رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمى فتح  يكتب: (محمد رضا).. حكاية المعلم الذي لا يُنسى !

رسمى فتح  يكتب: (محمد رضا).. حكاية المعلم الذي لا يُنسى !
لم يغادرنا تمامًا؛ بقي صوتُه يضحك، وخطواته تملأ المسرح

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

في ذاكرة السينما المصرية، تلك التي تختزن ضحكات الناس ودموعهم ودهشتهم، يطل (محمد رضا).. لا كممثل عابر، ولا كنجم عاش لحظة وانطفأ، بل كروح شعبية خالصة، من تلك الأرواح التي تمشي في الشارع قبل أن تظهر على  الشاشة.

كان (محمد رضا)، ابن أسيوط، مولودًا في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1921، يحمل خليطًا عجيبًا من الرزانة والدعابة، ومن ذكاء ابن البلد وحساسيته، ومن موهبة لا تعرف التكلّف.

وحين رحل في فبراير 1995، لم يغادرنا تمامًا؛ بقي صوتُه يضحك، وخطواته تملأ المسرح، و(المعلم) الذي ابتكره يعيش في ذاكرة أولاد البلد حتى اليوم.

رسمى فتح  يكتب: (محمد رضا).. حكاية المعلم الذي لا يُنسى !
التحق بكلية الهندسة – قسم البترول – ومدّ أمامه خطًا مستقيمًا نحو حياة كلاسيكية

المهندس الذي خبّأ داخله ممثلًا

قبل أن يعرفه الجمهور بشخصية (المعلم)، كان (محمد رضا) شابًا يحلم بمستقبل علمي.. التحق بكلية الهندسة – قسم البترول – ومدّ أمامه خطًا مستقيمًا نحو حياة كلاسيكية.. لكنّ القدر كان قد فتح له بابًا آخر، بابًا فيه ضوء وإيقاع وخشبة مسرح.

اكتشف( محمد رضا) شغفه بالتمثيل، فالتحق بمعهد الفنون المسرحية.. وهناك، وسط نصوص شكسبير وراسين وموليير، تشرّب روح المسرح العالمي، وأدّى أدوارًا كانت تتطلب رصانة ورشاقة وهدوءًا: ضابط، مهندس، دكتور… أدوار بلا (كرش) كما كان يقول .

كان يبحث عن نفسه، عن تلك الشخصية التي ستصنع بينه وبين الجمهور رابطًا لا ينفصم.

رسمى فتح  يكتب: (محمد رضا).. حكاية المعلم الذي لا يُنسى !
جاءت لحظة مصادفة، لحظة بدت بسيطة، لكنها غيّرت حياته كلها

صدفة صنعت أسطورة

يحكي (محمد رضا) في لقائه مع الإذاعي الكبير الراحل (وجدي الحكيم) أنه في الخمسينيات كان لا يزال تائهًا بين الشخصيات، ثم جاءت لحظة مصادفة، لحظة بدت بسيطة، لكنها غيّرت حياته كلها.

عام 1958، وبينما كان يعمل في المسرح الحر، بدأت عروض مسرحية زقاق المدق، وهناك جاءه دور (المعلم كرشة) يقول: (أدين بالفضل لكمال ياسين… هو اللي شافني معلم قبل ما أشوفها أنا)

منذ تلك اللحظة، فتحت أبواب شخصية (المعلم)، جاء دور المعلم خنصر في عفريت الست، مع فريد شوقي وهدى سلطان وسامية جمال.. نجح الدور نجاحًا كبيرًا، لكنه – للأسف – لم يُسجَّل للتليفزيون.

ثم توالت المعلمين: (معلم فرن، معلم قهوة، جزار، صاحب سرجة).. كلهم (ولاد بلد)، لكن كل واحد منهم كان له قلبه ونبرته وطبعه.. بعضهم طيب، وبعضهم شديد، وبعضهم مخلوط بالدهاء الشعبي الذي يعرفه المصريون جيدًا.

وحين سألوه هل ضاق من تكرار شخصية المعلم؟ هز رأسه وقال: (أنا ما مليتش.. بالعكس.. أنا حبيت المعلم، وحبيت أولاد البلد أكتر).

كان بينه وبين الناس تبادل مشاعر حقيقي.. ينتقدون ملابسه، يضيفون له ملاحظات، يرسلون رسائل ساخرة لزملائه الذين يلعبون نفس الدور..لقد صار واحدًا منهم.

رسمى فتح  يكتب: (محمد رضا).. حكاية المعلم الذي لا يُنسى !
من أمتع الذكريات التي رواها محمد رضا عن شخصية (المعلم)، تلك الخاصة بصديقه المقرب المعلم شعراوي

اللحظة التي قلبت المشهد

من أمتع الذكريات التي رواها محمد رضا عن شخصية (المعلم)، تلك الخاصة بصديقه المقرب المعلم شعراوي أثناء عرض مسرحية عسكر وحرامية.

