وانتقاء المعلومات وتقسيمها والازدواج والتكرار والتنسيق والتكبير والتكوين والاتساق والانسجام والتحكم في المعلومات وتشابك الصور مع المكونات التقنية الأخرى وتوظيف الصور السينمائية البلاغية كالاستعارات والتشابيه وصور المقابلة والتضاد، وغير ذلك من وسائل تؤكد موهبته في كتابة السيناريو على نحو سهل وبسيط ومعبر ومؤثر في الجمهور، وفوق كل ذلك يعكس أسلوبه الخاصة ولغته في بلاغة مطلقة، لذا يتبين لنا أن كتابة السيناريو عند (وحيد حامد) عملية صعبة وشاقة تتطلب جهدا كبيرا بالمقارنة مع كتابة المسرحية والرواية والقصة؛ لأن السيناريو يستلزم من كاتبه أن يكون محترفا متمرسا وعارفا بتقنيات السينما، وأن يكون مطلعا على آليات صناعة الفيلم وخفاياها وأسرارها وخدعها.
وفضلا عن هذا وذاك لابد وأن تكون علاقة السيناريست وطيدة مع المنتج والمخرج والمصور والممثل، فهو الذي يسهل عملية الإخراج والتصوير ويساعد الممثل على أداء دوره وتشخيصه أحسن تشخيص، ومن هنا، فكاتب السيناريو (وحيد حامد) كان يعد واحدا من الصناع العظام في مجال الصناعة الفنية والفيلمية بفضل فهمه العميق لكل عناصر الصناعة وبحكم تحالفه مع (عادل إمام وشريف عرفة) في أكثر من تجربة جعلته بمثابة مهندس للبناء السينمائي، بفضل تركيبته تلك في سلسلة أعمال اتسمت بالجرأة وقدمت سينما قوية وأفلام حققت إيرادات عالية، فضلا عن مسلسلاته ذات الطابع المغاير عن السائد، حتى أصبح صاحب البصمة المميزة في السينما والتليفزيون عبر تجارب أصبحت علامات في تاريخ الفن المصري فائق الجودة على مستوى الشكل والمضمون والهدف الاجتماعي.
ولد بمحافظة الشرقية
ولد (وحيد حامد) في 1 يوليو 1944 بقرية (بنى قريش) مركز منيا القمح محافظة الشرقية، وحصل على ليسانس آداب قسم اجتماع عام 1965، وبدأ بكتابة القصة القصيرة والمسرحية في بداية مشواره الأدبي، ثم اتجه إلى الكتابة للإذاعة المصرية فقدم العديد من الأعمال الدرامية و المسلسلات، ومن الإذاعة إلى التليفزيون ولسينما حيث قدم عشرات الأفلام والمسلسلات، ومنذ أن جاء (وحيد حامد) إلي القاهرة عام 1963، قادما من الشرقية لدراسة الآداب قسم اجتماع، وهو يعمل على تثقيف نفسه طوال الوقت، وظل سنوات مطلعا علي الكتب الأدبية والفكرية والثقافية، وزائرا نشيطا للمكتبات والسينما والمسرح أملا في أن يصبح كاتبا مميزا للقصة القصيرة والمسرح الذي عرفه عن طريق شكسبير، ومن هنا فقد كتب في العديد من الصحف والمطبوعات حتي ظهرت له أول مجموعة قصصية من هيئة الكتاب، وكانت تحمل اسم (القمر يقتل عاشقه).
ذهب(حامد) بتلك المجموعة إلي الكاتب الكبير يوسف إدريس الذي يعتبره هو والأديب نجيب محفوظ والكاتب المفكر عبد الرحمن الشرقاوي ـ أساتذته – الذين أصقلوا فيه الموهبة وفكره، إلا أن الكاتب الكبير يوسف إدريس التقط فيه الحس الدرامي فنصحه بالكتابة في مجال الدراما، وهو ما فعله وحقق فيه ما لم يحققه إنسان من قبل، بفضل وضعه على الطريق الصحيح، وظل مبدعا مستقلا في معظم إنتاجه الأدبي، ولم يقل الرجل يوما إنه مؤرخ، أو أستاذ في الجامعة يلقي محاضرات، أو إنه داعية، أو منتميا لحزب يردد أدبيات ولغو الأحزاب والجماعات، إن لم ير ما يراه الحزب يصبح مزورا، ومستباحا من قبضايات الحنجوري المرضى بعبادة الزعيم، وهو مرض لم يبرأوا منه، بعد أن أصبح وسيلة للتسول والوجاهة الاجتماعية لبعض الأنظمة المستبدة، التي اتخذت من الناصرية منهجا للضحك على شعوبها، وتلك ليست قضيتنا الأساسية، ولكن الحملة الهوجاء من مراهقي الناصرية على وحيد حامد في مرحلة من المراحل كانت غير مبررة.
