* كرم مطاوع استطاع في (28 سبتمبر) أن يقدم حرارة اللحظة، ودفء العاطفة
* سعد أردش ارتفع فوق الأحزان فى (الرحلة ابتدأت)
* جلال الشرقاوي: عانيت من فهم النقاد الخاطئ لـ (حجة الوداع)، وأردت أن أرمز بالظروف وحالة المسلمين والعرب النفسية بعد وفاة عبدالناصر
كتب : أحمد السماحي
يا جمال ..يا نور العين ..سايب البلد ورايح فين؟، هذا الهتاف الحزين الذي انبثق من قلوب البسطاء، مع أنشودة (الوداع يا جمال يا حبيب الملايين، ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين) هو التعبير الشعبي العفوي الذي صور أجواء الفجيعة بعد غياب الزعيم الخالد (جمال عبدالناصر)، وقد انطلق هذان الشعاران قبل أي مجال فني، وإذا كان الشعر والأغنية هما الأسبق دائما فى التعبير عن الأحداث الكبرى التى تمر بالبلاد، فإن المسرح باعتباره (أبو الفنون) لا يفوت دائما تسجيل مشاعر أصحابه في الأحداث الهامة.
وهذا ما حدث يوم فقدت الأمة العربية زعيمها فقد استدعى الفنان الكبير (حمدي غيث) وكان وقتها مدير المسرح القومي ثلاثة من كبار مخرجي المسرح وهم (كرم مطاوع، سعد أردش، جلال الشرقاوي) باعتبارهم ركيزة الإخراج فى المسرح المصري، وطلب منهم تقديم عرضا في تأبين الرئيس جمال عبدالناصر للمسرح القومي الذي يعتبر الأب الشرعي لمسارح الدولة الرسمية.
وفي أيام قلائل استطاع الكاتب (ميخائيل رومان) أن يكتب مسرحية قصيرة من فصل واحد بعنوان (28 سبتمبر الخامسة مساء)، واستطاع الشاعر الكبير (أحمد عبدالمعطي حجازي) أن يكتب قصيدة درامية في رثاء الزعيم بعنوان (الرحلة ابتدأت)، بينما كان الكاتب الإذاعي (ظافر الصابوني) قد سبق له أن كتب تمثيلية إذاعية بعنوان (حجة الوداع) استطاع أن يحولها إلى مسرحية قصيرة من فصل واحد.
28 سبتمبر
قسم الكاتب (ميخائيل رومان) مسرحية (28 سبتمبر الخامسة مساء) التى أخرجها المبدع (كرم مطاوع) إلى قسمين واضحين، قسم قبل الوفاة، وقسم بعد الوفاة، وبينهما اللحظة المركزة جدا والتى يتمثل فيها الواقع المعاش بكل تفاصيله الدقيقة، وشكله العام وهى اللحظة التى غاب بعدها نور القيادة في شخص الزعيم، لحظة ما قبل الإظلام التام، وهى لحظة حادة واقعيا، وزاد من حدتها التكثيف الدرامي الذي استعمله (ميخائيل رومان).
والمسرحية كانت تركز على ما بعد اللحظة الحزينة، فى أكثر من موقع، وتستفسر عن جدوى الحزن المضلل ولمن البكائيات الحزينة؟، فالتركيز يجب أن يكون على كيفية مواجهة الحياة بعد رحيل الزعيم وعلى سيناء وطرد المعتدين، وإذا لم يحدث فإن الرئيس يكون قد مات جسدا وروحا.
استطاع المبدع الكبير (كرم مطاوع) أن يترجم النص ترجمة واعية على خشبة المسرح، ترجمة فيها حرارة اللحظة، ودفء العاطفة، وصدق نقل الواقع الحي واللحظة المشحونة – كما جاء فى نقد المسرحية فى مجلات هذه الفترة – وقدم نجوم المسرحية (عبدالرحمن أبوزهرة، محسنة توفيق، عبدالسلام محمد) أدائا متميزا للغاية.
الرحلة ابتدأت
آه كم جيل من الجدات تمتلئ السماء بهن
يمطرن المدينة بالمراثي، وهى تمي فى فتاها
يا أيها الحزن مهلا، واهبط قليلا قليلا
استوطن القلب واصبر، ع العين صبرا جميلا
أيامنا قادمات، وسوف نبكي طويلا
هذا حصانك شارد فى الأفق يبكي
من سيهمزه إلى القدس الشريف
ومن الذي سيكفن الشهداء في سيناء
ومن يكسو العظام
ويثبت الأقدام إذ يتأخر النصر الأليم
ونبتلي بمخاضه الدامي العنيف.
ومن الذي تغفو عيون المريمات على اسمه
أن المعاد غدا إلى أرض السلام
ومن الذي سيؤمنا فى المسجد الأقصى
ومن سيسير في شجر الأغاني والسيوف
ومن الذي سيطل من قصر الضيافة فى دمشق
يحدث الدنيا ويلحقها ببستان الشام
ومن الذي سيقيم للفقراء مملكة وتبقى ألف عام
ومن الذي سنعود تحت جناحه لبيوتنا
نحيا ونسعد بالحياة وا ناصراه!
