رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

بهاء الدين يوسف يكتب: من قلبي سلام.. لـ (فيروز)، وليس لبيروت!

بهاء الدين يوسف يكتب: من قلبي سلام.. لـ (فيروز)، وليس لبيروت!
قيروز وزياد.. عبقري الموسيقى قي شبابه المبكر

بقلم الكاتب الصحفي: بهاء الدين يوسف

واحدة من أعذب الترانيم التي شدت بها الرائعة (فيروز)، تخاطب السيدة مريم العذراء وكأنها تتنبأ بما سوف يحدث لها شخصيا، فتقول:

كيف عشتِ بعد موت الحبيب؟

كيف جرت الدموع فيكِ

وما انكسر القلب؟

أحياةٌ لوالدة

وقد مات ولدها؟

بقدر ما كان الحدث أليما، كان ضروريا أن يحدث، وان تفجع (جارة الوادي) في ابنها البكر ووريث فنها العبقري، ابنها (زياد الرحباني)، لتكون الفاجعة هى الختام النموذجي لحياة حافلة بالمآسي والمعاناة في حياتها الخاصة، بقدر ما كانت حافلة بالأعمال العظيمة الخالدة في حياتها الفنية.

كأنني أسمع صوت قيثارة الوادي (فيروز) يرن في أذني وهو تترنم بصوت متهدج بالبكاء:

ليش يا ابني؟

ليش يا نور قلبي؟

ليش تركتني؟

ليش سمحت للدنيا تقتلك؟

حبيبي يا ولداه

أنا أمك يا يسوع

أنا اللي حملتك ببطني

وضميتك بقلبي

وبكيتك بعيوني.

دون أن تدري أن صوت بكائها المكتوم لم يكن يعبر فقط عن لوعة فقدان السيدة مريم العذراء لولدها المسيح عليه السلام، وإنما يعبر عن لوعة سوف تضرب قلب (فيروز) نفسها في يوم لاحق.

بهاء الدين يوسف يكتب: من قلبي سلام.. لـ (فيروز)، وليس لبيروت!
هل دفعت (فيروز) ثمنا باهظا للمسة الكآبة التي حملتها معظم اغانيها

العبقرية لا تنمو في السكينة

الأديب الروسي الكبير دوستويفسكي له عبارة خالدة قال فيها (إن العبقرية هى الألم الكبير الذي لا يفهمه أحد)، ويذهب المفكر جورج طرابيشي الى معنى قريب من ذلك في عبارته التي تقول أن (العبقرية لا تنمو في السكينة بل في الجراح)، وقد كانت حياة (فيروز) خليط مدهش من العبقرية والجراح.

وتجلت العبقرية في قدرتها على تحويل كل آلامها الى أغنيات ناجحة مست قلوب الملايين من عشاق فنها، في تجسيد للمقولة القديمة الشهيرة التي حاولت تلخيص حياة الرسام العبقري فان جوخ فقالت (ليست العبقرية في إنتاج الجمال فحسب، بل في القدرة على تحويل الجرح إلى أغنية)، وهو ما واظبت (فيروز) على فعله طوال حياتها.

هل دفعت (فيروز) ثمنا باهظا للمسة الكآبة التي حملتها معظم اغانيها، وجربت تذوق مرارة الفقد ولوعة الغياب، مثلما شدت من قبل في (رجعت الشتوية، كان عنا طاحونة، سالوني الناس)؟ يذهب البعض إلى هذا التفسير متأثرين بمقولة الفيلسوف الألماني نيتشة أن (من ينظر إلى الهاوية طويلًا، ستنظر إليه الهاوية أيضًا).

لكن هل يمكن تصنيف فن (فيروز) باعتباره مأسويا؟!، أرى أن السؤال نفسه تجنيا عليها، فهي ليست مجرد صوت كئيب، بل هى صوت الحياة بكل ألوانها، وأغانيها أقرب إلى حالة وجدانية تأملية، ربما  تمنح الحزن مساحة أكبر باعتباره ركنا أساسيا من التجربة الإنسانية.

كما أن من يتجهون لذلك التفسير يتجاهلون أن الأغاني المحفوفة بالكآبة، لم تكن استباقا للحزن وإنما انعكاسا ونتيجة له، فمثلا اغنية (سألوني الناس) قدمتها (فيروز) بعد إصابة زوجها (عاصي الرحباني) بنزيف دماغي حاد، كما أن أغنية (رجعت الشتوية) غنتها بعد رحيل ابنتها (ليال).

بهاء الدين يوسف يكتب: من قلبي سلام.. لـ (فيروز)، وليس لبيروت!
كأن قلب الأم المكلومة هو الذي يصرخ بالحزن وليس صوتها

قلب الأم المكلومة

وكان منطقيا ومفهوما أن تطرح فيها كل ما كانت تشعر به وقتها من ألم، بل كانت تبدو وكأن قلب الأم المكلومة هو الذي يصرخ بالحزن وليس صوتها وهي تقول:

رجعت الشتوية وقلبي حزين

ما عاد في أحلام

كل شيء راح وانتهى

والحب مات في زماني

المآسي الشخصية في حياة (فيروز) بدأت مبكرا بالخلافات مع زوجها ورفيق رحلتها الفنية (عاصي)، مرورا بأبنها (هلي) الذي ولد معاقا، ثم كانت الطامة الكبرى في الحرب الأهلية اللبنانية، ثم موت (عاصي) وموت ابنتها (ليال) في عز شبابها.

ثم إقدام أولاد (منصور الرحباني) شقيق زوجها وعم أولادها لجرها إلى المحاكم بعد وفاته، ومحاولة استصدار حكم بمنعها من أداء 25 أغنية من تراث الأخوين رحباني على المسرح، ما لم تحصل على إذن منهم وتدفع لهم حقوقًا مادية.

لم تقف مآسي (فيروز) عند ذلك وإنما امتدت لتشهد الخلاف مع أبنها البكر الذي شرب منها كل عبقريتها الفنية، ومن والده عناده وتصلبه، وصولا الى وفاته، ليتركها وحيدة دون سند إنساني أو فني، في عمر هي أحوج ما تكون فيه الى السند والى الونس.

من قلبي سلام.. هذه المرة أستأذن ألا يكون لبيروت كما شدت هى قبل عقود بألحان زياد، وإنما من قلبي سلام لفيروز.. جارة الوادي، بصوتها الذي يذكرنا بماضينا وكل ما فيه من انتصارات وانكسارات، الذي خلق لنا عالما من الخيال الجميل، هون على الكثيرين منا متاعب رحلة الحياة لكنه أخفق دائما في أن يجبر قلبها المكسور.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.