

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
منذ إحراقه قبل 55 عاما وحتى يومنا هذا، تتوالى الانتهاكات الإسرائيلية بحق (المسجد الأقصى) المبارك، ويتضاعف الخطر عليه، مع تحوّل استهدافه وتهويده من أجندة هامشية لجماعات استيطانية متطرفة محدودة العدد والتأثير، ليصبح هدفا مركزيا للحكومة الإسرائيلية، مع انتقال المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف بشكل متزايد.
هذا التحوّل نحو (المسجد الأقصى) لم يبقَ حبيس الكواليس، بل تُرجم سياسيا بوصول شخصيات متطرفة إلى سُدّة الحكم، أبرزهم رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو)، والوزير (إيتمار بن غفير) الذي تولّى حقيبة (الأمن القومي) ويُعدّ أحد أقرب السياسيين إلى تلك الجماعات المتطرفة.
وفي مشهد غير مسبوق منذ احتلال القدس عام 1967، يشهد (المسجد الأقصى) موجة متصاعدة من الاقتحامات الاستفزازية، والتي تجاوزت حدود العبث إلى محاولة فرض أمر واقع جديد، وخلال هذا الأسبوع، اقتحم نحو 7 آلاف مستوطن ساحات الحرم القدسي، في مشهد يعكس تحوّلا خطيرا في مسار الصراع.
لم يتوقف الأمر عند الاقتحامات، بل انتقل إلى حرب نفسية وتحريضية جديدة تقودها الجمعيات الاستعمارية وغلاة المتطرفين، فقبل أيام قليلة ومع بدء التحضيرات للإحتفال بالأعياد اليهودية، نشرت حسابات إسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماع مقطع فيديو بتقنية الذكاء الاصطناعي يظهر قيام جماعات إسرائيلية متطرفة بتفجير المسجد الأقصى ومحاولة إقامة الهيكل المزعوم.
المقطع المتداول على نطاق واسع داخل إسرائيل وخارجها، يظهر هدم (المسجد الأقصى) خلال العام القادم، ومحاولاتهم المستمرة لهدم بيت المقدس، كما يُظهر، قيام الجماعات اليهودية المتطرفة بتفجير (المسجد الأقصى)، كمحاولة لإقامة الهيكل المزعوم، وكُتب على المقطع باللغة العبرية (العام القادم في القدس).
وأثار المقطع المتداول، حالة من الغضب العربي والإسلامي وكذلك بين نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في كافة أرجاء العالم، الذين عبروا عن مخاوفهم حيال تنفيذ المخطط.

تحذيرات فلسطينية
في هذا السياق حذر المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية الشيخ (محمد حسين) من خطورة المقطع المصور، معرباً عن شجبه لهذا التحريض الصارخ ضد (المسجد الأقصى) المبارك الذي تقوده جمعيات استعمارية وغلاة المتطرفين وينشر في الوضع الراهن بالتزامن مع تصعيد الاقتحامات والسماح للمتطرفين بممارسات استفزازية بحماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي .
كما حمل سلطات الاحتلال الإسرائيلي تبعات هذا العدوان الذي يستفز مشاعر المسلمين في أنحاء العالم كافة محذرا من تداعياته الخطيرة، وأهاب الشيخ (حسين) بأحرار العالم وأصحاب القرار فيه ضرورة وضع حد فوري لما يحدث في (المسجد الأقصى) المبارك واتخاذ الإجراءات والسبل الممكنة لمنع هدم (المسجد الأقصى) المبارك .
كما علّق الدكتور (عبد الله معروف)، أستاذ دراسات بيت المقدس، ومسؤول الإعلام والعلاقات العامة السابق بالمسجد الأقصى، قائلًا: (أكره بشدة أن أنشر دعايةً للمتطرفين.. ولكن هذه الدعاية الوقحة التي نشرت بعنوان (العام القادم في القدس) تستحق النشر، لعلها تكون صرخةً مدويةً تصل القلوب وتوقظ النائمين.
أما الباحث المختص في شؤون القدس (فخري أبو دياب)، فاعتبر من جانبه إن ما نشرته الجماعات اليهودية المتطرفة من فيديو غير حقيقي لحريق مندلع في (المسجد الأقصى)، خطير جدًا وينم عن مرحلة متقدمة جدًا في نية هؤلاء فرض وقائع تهويدية وازالة المسجد المبارك.
وقال: هذا الفيديو مستفز وخطير، ويشير إلى أنه من الواضح جدًا أن هناك محاولات جدية الآن للمساس بالمسجد الأقصى، مبينًا أن هذا المخطط هو ما يحلم ويخطط له غلاة المستوطنين وما يسمى بجماعة الهيكل، وتابع (لا يخفى على أحد نية جماعات الهيكل والاحتلال بشكل عام ازالة هذا المعلم الهام، واقامة الهيكل المزعوم مكانه، بدعم مباشر من حكومة الاحتلال).
معرباً عن خشيته من أن تنتقل هذه الأفلام وهذه المؤامرات والمخططات إلى التنفيذ على أرض الواقع، مستغلين الظروف والأوضاع وما يدور في المنطقة، والمجازر التي يقوم بها الاحتلال في قطاع غزة.
ومؤكداً على أن هذا تحريض واضح على (المسجد الأقصى) المبارك أحد أهم أماكن العبادة لدى المسلمين، لكن هؤلاء أمنوا العقوبة لأنه حكومة الاحتلال تدعمهم بصورة مباشرة.