علامات بارزة في السينما
ولسنا بصدد تذكير الناس بأعمال الرجل الراسخة بقوة في الذاكرة المصرية، والتي قدمها في وقت كان الآخرون يناضلون بالرمز واللف والدوران، ويكفي مثلًا أنه قدم أفلام تعد علامات بارزة في السينما المصرية، ولهذا يعتبر وحيد حامد، واحد من أهم كتاب السينما والدراما في الوطن العربي، فلقد قدم أعمالاً فنية على مدار 50 عامًا تتمتع بقدر كبير من الموضوعية والجرأة والفن، كما كتب أكثر من 40 فيلما ومن أهمها: (البريء، الغول، المنسي، الإرهاب والكباب، دم الغزال، الوعد، النوم في العسل، طيور الظلام، والإرهابي، وعمارة يعقوبيان، واللعب مع الكبار، والهلفوت، والتخشيبة، وكشف المستور، المساطيل، إحكي ياشهرازاد، وقط وفار)، وكلها أعمال جاءت في توقيتاتها الصحيحة، بحيث كانت بمثابة جرس إنذار للمجتمع بهدف التحذير من آثام الجماعات المتطرفة، والاستغلال والنظرة المتخلفة في المجتمع تجاه ظواهر بعينها.
وقدم 5 خمسة أعمال مسرحية من أبرزها: (كباريه، يا عالم نفسى اتسجن، جحا يحكم المدينة”، وله دور بارز كما شاهدنا واستمتعنا عبر أكثر من 15 عملا في الدراما التليفزيونية، من أبرزها مسلسلات (البشاير، العائلة، الدم والنار، كل هذا الحب، الرجل الذي عاد، أنا وأنت وساعات السفر، أوراق الورد، أحلام الفتى الطائر، الجماعة، بدون ذكر أسماء، الجماعة)، كما قدم 12 عملا دراميا إذاعيا، من أبرزها: (شياطين الليل، الرجل الذي عاد، الفتى الذي عاد، طائر الليل الحزين، قانون ساكسونيا، كل هذا الحب، بلد المحبوب، عاشور رايح جاي، الدنيا على جناح يمامة، بنت مين في مصر، عبده كاراتيه).
الكتابة عن التيارات الإسلامية
وإذا كان للدراما أهدافها الخاصة التي تبدأ بالمتعة والتسلية وتنتهي بالوصول لأكبر قاعدة من الجماهير التى تقبل أو ترفض الإبداع الفنى، فإنه بين ثنايا تلك الحالة يصعب على الفنان أن يقدم مضمونا فكريا له رؤية عميقة، وقلائل من ينجحون في خوض غمار تلك التركيبة دون فشل، ومن بين تجارب مؤلفين كبار فى تاريخ الدراما المصرية تبرز تجربة الكاتب والسيناريست وحيد حامد، الذي استطاع أن يجمع بين الرؤية العميقة، وتحقيق المتعة الفنية، وإرضاء الجمهور في آن واحد، ومن بين أهم المشاريع الفنية نتوقف عند تجربته الدرامية الرائدة في الكتابة عن التيارات الإسلامية وظاهرة السيطرة الدينية على المجتمع المصري بشكل سياسي، حيث استطاع وحيد حامد أن يتناول الإسلاميين بمختلف تنويعاتهم في أعمال درامية سينمائية وتليفزيونية رسمت خطا عريضا لمدي التشابه والخيط الذى يجمع بينهم .
كما رصدت تلك التجارب العديد من الظواهر المرتبطة بذلك ،والتي طفت على سطح المجتمع المصري، ما بين دعاة جدد، وفنانات يعتزلن لارتداء الحجاب وممارسة الدعوة، وسلفيين خرجوا من أعماق الريف ليسيطروا على ثقافة المجتمع، وبين تيارات سياسية تتخذ من الإسلام مشروعا للسلطة، وفي القلب من ذلك (جماعة الإخوان المسلمين)، وصولاً لتناوله للتدين الظاهري الذي يتكسب به بعض المشاهير، وعبر ذلك كله شيد (وحيد حامد) مشروعا فنيا عظيما حاول من خلاله تفسير وتحليل إحدى أهم القضايا التي تشغل المجتمع المصري وإحدى أزماته الاجتماعية والسياسية، وقدم رصدا فنيا وتحليلا عميقا لظواهر دينية كان لها تأثيرها على الخريطة الاجتماعية المصرية ليسبق بذلك الطرح جميع نظرائه من كُتاب وصناع الدراما.
