بقلم : محمد حبوشة
ينبغي أن يمتلك الكاتب مضمون نصه على نحو احترافي صحيح، فالمضمون يتشكل طبقا لأسلوب معالجته الدرامية، إذ يختار نوع المضمون (كوميدى أم تراجيدى) أم مزج بينهما، لأن الحدود بين هذه الأنواع الدرامية ليست فاصلة، كما يجب أن يتسق الشكل مع المضمون، فهناك الكاتب الذى يخضع مضمونه الفكرى لحتميات الاتساق الدرامى والشكل الفنى، فى حين آخر يلح عليه المضمون إلحاحا قد يجعل مسلسله مجرد أداة عابرة لتوصيل مضمونه، فالمضمون يتشكل طبقا للمعالجة الدرامية التى تصهره فى بوتقتها وتقدمه للجمهور فى قالب متماسك جيد كأنه يراه لأول مرة، وبالتالى فليس هناك مضمون أو فكر أو موضوع مطلق أو مجرد أو مستقل بذاته، ذلك لأنه يستحيل الفصل بين المضمون الفكرى والشكل الفنى فى العمل الدرامي الناضج، فالتوازن والتفاعل الدرامى بين الفكر والفن ضرورة منطقية وجمالية ملحة، ولكى يستطيع المؤلف تحقيق ذلك عليه أن يكون ذو ثقافة عالية وقدرة فائقة على رصد القضايا والمشكلات، بل وتحليلها واختيار الزاوية التى يتناولها منها لكى تعبر عن رؤيته للقضية من خلال أعماله الفنية.
ومن هؤلاء الكتاب ذو الثقافة والقدرة المؤلف “أيمن سلامة” الذي أثبت حرفيته المطلقة في كتابة نصه الدرامي “لما كنا صغيرين” بشكل جاذب في جو من الإثارة والتشويق على غرار المسلسلات النموذجية ذات الحبكة الدرامية المتقنة، وذلك في ظل معرفته نظام تكوين الجملة الدرامية الفصيحة؛ ووظيفة الكلمات فيها وضبط أواخرها؛ كشفا عن تناسب جرسها اللفظي مع البعد النفسي للشخصية وتحولاته ما بين حالة شعورية وحالة شعورية مغايرة؛ وربما لاحظنا ذلك في الموقف الدرامي الواحد من خلال المسلسل؛ وهو ما انعكس بالضرورة في أداء هادئ وزرين دون أية تشنجات للفنانة الشابة “ريهام حجاج”، ولعلها اكتسبت قدرا كبيرا من الطاقة الإيجابية التي توفرت لها من فرط أداء عالمي بكل المقاييس لكل من “محمود حميدة وخالد النبوي؛ ما يعكس حقيقة فهم الممثل لمعاني خبرة من يقف أمامه وكذلك الكلمات الظاهرة ودلالاتها المتعددة والمسكوت عنها؛ تقريبا لفهم المتلقي لخطاب الشخصية الدرامية.
معمار درامي يتشح بالجمالية
يبدو لي أن “أيمن سلامة” فضلا عن ضرورة إلمامه بصيغ الكلام ومنظومة بنائه الكبرى داخل مسلسل “لما كنا صغيرين”، وما يدخل في نسيجه من منظومات درامية وجمالية صغرى؛ بحيث تشكل الأبنية مجتمعة وحدة معمار درامي متشح بالجمالية والتشويق والإثارة؛ مع مراعاته لما يطرأ على معمار نصه من زيادة أو نقصان؛ أو تغيير يضطر إليه في أثناء عملية الكتابة؛ تبعا لما يتطلبه الموقف الدرامي؛ تحقيقا لدرامية الأثر وجمالياته في النهاية، وهو ما جعله يشكل لغة الحوار بطريقة سلسلة لتصبح قابلة للأداء التمثيلي الحاضر في مواجهة جمهور حاضر ومتفاعل شعوريا وإدراكيا مع كل عناصر التشويق التي تضمنتها الحلقات الأخيرة، خاصة في نهاياتها المفاجأة على جناح الإبهار البصري، وذلك جراء لغة حوار تحمل بين طياتها شحنة شعورية تتولد عن طريق الكلمة وطاقة معرفية ومعلوماتية تتوالد من خلال تناسق الكلمات وتلاحمها في بنية الجملة أو العبارة أو المقطع الحواري .