جس نبض الأمة
وقال (أبو دياب) إن هذا التسريب قد يكون لجس نبض الأمة، لذلك سربوا هذا المقطع لمعرفة نبض الشارع العربي وقبل ذلك المقدسي والفلسطيني، وأردف: (أظن أن على الأمة الآن أن تعي تمامًا أن (المسجد الأقصى) الآن في خطر حقيقي، وليس مجرد جمل يطلقها هؤلاء، لذلك بعد هذا الدعم من (بن غفير) وجماعة الهيكل أظن أن هؤلاء مقدمون ويخططون الآن لأمر ما في (المسجد الأقصى) المبارك)
من جانبها حذرت الخارجية الفلسطينية من خطورة هذا المخطط الذي تروج لتنفيذه جماعات استعمارية متطرفة، معتبرة المخطط بمثابة (تحريضا ممنهجا لتصعيد استهداف المقدسات المسيحية والإسلامية بالقدس المحتلة، لا سيما وأن اليمين الإسرائيلي الحاكم بات لديه شعور بقدرته على تنفيذ مخططاته التهويدية التوسعية والعنصرية).
مطالبة المجتمع الدولي التعامل بجدية مع هذا التحريض، واتخاذ الإجراءات التي يفرضها القانون الدولي لوضع حد لاستفراد الحكومة الإسرائيلية بالشعب الفلسطيني، خاصة وأن الفيديو الذي نشرت حسابات عبرية على مستوى واسعة كتب عليه: (العام القادم في القدس).
يكشف هذا المقطع المتداول المخطط الإسرائيلي لهدم (المسجد الأقصى) والمحاولات المستمرة بل والمستميتة لهدم بيت المقدس، وهو ما يُعد بمثابة محاولة لاستفزاز مشاعر المسلمين، خاصة أن هذا المخطط يسير في هذا الاتجاه بداية من محاولة تهجير سكان مدينة القدس ومرورا باقتحامات المسجد الأقصى المتكررة وإقامة صلوات تلموديه لفرض الأمر الواقع.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها المقدسات الإسلامية للانتهاك، إذ سبق حريق المسجد الأقصى عام 1969، كما اقتحام (أرئيل شارون) للمسجد عام 2000، الذي أدى إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
بالتزامن مع نشر هذا المقطع وتداوله، تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنباء مفادها قيام عددٌ من الوزراء وأعضاء الكنيست الحاليين والسابقين عن أحزاب الليكود بزعامة (نتنياهو)، والصهيونية الدينية بزعامة (سموتريتش) والعظمة اليهودية بزعامة (بن غفير)، بإرسال رسالةً إلى أعضاء الكونجرس الأمريكي.
يطالبون فيها بإصدار الكونجرس الأمريكي تشريعًا يعترف بالحقوق الدينية الأبدية للشعب اليهودي في جبل المعبد (المسجد الأقصى) المبارك)