وفي هذا الصدد لابد لي أن أشير إلى أن الدراما التلفزيونية المصرية ظلت لزمن تتجول بين الكلاسيكية والقصص النمطية البعيدة عن الاحتكاك بالسياسة والدين من جانب نقدي، حتي ظهر مسلسل (العائلة) الذى كتبه وحيد حامد، وأخرجه إسماعيل عبد الحافظ، وقام ببطولته الفنان القدير محمود مرسى والنجمة ليلى علوى والفنان الكبير عبد المنعم مدبولى عام 1994، والذى أنتج في ظل صعود الجماعات التكفيرية التي تبنت الإرهاب داخل المجتمع، وفي ظل رعب مجتمعي وتصاعد لمنابر المتشددين، ليناقش ظاهرة استغلال الجماعات المتطرفة للفقر واستقطاب الفقراء، وكان هذا العمل امتدادا لمشروع فني مستلهم من رؤية سياسية اجتماعية امتلكها (حامد) منذ بداياته وتلك كانت نقلة سيتبعها مشاريع أكثر عمقاً وأشجع نقداً.
تاريخ جماعة الإخوان
ثم جاء عام 2010 ليعرض لوحيد حامد مسلسل (الجماعة) وبالتحديد في يناير أي قبل أحداث 25 يناير بعام واحد فقط، والذي تناول فيه تاريخ جماعة الإخوان مؤسسها حسن البنا بالتفصيل، حيث قدم توثيقا تاريخيا ورصدا لأصل ذلك التيار السياسي الذي هيمن على الشارع المصري عبر مراحل طويلة من العمل الديني بالمدارس والجامعات والمساجد والجمعيات، ليحقق بعمل فني واحد ما عجزت مقالات وساسة ودراسات عن الكشف عن خطورته وأبعاده ، من خلال تناول دقيق لحقيقة تلك الجماعة وتوجهاتها وطرق سيطرتها على الشارع، ثم قدم الجزء الثاني من (الجماعة) في مايو 2017، بعد أن أدرك أن الجزء الأول لم يكن كافيا للإلمام بكل جوانب وتفاصيل تاريخ الإخوان والذى ركز فيه على سيد قطب ودعوته للعنف والتكفير، وبذلك يكون قد تصادم مع أبرز قيادات الاخوان إثارة للجدل كمرجعية للعنف السياسي وتكفير المجتمع، من خلال تجسيد شخصيته لأول مرة على شاشة التليفزيون، وانتهى بالفعل مؤخرا من كتابة الجزء الثالث الذي يرصد من خلاله التحولات الدراماتيكية في فكر تلك الجماعة الشيطانية واندماجها مع جماعات الإرهاب في تنفيذ عمليات ضد الأفراد والمجتماعات والشعوب، لكنه لم يرى النور على الشاشة.
حين التقيته قبل عشر سنوات في مكانه الشهير، كان مازال يحمل في جعبته الكثير من الأشياء المرتبطة بالأفلام والمشروعات الفنية التي ترواد خياله، وكان الحكي معه شجيا عن البلاتوه والممثلين والكتابة في الفن والشأن العام وغيرها من معطياته التى يراها من ثقب مفتاح ليتفاعل معها بقلمه الرشيق بحرفية عالية، ولاحظت وقتها أنه يتحدث عن تلك المشاريع التي كانت ماتزال في طور الفكرة، ممتلئا بحماس يوم جديد في أفق مختلف ومغاير، وكان وقتها منتبها إلى أوراقه المرتبة على الطاولة التي تضم كلينا، لكنه كان زارعا فى صوته رغبة الوصول إلى الناس والتعبير عنهم بكافة الوسائل والطرق.
وكما اعتدت وجهه هادئا بشوشا تعلوه مسحة من ذكاء حاد، ولكن رتوشا أخرى جديدة دخلت فى مشهد نهار خارجي تركه على مقربة من نهر النيل، حيث جلس كعادته على مائدته المفضلة في فندقه الذي لايغيره أبدا حتى رحيله، ونظر بعيدا كما لو كان يستعد لقول كلمة واحدة تختزل العالم بتفاصيله المرعبة، أو تضيئه ببصيص ضوء قادم من داخله، وخلال حديثي الذي خططت له أن يكون مقتضبا حول موضوع يخص (الأهرام) وقتها، لكنه حديثنا امتد لأكثر من أربع ساعات، كان خلالها من وقت لآخر يشير إلى النيل كأنه أيقونة سحرية وساحرة لنجاح قلمه فى الإشارة إلى بلاد يمر منها هذا النهر المقدس، كان يصمت أكثر مما يتكلم، وكأنه فيلسوف امتلك ناصية الحكمة في زمن كثر فيه السفهاء، رغم أنه ترجمها في عشرات من الأفلام والمسلسلات التي مازالت تقع فى أذهان الجميع، بل لا نبالغ كثيرا إذا قلنا أنها أصبحت أيقونات مختلفة لمشاهد يرتبها المواطن المصري وقتما أراد فى عقله حين يحتاج أن يعى ويفهم مايدور حوله من أحداث عاصفة.
