رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر
صوت (فيروز) ليس مجرد أغنية، إنه نهر من الزمن

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

إذا أردت أن تسافر عبر الزمن فاستمع إلى (فيروز).

وإن رغبت أن تجاور القمر فاجعلها جليسك.

وإن كنت من عشّاق الشتاء فدعها تنثر عليك مطرها.

 وحتى في قيظ أغسطس، حين تتصبب الأرواح عطشًا، يكفي أن ينساب صوتها ليغدو الهواء نديًّا منعشًا.

 وإن اشتقت القدس، تلك المدينة التي ما زالت محمولة على أكتاف الأنين، فلن تحتاج إلى طائرة ولا جواز سفر: يكفي أن تغمض عينيك، وتسمعها تقول: (زهرة المدائن).

أما إذا خطر لك أن تتساءل عن الجنة، فلن تجد بابًا يفتحها لك أقرب من هذا الصوت؛ ليس لأنها طريق إليها، بل لأنك حين تسمعها تشعر أنك فيها.

صوت (فيروز) ليس مجرد أغنية، إنه نهر من الزمن.

حين تستمع إليها، لا تعرف إن كان الصوت قد جاءك من أعماق القرون الماضية، أم أنه يتسلل من أفق المستقبل الذي لم يأتِ بعد.. كأنها رسول بين زمنين: تحمل حنين الأمس، وتكتب موسيقى الغد.

هى بنت بيت متواضع في بيروت، لكنها خرجت منه كأنها خرجت من أسطورة، لتصبح صوت وطنٍ كامل، وصوت أرواح تبحث عن خلاصها.

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر
ولدت (فيروز)، جارة القمر، في بيتٍ متواضع من بيوت بيروت الشرقية

زهرة في بيت بسيط

ولدت (فيروز)، جارة القمر، في بيتٍ متواضع من بيوت بيروت الشرقية.

 كان البيت عادى جدا لكنه لم يكن يخلو من غنى الأرواح؛ هناك، بين الأزقة، تفتحت على الأناشيد البسيطة والتراتيل، وكان صوتها في الطفولة يدهش كل من سمعه، كأنه نداءٌ يخرج من قلب بعيد.

لم تكن تدري أن ذلك الصوت سيصبح فيما بعد وطنًا متنقلًا في أذن كل عربي، وبيتًا ثانيًا لكل غريب، ونافذةً لكل محبّ.

اكتُشفت موهبتها وهى طفلة في المدرسة.. كان (محمد فليفل) الكشاف الموسيقي الذي اعتاد أن يجوب المدارس باحثًا عن أصوات نادرة، يصغي للتلاميذ كمن يصغي إلى ينابيع خفية.

وحين سمعها، أيقن أن هذا الصوت لا بد أن يُصقل، فاصطحبها إلى معهد الموسيقى.. هناك بدأت الغناء في برنامج إذاعي مخصص للأغاني الوطنية، حيث أعطيت مقاطع منفردة لشدْوها.

تقول (فيروز): (كنت أحب الغناء جدًا، وكان انضمامي إلى الكورس في الإذاعة بمثابة تمرين ومتعة لي معًا).

وفي الإذاعة نفسها، كان اللقاء الأول مع (عاصي الرحباني).. رشحها له بعض الموسيقيين ليستمع إلى صوتها، وكان يومها موسيقيًا في فرقة الإذاعة ويقدم حفلات.. تحكي (فيروز) عن ذلك اللقاء الأول مبتسمة: (قلت عنه وقتها دمه تقيل… وبعد خمس سنوات تزوجناه وتزوجني القدر معه).

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر
جاء اللقاء الذي بدّل مسارها: الأخوين (عاصي ومنصور الرحباني)

الرئة التي تنفست منها الأغنية

ثم جاء اللقاء الذي بدّل مسارها: الأخوين (عاصي ومنصور الرحباني).. لم يكتشفا مجرد صوت؛ بل اكتشفا قارة جديدة.

(فيروز) لم تكن مطربة تنتظر لحنًا، بل كانت حنجرة تنتظر كونًا كاملاً يُبنى حولها.. نسج الرحابنة لها عالمًا فيه القرى،والضيعة، والعشاق البسطاء، وصوت الأجراس، ورائحة التنور.

ومن هناك بدأت الحكاية التي لن تنتهي.

مع (عاصي)، لم تكن مجرد زوجة أو رفيقة، بل كانت النصف الذي لا يُستغنى عنه في معادلة الفن؛ أنظر إليه عندما يقف على المسرح خلفها لقيادة الفرقة الموسيقية، وبمجرد دخولها يعطى ظهره إلى الفرقة وينظر إليها بلهفة العشاق وكأنه يراها لأول مرة.

هو كان يلحن كأنه يرسم بيوتًا حجرية على سفوح الجبال، وهي كانت تغني فتجعل هذه البيوت تسكن القلوب.

(منصور) كان يكتب كلمات تضيء مثل قناديل القرى، وفيروز حين تشدو بها، يتحول الكلام إلى نوافذ مفتوحة على الروح.

أغاني تلك المرحلة ليست مجرد أناشيد؛ هى صور حياة كاملة: (رجعت الشتوية، نسم علينا الهوى، بكتب اسمك يا حبيبي، سنرجع يومًا).. كلها ليست أغنيات فقط، بل يوميات روح عربية تائهة تبحث عن أمل، عن حب، عن أرض.

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر
لم تكتفِ فيروز والرحابنة بالغناء؛ أرادوا أن يبنوا عالمًا كاملاً على المسرح

المسرحيات.. قُرى على الخشبة

لم تكتفِ فيروز والرحابنة بالغناء؛ أرادوا أن يبنوا عالمًا كاملاً على المسرح.. فكانت المسرحيات الرحبانية التي صارت وطنًا متخيَّلًا، نلجأ إليه كلما ضاقت بنا الأوطان الحقيقية، في (بياع الخواتم، جسر القمر، وميس الريم) وغيرها، تحولت الأغنية إلى حكاية، والموسيقى إلى حياة يومية.

