

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
مساء السبت الخامس من إبريل الجاري، وخلال احتفال أقامته شركة (مايكروسوفت) بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسها، قاطعت (ابتهال أبو السعد)، المبرمجة في الشركة كلمة المدير التنفيذي لقطاع الذكاء الاصطناعي (مصطفى سليمان) احتجاجاً على علاقات الشركة مع إسرائيل، وقالت : (أنت من تجار الحرب.. توقف عن استخدام الذكاء الاصطناعي في الإبادة الجماعية).
صرخت (ابتهال أبو السعد)، في وجه (سليمان)، قائلة: (أيديكم ملطخة بدماء الأطفال.. كيف تحتفلون بينما تساهمون في القتل؟).
وفي بيان لاحق لها، أوضحت (ابتهال أبو السعد)، أنها تعمل في قسم الذكاء الاصطناعي بالشركة منذ ثلاث سنوات ونصف، لكنها لم تعد قادرة على الصمت بعدما اكتشفت أن تقنيات الشركة تُستخدم في دعم جيش الاحتلال الإسرائيلي.
لتؤكد في البيان ذاته أنها قررت الخروج عن صمتها بعدما اكتشفت أن شركة (مايكروسوفت) تشارك في تطوير تقنيات تُستخدم في دعم الجيش الإسرائيلي،
وأضافت أن الشركة أبرمت عقدًا مع وزارة الدفاع الإسرائيلية بقيمة 133 مليون دولار لتخزين بيانات ضخمة عبر خدمة Microsoft Azure، ما يُساهم في مراقبة الفلسطينيين.
لم تلتفت (ابتهال أبو السعد)، إلى تبعات ما قامت به، ولم تأبه بالمضايقات التي قد تطاولها وقد تصل حد الفصل من العمل وهو ما جرى بالفعل الإعلان عنه مساء الإثنين 7 إبريل بحسب وسائل إعلام أمريكية.
كانت (ابتهال أبو السعد)، تعمل في شركة عملاقة هي حلم لكثيرين، لكنها فضلت المواقف على التمتع بامتيازات القرب من كبار مسؤولي الشركة ونعيمهم، كانت تستمع لضميرها الإنساني فقط، ولم تأبه بأن دفاعها عن القضية الفلسطينية ورفضها للقتل والإبادة والتطهير العرقي سيجر عليها الويلات، ليس فقط الطرد، بل قد يصل إلى حد الملاحقة القانونية، واختارت الكلمة.. كلمة الحق.
وكانت كلماتها صرخات مدوية، بل كانت صوت الجميع ضد الإبادة والقتل والتهجير والتمييز العنصري.. كان مشهدًا بطوليًّا تحولت معه ابتهال أبو سعد إلى بطلة وأيقونة ورمز للمرأة العربية المناضلة والحرة الشريفة رفضت الظلم واستمعت لضميرها الإنساني.

من هى ابتهال أبو سعد:
(ابتهال أبو سعد)، مهندسة ومبرمجة من أصول مغربية، خريجة جامعة هارفارد، ومتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، انضمت إلى قسم الذكاء الاصطناعي في شركة مايكروسوفت ضمن فريق تطوير تقنيات متقدمة، بما في ذلك الخدمات السحابية مثل Microsoft Azure. وهى جزء من الفريق الذي يطور تقنيات تُستخدم في مجالات مثل المراقبة والتحليل البياني.
وبعد الحادثة المثيرة للجدل، أكدت (ابتهال أبو السعد)، أنها حاولت أكثر من مرة الاعتراض على سياسات الشركة بشأن دعم الاحتلال الإسرائيلي، ولكن محاولاتها قوبلت بالتجاهل والمضايقات.. وأوضحت أنها تعرضت للطرد والتهديد بعد محاولتها تنظيم التعبير عن آرائها. كما لفتت إلى أنه تم طرد موظفين آخرين لمجرد أنهم نظموا وقفة تضامنية مع غزة.