مواجهة السلطة السياسية
توحي أعمال الكاتب (وحيد حامد) بتبني وجهة نظر الجمهور تجاه المجتمع ومشكلاته، وبالتالي تقف هذه الأعمال مع الفرد في مواجهة السلطة السياسية، وقد كانت التيمة الأكثر إلحاحا في أفلام وحيد حامد، وربما على السينما والدراما المصريتين في فترة السبعينيات ومرورا بالثمانينيات والتسعينات، هى الصراع بين عالمين تولدا من الشقاق الذي فرضه انفتاح السادات المباغت، ليسمح بصعود غيلان و سادة على أطلال من الخراب، دافعهم الأساسي هو الطمع والانتهازية، أشرار بشكل مطلق وكاريكاتيري، حتى أن فيلم (اللعب مع الكبار)، إخراج شريف عرفة، يكتفي بتصويرهم كأشباح، لا نراهم إلا عبر مكالمة هاتفية عابرة في كلام عابر.
وفي مقابل عالم السادة عند (حامد)؛ لابد أن تجد هنالك عالم آخر، تنسب إليه صفات جمعية، كالجدعنة والشهامة والترابط، أحيانا يتخذ أصحابه صورة (الفارس المثالي) الذي يخوض حربا دون كيشوتية كـ (فرجاني هدهود) في (آخر الرجال المحترمين)، أو انتهازي كـ (فتحي نوفل) في (طيور الظلام)، أو إصلاحي، أو حتى في صورة واحد من العُيَّاق والشطار واللصوص الصغار اللذين يسرقون اللص الأكبر، كبطلي (أحلام الفتى الطائر، والمنسي)، كل هذه الصفات توحي بالتنوع، لكنه تنوع لا يصدر إلا عن (هوية قياسية)، انشغل بها خيال الكاتب في تلك الفترة، هوية أسماها (المواطن المصري)، وربما لهذا نجح التعاون بين وحيد حامد وشريف عرفة (توأمه الفعلي)، فكلاهما يتألق عبر رسم النمط الكاريكتيري الذي يلامس الفانتازيا في ثوب واقعي.
صوت حي ومتمرد
كان موقف وحيد حامد من ثورة 25 يناير كاشفا لمواقف كثيرة ملتبسة، فإشاراته في أفلامه شئنا أم أبينا، كانت تشير إلى ضرورة التحرك ضد الفساد، مثلا: واحد من أواخر أفلامه قبل الثورة (النوم في العسل) ينتهي بمسيرة احتجاج إلى مجلس الشعب يقودها (الضابط الصالح)، لكن لم يكن غريبا أن يستنكر (حامد) مبكرا قيام ثورة ضد ما أوحى أنه يثور عليه في أفلام كـ (البريء، الغول، الإرهاب والكباب، النوم في العسل)؛ ففي الثورة يفتقد (وحيد) موقعه كوسيط معارض لشيء يفهمه، يتكسب من وجوده كصوت متمرد، كانت لحظة فقد فيها السيناريست الطيب تماهيه مع (الصعلوك المتمرد والمتعاون) لصالح (الضابط الصالح) في مديرية الأمن العمياء، إذا ما انتهت هذه الحالة، فقد الكاتب كل مميزاته ومكاسبه.
الكلام عن وحيد حامد الكاتب السياسي بسيط الجملة بالغ التأثير في الجماهير، والسيناريست المبدع الذي عالج أعقد مشاكلنا في مشاهد كاشفة ومبهرة، يحتاج لمجلدات كي توفيه حقه في تحليل مضمون رسائله الاجتماعية المغلفة بحس سياسي باعث على الشجن والوجع والرصد الواقعي الحي لظواهر أثرت وماتزال تؤثر في حياتنا المصرية، وفوق ذلك فقد أثرت الوجدان المصري بانحيازها المطلق إلى بسطاء هذا الوطن من الحيارى والحزاني والمنسيون والمعذبون في الأرض، جراء الظلم الواقع عليهم بفعل قسوة الاستغلال من جانب السلطة تارة، والعنف والإرهاب والروتين القاتل بفعل تصاريف البشر تارات أخرى، وغيرها من أسباب تعتبر منغصات تقع دوما على عاتق الغلابة والمكلومين من أبناء هذا الوطن .. فتحية تقدير واحترام لروح المبدع الكبير (وحيد حامد).