كان (محمد رضا) يؤدي شخصية المعلم أحمد المليان.. رجل نافذ يورد الخضار للجمعية التعاونية. يساعده شخص اسمه نخلة، لعبه الراحل إبراهيم سعفان.

في النص، كان المعلم يضطهد (نخلة)، لكن الأحداث تقلب الطاولة ويصبح نخلة شخصية قوية داخل الجمعية.

وفي أحد المشاهد، يفترض أن (يركب) نخلة المعلم ويجعل (محمد رضا) ينخّ على يده ورجله يركبه كحمار.

عند تلك اللحظة، صرخ المعلم شعراوي من بين الجمهور: (ده كلام فاااارغ!)، وقف، وخرج غاضبًا من المسرح.

يحكي (محمد رضا) القصة وهو يضحك، ثم يضيف معناها: (التابع ممكن يسيطر على المتبوع.. لو المتبوع ساب له إيده).. كانت تلك اللحظة درسًا مسرحيًا وإنسانيًا، خلاصة علاقة القوة حين تنقلب.

رسمى فتح  يكتب: (محمد رضا).. حكاية المعلم الذي لا يُنسى !
ابتكر (محمد رضا) طريقة كلام كاملة، طريقة سبّبت له مشكلة مع مجمع اللغة العربية

جنجل أبو شفطورة

لم يكن (المعلم) حكرًا على المسرح فقط.. في السينما، خصوصًا في فيلم (30 يوم في السجن) عام 1966، صنع (محمد رضا) شخصية من أعذب شخصياته (المعلم جنجل أبو شفطورة).. حرامي الغسيل الشهير، صاحب هواية قص الحبال، وموهبة أكثر شهرة: (قص الكلا) – أي الكلام – بطريقته الساخرة اللاذعة التي لا تُنسى.

ابتكر (محمد رضا) طريقة كلام كاملة، طريقة سبّبت له مشكلة مع مجمع اللغة العربية، الذي حذّره ممازحًا من (إفساد اللغة).. لكن الجمهور لم يكتفِ بحب الشخصية.. بل قلّدها..

خرجت إلى الشارع، إلى القهاوي، إلى النوادي.. تحوّلت إلى جزء من نسيج الضحك المصري.

كان (جنجل أبو شفطورة) لصًا ظريفًا، نعم.. لكنه أيضًا مرآة للدهاء الشعبي، للإنسان الذي يعيش بذكائه أكثر مما يعيش بماله.

رسمى فتح  يكتب: (محمد رضا).. حكاية المعلم الذي لا يُنسى !
ما فعله (محمد رضا) بشخصية (المعلم) لم يكن تكرارًا ميكانيكيًا

أدوار المعلم.. ليست قوالب

ما فعله (محمد رضا) بشخصية (المعلم) لم يكن تكرارًا ميكانيكيًا.. كان كل معلم يحمل تاريخًا، وشارعًا، ولهجة، ومشية، ونَفَسًا، وضحكة.. كان يرسم الشخصية كما يرسم رسّام وجهًا مختلفًا كل مرة: مرة غليظًا، مرة طيبًا، مرة مخادعًا، مرة راجل صاحب أصل.. ولذلك صار (المعلم) عند (محمد رضا) أيقونة، لا دورًا.

(محمد رضا) لم يكن مجرد ممثل يضحك الناس.. كان شاعرًا يرسم مجتمعًا كاملًا في لقطة.

كان يعرف قيمة التفاصيل: لفة العمة،صوت الخطوة، رائحة القهوة، وطريقة رفع اليد حين يقول المعلم (إسمع يا ابني).. كان يجسّد الشارع، لكن بلمسة حب، بلمسة فهم، بلمسة فنان أصيل.

رسمى فتح  يكتب: (محمد رضا).. حكاية المعلم الذي لا يُنسى !
توقف صوت محمد رضا، لكن شخصياته لم تتوقف، ولن تتوقف

رحيل الجسد.. بقاء الحكاية

في 21 فبراير 1995، توقف صوت محمد رضا، لكن شخصياته لم تتوقف، ولن تتوقف.

(المعلم كرشة، خنصر، جنجل أبو شفطورة، زينهم، رضا بوند).. كلهم ظلّوا يعيشون بين الناس، في الذاكرة الشعبية، في بيوت أولاد البلد.. وفي كل مرة يضحك فيها مشاهد على نبرة (محمد رضا) أو إفيه له، كأنه يمد يده من زمن آخر ويقول: (لسه المعلم هنا.. ما مشيتش).

(محمد رضا).. المعلم الذي أحبّه الناس، وأحبّهم، وصنع من ضحكتهم تاريخًا لايُنسى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.