بدأت (ابتهال أبو سعد) حملة للدعوة إلى مقاطعة تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي. حيث دعت زملاءها في شركة مايكروسوفت للتوقيع على عريضة تدعو إلى وقف بيع هذه التقنيات.
كلمات (ابتهال أبو سعد) جاءت في ظل ظروف مأساوية يعيشها قطاع غزة وأهله مع تواصل العدوان الإسرائيلي بلا هوادة أو توقف للحظة واحدة فضحه الإعلام الدولى ولازال يفضحه رغماً عن حالة اللامبالاة الإسرائيلية.

كسر جدار الصمت
الأكثر دهشة هو أن الإعلام الإسرائيلي وأن كان مجنداً في خدمة هذا العدوان، لكن هناك من يساهم بقدر ما في فضح ما يجرى على أرض غزة في الخفاء، ومن بينهم منظمة (كسر الصمت) ببيانها الصادر مساء الإثنين 7 إبريل الجاري، والذى روت فيه فيه تفاصيل عن انتهاكات جيش الاحتلال خلال فتح ما وصفوها بأنها (منطقة قتل) في محور نتساريم وسط قطاع غزة التي بدت “مثل هيروشيما” حسب وصف أحدهم.
يستند التقرير إلى شهادات جنود شاركوا في عملية المنطقة العازلة في قطاع غزة، والتي تم توسيعها ليكون عمقها ما بين 800 و1500 متر داخل القطاع بحلول ديسمبر 2024، وتقول إسرائيل إن المنطقة العازلة المحيطة بغزة ضرورية لمنع تكرار ما وقع في هجوم السابع من أكتوبر 2023، الذي شنته المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة (حماس).
وتزعم إسرائيل أن مقاتلي المقاومة تدفقوا عبر المنطقة العازلة – التي كان عمقها في السابق 300 متر – لمهاجمة عدد من المستوطنات في غلاف القطاع، وقال جنود إن القوات الإسرائيلية استخدمت في المراحل المبكرة لتوسيع المنطقة الجرافات والحفارات الثقيلة.
إلى جانب آلاف الألغام والمتفجرات، في تدمير نحو 3500 مبنى، بالإضافة إلى مناطق زراعية وصناعية كان من الممكن أن تكون حيوية في إعادة الإعمار بعد الحرب.
كان تقرير منفصل صادر عن منظمة (جيشاة – مسلك) الحقوقية الإسرائيلية قد أشار إلى تدمير نحو 35% من الأراضي الزراعية في غزة، ومعظمها على أطراف القطاع، ونقل التقرير عن جندي احتياط خدم في سلاح المدرعات قوله (في واقع الأمر، كنا نأتي على الأخضر واليابس، كل شيء، كل مبنى وكل منشأة)، وقال جندي آخر إن المنطقة بدت (مثل هيروشيما).
وقالت منظمة (كسر الصمت)، التي أسسها مجموعة من الجنود الإسرائيليين السابقين تهدف إلى رفع مستوى الوعي بتجربة الجنود الذين يخدمون في الضفة الغربية المحتلة وغزة، إنها تحدثت إلى جنود شاركوا في عملية الخط الحدودي ونقلت أقوالهم دون ذكر أسمائهم.
ووصف جندي من وحدة الهندسة القتالية الصدمة التي شعر بها عندما رأى الدمار الذي خلفه بالفعل القصف الأولي للمنطقة الشمالية من قطاع غزة عندما أرسلت وحدته لأول مرة لبدء عمليتها للتطهير.
وقال (كان الأمر يتخطى حدود الواقع، حتى قبل أن ندمر المنازل عندما دخلنا. كان يبدو غير واقعي كما لو كنت في فيلم)، وأضاف: (ما رأيته هناك حسبما بدا لي كان يتجاوز ما أستطيع تبريره إذا احتجت لفعل ذلك. الأمر يرتبط بمدى تناسب ذلك مع الواقع).