ربما لا يستطيع خيط الجريمة وحده أن يحمل عملا دراميا كاملا، بل يجب أن تسايره مجموعة من الخيوط الجانبية التي تتقاطع مصائرها مع القصة الأساسية، تماما كما لاحظنا في “لما كنا صغيرين”، فقد احتاج هذا العمل الدرامي المحكم إلى توظيف يجعله قريبا من الحياة اليومية دون إطالة أو افتعال، فالضحية والجاني يرتبطان بشبكة علاقات مجتمعية وإنسانية ويؤثران فيها ويتأثران بها، ومثال ذلك علاقة “سليم منصور” بكل من “دنيا، يحيى، نهى، حسن، وائل” من بداية تدريسه لهم بالجامعة الأمريكية وتطور العلاقة بينهم إلى حد توظيفهم جميعا معه في وكالته الإعلانية الكبيرة، ومن ثم أمكنه التحكم في مصائرهم جميعا إلى أن تم قتله في نهاية المطاف على يد “دنيا”.
براعة المخرج محمد على
ظني أن المخرج “محمد على” امتزج فكره كثيرا بخيال الكاتب، ومن ثم اجتهد إلى حد كبير في ترجمة لغة الحوار الدرامي في مسلسل “لما كنا صغيرين” بمستويات صوتية متعددة تبعا لبنية حروفها المختلفة، فيما بين حروف انفجارية وحروف لسانية وحروف بين أسنانية وحروف شفهية وحروف مطبقة وأخرى مخففة؛ وهو ما تلاحظ جيدا في أداء “ريهام حجاج” في الحلقات الثلاثة الأخيرة تحت وطأة مواجهتها بجرائمها البشعة التي ارتبكتها، حيث بدت هادئة يعتريها قدر بسيط من الاضطراب وحاولت السيطرة على أعصابها بادئ الأمر، وتفاعلت مع المواقف التراجيدية المأساوية دون صراخ، واستطاعت أن تعبر بصدق عن حال فتاة شابة قتلت أباها في لحظة عبثية دون تدرك ذلك، وقتلت صديقتها “نهي” تحت تهديدها وابتزازها الذي أخرج أسوأ ما فيها من عقد نفسية، وقتلت صديقها “وائل” الطيب الودود الشفاف بعد أن كشف سرها، رغم أنها كانت تكن له حبا كبيرا.
ولقد أبدعت “ريهام” وأثبتت جدراتها كممثلة نضجت على نار هادئة – رغم أنها ثاني بطولة مطلقة لها – في أثناء اعترافاتها بطريقة تجسيد احترافي للغاية، حيث بدا ذلك في تناغم مستويات لغة التعبير الصوتي في أدائها بين لغة الحوار الديالوج أو المونولوج أو التريالوج (الذي يعني الأداء الثلاثي للصوت)، ولا يفوتنا الالتفات إلى لحظات الصمت (في بداية التحقيق معها) بوصفها لغة غير كلامية كثيرا ما تكون أكثر بلاغة من لغة الصوت والكلام؛ بل إنها كانت موضوعية عبر صرخاتها الفجائية بطريقة هيسترية – كما ظهر في “الفلاش باك” – عبر تلك الصرخات التي كانت تطلقها وهى تنتفض واقفة في وجه “نهى” تأكيدا لنبرة التهديد الحازم لها؛ ودليلا أكيدا على شدة كراهيتها لها؛ الأمر الذي لا تطيق معه سماع صوتها.
لغة التعبير الصوتي المرئي
هذا فيما يتعلق بمعمار صوتيات الحوار الدرامي التي كتبه “أيمن سلامة” كناقل لحالة تفعيل الفعل ورد الفعل، وما بين لغة “ريهام” الهادئة تعبيرا ظاهريا عن عدم مبالاتها بما حدث لضحاياها على يديها، وصراخاتها المنتفضة المتلازمة مع وقفتها الحادة، تكشف لغة التعبير الصوتي والتعبير المرئي عن تباين إيقاعي بين إيقاع هادئ في ظاهره هادر في باطنه، في سماعها لرود أفعال المحقق على نواياها المبيتة التي شعر بمظاهرها في مقابل إيقاع صمتها الظاهري الذي يخفي وراءه إيقاعا هادرا، ما لبث أن ظهرا في انفجارها وهى تحمل حقدا دفينا لـ “حسن” الذي أفقدها فرصة الإنجاب بفعل شيطاني رجيم.
ربما أفرط المسلسل في استخدام “الفلاش باك” كآلية تتيح للكاتب قطع التسلسل الزمني أو المكاني للقصة لاستحضار مشاهد ماضية تلقي الضوء على موقف من المواقف أو تعلّق عليه، لكنه لم يصب المشاهد بأي نوع من الارتباك، حيث ارتبط دائما بالتفرقة بين الواقع والماضي فقط، وربما تكون وسيلة التفريق الوحيدة هي قصة البطلة “دنيا” وتغيرها بين الزمنين، لكنها كانت على مستوى الأداء التمثيلي الشخصية الوحيدة التي تتطوّر باستمرار تزامنا مع تطور الأحداث عبر حلقات العمل، رغم تقلباتها النفسية ودخولها وخروجه في علاقات عاطفية، كانت تبدو في بداية تتمتع بقدر من الملائكية على المستوى الخارجي للشخصية، خاصة أنها تتعمد الظهور بـ “استيل” ملابس راقية، تؤكد من خلالها على شفافيتها وتعكس قشرة الطيبة التي كانت هشة وضعيفة في أن تغطي على السوداوية التي تملئ قلبها كي تهدئ قليلا من شرورها الدفينة.