ضيعة (فيروز) لم تكن ضيعة جغرافية، بل ضيعة حلم: حيث الشرير ينكسر في النهاية، وحيث الخير يظل أقوى، وحيث العاشق ينتصر بدموعه.

 كان المسرح عندها صورة مكبَّرة للذاكرة الجماعية، وجواز سفر إلى القرية الأولى التي نحملها جميعًا في داخلنا.

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر
فيروز وزياد

زياد الرحباني.. مرارة المدينة

لكن الزمن لا يظل على حاله؛ بعد عاصي ومنصور، جاء زمن زياد، ابنها وامتدادها، لكنه في الوقت نفسه كان ثورة عليها.

 إذا كان صوت (فيروز) مع الرحابنة يشبه صباحات الندى، فإنه مع زياد صار يشبه ليالي المدن المبللة بالأسى.

لحن لها (زياد) أغان مثل (عودك رنان، سألوني الناس، كيفك إنت؟).

هنا لم تعد (فيروز) فقط صوت القرية الحالمة، بل صارت صوت المدينة المرهقة، صوت الوحدة، صوت الوجع الذي يختبئ خلف القهوة المرة.

(زياد) وضعها في مواجهة الأسئلة الصعبة: عن الحب الذي ينهار، عن العمر الذي يمضي، عن السياسة التي تلوث الأرواح.. ومع ذلك، ظل صوتها يخفف من القسوة، كأنه يزرع وردًا في شقوق الأسفلت.

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر
لم يفت الكبار أن يتوقفوا أمام هذا الصوت؛ حين التقاها الموسيقار (محمد عبد الوهاب)

محمد عبد الوهاب.. لقاء الكبار

ولم يفت الكبار أن يتوقفوا أمام هذا الصوت؛ حين التقاها الموسيقار (محمد عبد الوهاب)، قال: (إنها صوت لا يكرره الزمن)، وغنت له ألحانًا قليلة لكنها خالدة: (سكن الليل، مرّ بي)، كان عبد الوهاب يعرف أنه أمام صوتٍ لا يحتاج إلى كثير من الزينة: يكفي أن تعطيه لحنًا بسيطًا، ليحوّله إلى معجزة.

لا يمكن أن نذكر (فيروز) دون أن نذكر القدس.. صوتها هناك لم يكن غناءً فقط، بل صلاة. في (زهرة المدائن) تتحول فيروز إلى قديسة تغني للأرض المغتصبة.

 لا تسمع الأغنية كأغنية سياسية فحسب، بل كوصية، كجرس كنيسة يقرع في قلب كل عربي، كأذان يخرج من جرح مفتوح. إنها تجعل القدس حاضرة في كل بيت، في كل إذاعة صباحية، في كل قلب.

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر
في كل بيت عربي، هناك تقليد خفي: أن يبدأ الصباح بصوت (فيروز)

فيروز والصباح العربي

في كل بيت عربي، هناك تقليد خفي: أن يبدأ الصباح بصوت (فيروز).

لا فرق بين مغربي وخليجي ومصري ولبناني: كلهم يعرفون أن يومًا يبدأ بفيروز هو يومٌ يمكن أن يُحتمل.

 إنها أيقونة الصباح، ورفيقة القهوة، وجرس المدرسة الأول؛ صارت جزءًا من ذاكرة الشعوب، حتى أن غيابها يعني أن الذاكرة نفسها تُصاب بالخرس.

حين نقول إن صوت (فيروز) سفر عبر الزمن، لا نقول مجازًا فقط؛ أنت حين تسمعها، تشعر أنك في القرية التي تركها أجدادك منذ قرون، وتشعر أيضًا أنك في مدينة لم تُبْنَ بعد. صوتها يحنّ إلى الماضي ويستشرف المستقبل في آنٍ واحد.

فهل هى صوت قادم من العصور القديمة، من التراتيل الأولى في المعابد والكنائس؟، أم أنها صوت المستقبل، حيث سيكون الإنسان أكثر صفاءً، وأكثر عطشًا إلى الروح؟ الجواب لا يهم؛ المهم أنها قادرة أن تأخذك إلى حيث لا يأخذك أحد.

رسمي فتح الله يكتب: (فيروز).. السفر عبر الزمن، والجوار مع القمر
(فيروز) ليست مطربة فقط؛ إنها نافذة على أرواحنا

نافذة الروح

(فيروز) ليست مطربة فقط؛ إنها نافذة على أرواحنا.

كل أغنية لها ليست مجرد لحن وكلمات، بل هي حجر في بناء وجدان أمة كاملة.

مع عاصي ومنصور، غنّت للأمل والضيعة. مع زياد، غنّت للألم والمدينة.

مع (عبد الوهاب)، التقت بكبار الزمن.. ومع القدس، تحولت إلى صلاة جماعية.

فإن أردت أن تسافر عبر الزمن، فاجعلها رفيقتك. وإن رغبت أن تجاور القمر، فاجعلها نديمتك. وإن أحببت الشتاء، فستجدها مطرًا دائمًا.. وإن هزّك الحنين إلى القدس، فهي بوابتك إليها. وإن أردت أن تغوص في دفء الموسيقى والروح، فاستمع إليها.. فهي (فيروز)، الصوت الذي يظل معك، حاضرًا في كل زمان ومكان، ويأخذك حيث يلتقي الحلم بالواقع، والماضي بالمستقبل، والقمر بالأرض.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.