وتحدث الجنود عن تجريف للأراضي الزراعية ومنها أشجار الزيتون وحقول الباذنجان وغيرها، وذلك علاوة على تدمير مناطق ومنشآت صناعية، من بينها مصنع لكوكا كولا وشركة للصناعات الدوائية، وتحدث أحد الجنود عن (منطقة صناعية ضخمة ومصانع كبيرة تحولت إلى كومة من الركام والخرسانة المحطمة).

لا يوجد نظام للمساءلة
ولم يُسمح للفلسطينيين بدخول المنطقة، وكان الجيش يُطلق عليهم النيران إذا حاولوا، لكن التقرير نقل عن جنود قولهم إن قواعد الاشتباك فضفاضة وتعتمد بشكل كبير على القادة الميدانيين، وقال القائد في سلاح المدرعات (يتخذ القادة قرارات متنوعة بهذا الشأن، لذا فالأمر في النهاية يعتمد على شخصياتهم. لكن لا يوجد نظام للمساءلة عموما).
ونقل التقرير عن جندي آخر قوله إن الذكور البالغين الذين شُوهدوا في المنطقة العازلة قُتلوا، لكن كانت نيران تحذيرية تُطلق إذا كانوا من النساء أو الأطفال، وأضاف (في معظم الأحيان، كان الأشخاص الذين يدخلون المنطقة العازلة من البالغين. ولم يدخل الأطفال أو النساء تلك المنطقة).
لا يقف الأمر عن هذا الحد، إذ أثار الكاتب الإسرائيلي (روغل ألفر) في مقال ناري نشرته صحيفة (هآرتس) تساؤلات لاذعة حول المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في رفح جنوبي قطاع غزة ليلة 23 مارس الماضي، عندما أطلقت النار على قافلة إغاثة فلسطينية تضم سيارة إسعاف وعددا من سيارات الدفاع المدني، ما أدى إلى استشهاد 15 من عمال الإغاثة.
مؤكداً أن جيش الاحتلال لن يقدم على الاعتراف بهذه الجريمة علنًا، لأن ذلك سيقيد عمله، كما أن ثقافته التي تتطابق مع ثقافة المجتمع الإسرائيلي ترى أن الفلسطيني هدف يجب تدميره، ويقول (ألفر) إن ما حدث في تلك الليلة لم يعد محل جدل أو رواية متضاربة، بل أصبح من (الحقائق المتفق عليها عالميا).
مشيرا إلى أن القافلة كانت تتحرك بأضواء الطوارئ الساطعة عندما اقتربت من جنود الجيش الإسرائيلي، الذين أطلقوا النار عليها وقتلوا من فيها، ويضيف (بعد أيام قليلة، تم العثور على الجثث والسيارات المحطمة مدفونة في الرمال)، وهو ما يعد دليلا على محاولة التستر على الجريمة.
وبررت قوات الاحتلال الجريمة بالقول إن المركبات كانت تتحرك بشكل مريب، وإن معظم القتلى ينتمون إلى حركة حماس، زاعمة أن الجنود دفنوا الجثث مؤقتا حتى لا تلتهمها الكلاب والضباع.
بَيد أن هذه الادعاءات، بحسب (ألفر)، لم تصمد أمام شهادات شهود عيان فلسطينيين وصور ومقاطع فيديو نشرتها وسائل إعلام أمريكية وبريطانية، أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن القافلة كانت تحمل علامات واضحة لمركبات الطوارئ، وأن (الضحايا أُعدموا بإطلاق النار من مسافة قريبة، وبعضهم عُثر عليه مكبل الأيدي أو الأقدام).

توثيق لحظة إطلاق النار
وسلط (ألفر) الضوء على الفيديو الذي عُثر عليه في هاتف أحد المسعفين القتلى، ونشرته صحيفة (نيويورك تايمز)، وهو يوثق لحظة إطلاق النار قبل أن يُعثر عليه -لاحقا- قتيلًا برصاصة في الرأس، وعلق على ذلك بقوله (تشير الشهادات إلى وقوع مذبحة بحق عمال الإغاثة، جريمة حرب، لكن جيش الدفاع الإسرائيلي يواصل إنكاره).