هذه جزء قصير جدا من نهاية القصيدة الشعرية الطويلة التى كتبها الشاعر الكبير (أحمد عبدالمعطي حجازي) وقراءها دراميا المخرج الكبير (سعد أردش)، وقد كتب النقاد وقتها إنها ليست مجرد قراءة، وإنما المسألة تتعدى ذلك بكثير فالقصيدة تصوير حى متتابع، لوحات مسرحية اشبه بالمقامات المركزة المكثفة العميقة، فيها الإتقان السهل موضوعيا، وفيها النقلة المفاجئة المذهلة وجدانيا، وفيها سرعة توالي الصور في لحظة رهيبة، وأحمد عبدالمعطي حجازي قد ارتفع فوق الأحزان برغم حزن كلامه ومسحة الحزن العميقة على كل الخيوط الرفيعة بين ثنايا المعاني، وهذا الإرتفاع مكنه من التعبير الصادق الواضح.
حجة الوداع
رغم الحزن المسيطر على الجميع، إلا أن هذا الحزن لم يمنع النقاد من سن سيوفهم على العرض المسرحي (حجة الوداع) تأليف ظافر الصابوني، وإخراج جلال الشرقاوي، حيث أساء بعض النقاد فهم المسرحية وفسروها على أنها ترمز بالنبي إلى الرئيس جمال عبدالناصر، وقال المخرج (جلال الشرقاوي) :
(حاشا الله أن أفعل ذلك أو حتى أن أفكر به، وقد استند هؤلاء النقاد فى تفسيرهم إلى ما يلي: أولا أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قضي إلى ربه بعد أن أسلمت قبائل العرب، وانتشر الإسلام فى شبه الجزيرة العربية، ولكنه توفي تاركا الروم بالقدس والجليل، وكذلك الرئيس (عبدالناصر) الذي توفي تاركا إسرائيل وقد احتلت سيناء من مصر والجولان من سوريا والضفة الغربية والقدس من الأردن وفلسطين.
ثانيا: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى إلى ربه بعد حجة الوداع التى خطب فيها قائلا: (اللهم هل بلغت)، بينما توفى الرئيس عبدالناصر بعد أن أنهى مؤتمر القاهرة أعماله وقام بأداء مراسم الوداع للملوك والرؤساء العرب، وكان الوداع الأخير لأمير الكويت وبعدها قال (الحمد الله دلوقتي أنا استريحت).
ثالثا: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قضى نحبه فجأة وعلى غير انتظار، وكذلك الرئيس عبدالناصر.
رابعا: أن المسلمين قد أصيبوا بصدمة وذهول شديدين، وأمسوا غير مصدقين لخبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذى أنسى آية من كتاب الله العزيز الحكيم، وكذلك الناس في كل البلاد العربية الذين أصيبوا بالصدمة والذهول وحالات من الحزن الهستيري والنشيج والعويل المرضي إلى حد أن الأخبار قد تداولت بعض حوادث الانتحار.
وربما ألتمس لهؤلاء النقاد بعض العذر في أن بعض أوجه التشابه في النص بين حادثتي الوفاة قد أدى فى نفوسهم إلى هذا التداعي الذي جعلهم يسقطون هذه السقطة فيخلطون الأوراق بعضها ببعض، ولكن مرة أخرى حاشا لله أن أفعل ذلك أو حتى أن أفكر به، والواقع أننى أردت أن أرمز بشيئ آخر إلى شيئ آخر، أردت أن أرمز بالظروف وحالة المسلمين النفسية التى أعقبت وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الظروف وحالة العرب النفسية بعد وفاة الرئيس عبدالناصر، فإذا كان رسول البشرية وخاتم المرسلين فقد توفاه الله، ومع ذلك فقد سارت الحياة واستمرت وجفف المسلمون دمعهم وامتطوا جيادهم وشهروا سيوفهم، وحاربوا أعداء الله والحياة حتى طهروا أرض الأنبياء فى القدس والخليل، هكذا وقف فيهم (أسامة بن زيد) الفتى الذي تبناه الرسول خطيبا وملهما.
فما بال أمة العرب وقد توفى عبدالناصر قد وجمت وأصابها الذهول، لقد مات فرد والأمة باقية، علينا أن نكف على الفور عن النشيج والنواح والعويل، علينا أن نستمر، أن نعيد تكوين الجيش أن نطرد المحتل من الأرض العربية، أن نطهر أرض الأنبياء في القدس والخليل، باختصار أردت أن أقول ماذا نحن فاعلون كعرب لمواجهة الحياة بعد رحيل القائد،هذا ما قصدته وما رميت اليه، فإن كنت قد أخطأت التعبير فإني أسال الله الرحمة والمغفرة.
صحب العرض كما كتب النقاد موسيقى تصويرية وضعها الموسيقار الكبير (عبدالحليم نويره) واعتمد فيها فقط على آلة الناي مع الدفوف، كما اعتمد الأداء التمثيلي لكلا من (سناء جميل، رجاء حسين، صلاح قابيل، محمود الحديني) على الترديدات الجماعية يقودها بعض الأداء المنفرد (السولوهات) متوخيا التوافق والانسجام بين النغمات الموسيقية المختلفة، بينما اعتمدت الحركة المسرحية على التشكيلات الجمالية الهادئة الرزينة التى تتناسب مع جلال وهيبة اللحظة.