تركيب جسم “ريهام” على الشخصية جاء موفقا جدا من حيث العمر، الطول، لون الجلد والشعر والعينين وما إلي ذلك من عناصر تكوين هذا البعد المادي للشخصية، فهذا البعد يعطي لنظرة الشخصية في الحياة لونا معيناعن غيرها من الشخصيات ويؤثر فيها تأثيرا مباشرا، وربما تمتعها بقدر من الجمال أثر كثيرا على إثارة نزعتي الخوف والأمل في نفس المشاهد، الخوف علي مصير “دنيا”، والأمل في نجاتها وتم ذلك عن طريق إثارة اهتمام المشاهد عن طريق تحريك شئ من القلق الممزوج بالمتعة، هذا الاهتمام خلق ترقباً لنتيجة ما لفترة زمنية محددة حتي إذا فجرت الذروة المسببة لذلك التوقع حدث إشباع الاهتمام.
ليس نسخة فوتوغرافية للواقع
أجمل ما في مسلسل “لما كنا صغيريين هو الحوار الذي أتقن كتابته “أيمن سلامة” بطريقة تدفع إلي تطوير الحدث الدرامي، ومن ثم تنتفي وظيفته كعامل زخرفي خالص، بل يعبر عما يميز الشخصية من الناحية الجسمية والنفسية والاجتماعية والبيولوجية، كما يولد في المشاهد الإحساس بأنه مشابه للواقع مع أنه ليس نسخة فوتوغرافية للواقع المعاش، ما يوحي بأنه نتيجة أخذ ورد بين الشخصيتين المتحاورتين وليس مجرد ملاحظات لغوية تنطق بالتبادل، كما يعتبر الحوار أوضح جزء فى هذا العمل الدرامى الرائع، حيث كان أقرب إلى أفئدة الجماهير وأسماعهم ويعبر به الكاتب عن الأحداث المقبلة والجارية فى المسلسل وعن الشخصيات ومراحل تطورها.
وكما هو معروف فإن الحوار الجيد هو الذى تدل كل كلمة فيه على معنى يكشف عن حقيقة معينة ويعبر عن تلك الحقيقة تعبيرا دقيقا لا مبالغة فيه أو إفتعال، لأنه الوسيط الذى يحمل العمل الدرامى إلى أسماع المتلقين، فالحوار أداة التخاطب والسمة التى تشيع الحياة والجاذبية فى الدراما، وهى خاصية تميز الدراما عن سائر الصور الأدبية، كما أن الحوار الدرامى يخضع لطبيعة الجماهير وطبيعة العمل الفنى، فهو حوار ليس من أجل الشخصيات والأحداث فحسب، وإنما من أجل المشاهد، فالمشاهد هو الطرف الثالث فى الحوار، كما أنه جزء أساسي فى الحوار الدرامى، وهناك فرق بين الحوار الدرامى والمحادثة اليومية، فالمحادثة هى الكلام فى الحياة ولا يوجد بها طرف ثالث، لهذا لا ينبغى أن يكون الحوار الدرامى صورة طبق الأصل من الأحاديث اليومية، لأن نقل العمل الخاص فى الحياة إلى العمل الدرامى لا يعطى أي متعة للمتلقى، وهو ما تحقق على وجه احترافي وصحيح في مسلسل “لما كنا صغيرين”.
تحية تقدير واحترام للمولف “أيمن سلامة” في جدارته على كتابة نص بليغ استطاع بالتعاون مع المخرج “محمد على” أن يستنفر الطاقات التمثيلية الكامنة داخل فريق عمل مسلسل “لما كنا صغيرين”، وعلى رأسهم بالتأكيد الكبيرين قامة وقيمة “محمود حميدة وخالد النبوي” واللذين منحا “ريهام حجاج” تذكرة العبور إلى شاطئ الأمان الدرامي الناضج خاصة مشاهد ما قبل إعدامها، وساهم في صناعة مسلسل يتسم بالإثارة دون إسراف، والتشويق دون أدني إحساس بالملل والمط والتطويل الذي طال كثيرا من أعمال رمضان هذا الموسم، وفوق هذا ذاك يبقى التقدير والاحترام للمنتج “أحمد عبد العاطي” في تحمله التبعات المالية الضخمة لخروج هذه العمل على تلك الصورة المبهرة، والتي تؤكد على ريادة مصر الدرامية، رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد في ظل جائحة كورونا.