وحمل الكاتب مسؤولية هذه الجريمة لِلواء (جولاني)، الذي أُسندت إليه مهام تنفيذ العملية، مشيرا إلى أن قائد كتيبة في هذا اللواء قال لجنوده عشية دخولهم إلى غزة: (كل من تقابلونه هو عدو. تحديد شخصية – تدميرها)، وهى عبارة يرى فيها (ألفر) تعبيرا واضحا عن العقيدة القتالية المتوحشة التي تحكم سلوك الجنود في الميدان.
ورغم إعلان رئيس الأركان الإسرائيلي (إيال زامير) عن فتح تحقيق في الحادث، شكك الكاتب في قدرة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على الاعتراف بالجريمة علنا، متسائلا (هل يستطيع المتحدث باسم الجيش الظهور على شاشة التلفزيون والقول بالعبرية أو بالإنجليزية إن الجيش يعتذر عن مقتل 15 من عمال الإغاثة الأبرياء هل يستطيع الاعتراف بأن بعضهم أُعدموا من مسافة قريبة؟، هل هو قادر على الاعتراف بأن الجنود كذبوا؟).
ويضيف (ألفر) أنه في حال صدور مثل هذا الاعتراف، فإنه سيجبر الجيش الإسرائيلي على التوقف عن التعامل مع فرق الإغاثة كأهداف عسكرية، وسيقيد حرية تحركه الميداني، ويتابع (مثل هذا الاعتراف سيصعّب كثيرا على رئيس الأركان أن يتصرف كما فعل في ليلة 18 مارس، حين أمر بقصف جوي مكثف أسفر عن مقتل مئات الفلسطينيين الأبرياء، من نساء وأطفال ورجال، دون تمييز).
لم يكتف (ألفر) بتوجيه اللوم للجيش، بل وسع دائرة الاتهام لتشمل المجتمع الإسرائيلي بأكمله، الذي يرى فيه (شريكا في الجريمة)، إذ يرى أن (الرأي العام الإسرائيلي مستعد دوما لتبرير الفظائع، ولن يحتمل فكرة تقييد حرية الجيش تحت أي ذريعة قانونية)، مستشهدا بردود الفعل التي حدثت في قضية الجندي إيلور عزاريا، الذي أعدم شابا فلسطينيا جريحا عام 2016.

تعاطف مع أهل غزة
ويذهب (ألفر) إلى أبعد من ذلك في تشريحه للموقف الإسرائيلي من سكان غزة، (بحسب الرؤية الإسرائيلية فإن جميع سكان غزة هم وحوش. حتى أولئك الذين يعملون في منظمات الإغاثة. وأطفالهم أيضًا.. يستحق الجميع رصاصة في الرأس من مسافة قريبة، أو صاروخًا في غرفة المعيشة.
ويضيف: (بما أن الجيش يزعم أن حماس تستخدم مركبات الإنقاذ لنقل المسلحين، فإن كل مركبة إنقاذ هي تلقائيا هدف يجب تدميره، سواء كانت مزودة بأضواء ساطعة أم لا. لا يوجد أي تعاطف مع أهل غزة).
وختم الكاتب مقاله: (باعتراف شخصي يعكس حجم القطيعة الأخلاقية بين الإسرائيليين وسكان غزة)، حيث يقول (لم يجرؤ أحد على تصديق أن المسعف كان يعمل بالفعل في منظمة إغاثة، وأن ساقيه كانتا مقيدتين بالفعل، وأنه تعرض لإطلاق نار في رأسه من مسافة قريبة بينما كان يصلي من أجل حياته، ويقول: (المشكلة العميقة، والتي لن يحلها أي تحقيق، هي أن المجتمع الإسرائيلي لا ينظر إلى المذبحة باعتبارها جريمة حرب، بل باعتبارها دفاعا عن النفس).
وأن كان بين (ابتهال أبو سعد) و ( ألفر) مسافة بعيدة، لكن تظل هناك مسافة قريبة تجمعهما، وهى إمكانية النطق بالحق وسط هذا الكم اللامتنهى من الغدر والعدوان والبطش والظلم.. وللحدبث بقية.