تسريب مشروعٍ جديد
كما أتت هذه التحركات المتسارعة، ليعقبها مباشرةً تسريب مشروعٍ جديد تسعى جماعات المعبد المتطرفة لتطبيقه في (المسجد الأقصى) خلال فترة (عيد الفِصح العبري) والذي يعد أحد أهم مواسم الاقتحامات والاعتداءات السنوية على المسجد بمحاولة تقديم القرابين الحيوانية في المسجد.
هذا المشروع الذي بدأت دوائر تيار الصهيونية الدينية تدرس كيفية تطبيقه، يأتي تحت اسم مشروع (المعمدوت).
وفي هذا الصدد، أطلق أحد الأكاديميين المتدينين المتطرفين في إسرائيل، وهو البروفيسور (هليل فايس) من معهد (السنهدرين) (أي معهد كبار الحاخامات)، هذا المشروع الذي تبنته على الفور ما تسمى (إدارة جبل المعبد) التابعة لتيار الصهيونية الدينية.
يقوم هذا المشروع على أساس توفير مجموعةٍ دينية محترفةٍ تسمى (الحرس)، يتم اختيارها من مختلف أنحاء البلاد بعد تقسيمها إلى 24 إقليمًا، كما كان الأمر عليه في عصر المعبد الأول، حسب ما ورد في نص التوراة في سفر (أخبار الأيام)، ويتم ترشيح شخصيات محددة من كل إقليم لكي يكونوا مندوبين عنه.
على أن يكون كل شخص من هؤلاء الكهنة واحدًا من الذين يدّعون انتماءهم لسبط (يهوذا) وسبط (لاوي)، بحيث يتم تدريب هذه المجموعة تدريبًا مكثفًا، ثم تفريغها لتتولى مهمة القيام بكافة الطقوس الدينية المعروفة في المعبد على الشكل الأمثل وباللباس الديني المعتمد لكهنة المعبد، كما هو مذكور في النصوص الدينية اليهودية.
يتناوبون على شكل مجموعات عمل تنشط في أوقات محددة وحسب جداول محددة، بحيث يلتزم كل (حارس) من هؤلاء الكهنة بخدمة (المعبد) في أرض (المسجد الأقصى) مرتين سنويًا لمدة أسبوع، وبالتالي يشارك الكهنة (من سبط يهوذا) واللاويون (من سبط لاوي) فعليًا في جبل المعبد، كما كانت الأمور عليه في الزمن القديم.
ومن ثم يتم تدريب كهنةٍ آخرين على هذه المهمة، بحيث يتم (استئناف) الحياة الدينية الكهنوتية اليهودية داخل المسجد الأقصى، كما كانت عليه في عصر المعبد في المخيال اليهودي بالكامل.
القائم على هذا المشروع، البروفيسور (هليل فايس)، يعلق على مشروعه هذا في مقدمته قائلًا: (هذا هو المشروع الذي يمكن أن يغير وجه جبل المعبد، فلك أن تتخيل الكهنة واللاويين يصعدون في ثيابهم، واللاويين يغنون كل يوم، والكفارة (أي القرابين) تتم كل يوم بفرح، حتى لو كانت خارج جبل المعبد مبدئيًا.

تغيير وجه (جبل المعبد)
ما يقصده (فايس) بتغيير وجه (جبل المعبد) فعليًا هو تغيير الوضع القائم في (المسجد الأقصى) المبارك، ليصبح الوجود الديني اليهودي فيه مربوطًا باللباس والأدوات الدينية التي تصورها الأساطير الدينية التي تؤمن بها هذه الجماعات، لا مجرد وجود شخصي لمستوطنين يقتحمون المسجد بأي زيٍّ وبأي هيئةٍ كانت.
لكن الجديد هذه المرة هو ربط هذه العملية بتعيين مجموعة من (السدنة) ورجال الدين بشكل رسمي، بما يشبه تمامًا سدنةً وحراس وأئمة (المسجد الأقصى) المبارك المعينين رسميًا في دائرة الأوقاف الإسلامية، فيتحول الوجود اليهودي في المسجد إلى وجود رسمي بمسمياتٍ ووظائف وملابس خاصة وأدواتٍ محددة تستعملها هذه المجموعات.
ولا تعود مسألة الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى مجرد عملٍ شعبي غير مؤطر، بل يتحول إلى عملٍ مؤسسيٍّ له أوقات (دوام) و(مناوبات) تشبه تمامًا الإدارة الإسلامية الرسمية للمسجد الأقصى وموظفيه، ويتحول هؤلاء المتطرفون إلى (موظفين) في وظائف دينية رسمية في المسجد الأقصى.
خطورة هذا المشروع وغيره من الأحداث المتسارعة في القدس الشريف، تنبع من كونه الخطوة التي كان المستوطنون ينتظرون تطبيقها بتحويل وجودهم في الأقصى إلى وجودٍ دائمٍ طبيعي غير طارئ، وليس مجرد وجودٍ يتعلق بساعاتٍ محددةٍ لدخول المسجد أو حتى الدخول والخروج من مسارات محددة.
وسيكون على المسلمين في هذه الحالة التسليم بأن للمسجد الأقصى إدارتَين: واحدة إسلامية، والثانية يهودية، مع كل ما يعنيه ذلك من تغول الإدارة التي ترعاها دولة الاحتلال بالطبع على (المسجد الأقصى) وعلى حقوق المسلمين في الأقصى.
إجمالاً فإن مسألة تقاسم السيادة على (المسجد الأقصى) لم تعد مجرد حلمٍ بعيد المنال لدى هذه الجماعات، بل إنها اليوم باتت تسعى بكل جهدها لتحويل هذه القضية إلى واقعٍ محسوسٍ على الأرض، وهي تتسلح في مسعاها هذا بالصمت المطبق والتسليم التام الذي نراه للأسف أمام خطوات الاحتلال التي تتقدم بثباتٍ داخل (المسجد الأقصى) المبارك.
وخاصةً في شهر رمضان الفائت الذي جعل الاحتلال فيه وجوده داخل المسجد طبيعيًا لدرجةِ أننا رأينا اعتقالاتٍ تتم داخل (المسجد الأقصى) للمصورين والصحفيين في وجود عشرات الآلاف من المسلمين، ومن بين أظهرهم دون أي ردة فعل تذكر، وللحديث بقية.