بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
(الممثل المحترف) هو الذي امتهن التمثيل، وقد أصبح التمثيل مصدر حصوله على المال، وهذ النوع من الممثلين، لا يعمل من فراغ، بل يعتمد في عمله على ما يريد المشاهدين رؤيته، وإلا أصبح عمله لا قيمة له ومن الأصلح إلا يمتهن هذه المهنة التمثيلية.
وإذا ما عدنا إلي مصر القديمة ، سوف نجد أن مهنة (الممثل المحترف) كانت موجودة، وبعيدة كل البعد عن ما يقدم في المعابد المصرية من عروض تمثيلية، بل (الممثل المحترف) كان يعمل طوال العام في تقديم العروض المسرحية.
وهذا ما تعرفنا عليه من لوحة ادفو وهى تخص ممثل مصري قديم يدعى (إمحب) وجاء فيها: كنت ذاك الذي يتبع سيده في كل جولاته دون ضعف في الأداء.. ولقد أرد على سيدي كل أدواره: فإذا (قام بدور) الإله كنت (أقوم بدور) الحاكم، وإذا أمات أَحْيَيت، ونقف عن هذا الجزء مما جاء في اللوحة.
ونحاول أن تصور ما كان يقوم به هذا الممثل في العروض المسرحية، ونلاحظ أن الممثل الرئيسي كان يمثل دور الإله، والممثل (إمحب) كان يمثل دور الحاكم، ومن هذ الفقرة نكتشف أن (الممثل المحترف)، كان يمثل موضوعات بعيدة عن أسطورة (إيزيس و أوزيريس).
ويمكننا القول بالرغم من أن موضوعات هذه العروض ( المسرحية ) لم تصل إلينا، إلا إنها تخص الحياة الاجتماعية المصرية القديمة، فلأول مرة في المسرح المصري القديم، تظهر شخصية بشرية ليس لها صفة الألوهية، داخل العرض المسرحي المصري القديم.
وهذه الشخصية شخصية الحاكم الذي كان يمثله (إمحب)، ولا نعرف للأسف هل كان يمثل شخصية الحاكم لمصر (الفرعون أو الملك) أم يمثل شخصية حاكم الإقليم، ولكن ما يعنينا في هذا الحديث ، ظهور الشخصية البشرية التي رفعت عنها صفة القداسة، ودخول المسرح المصري القديم في الحياة الاجتماعية المصرية القديمة.
شخصية إله، وشخصية حاكم
ومن الطبيعي سوف تختلف الموضوعات عن التي تقدم في المعابد، ويكون مصدر هذه الموضوعات مستمد من الحياة الاجتماعية المصرية، وفق ما يريد الجمهور مشاهدته، وإلا كانت هذه العروض بلا قيمة ولا تدر دخلا على الممثلين، ولهذا تعتمد الفرقة المسرحية على الموضوعات التي تأثر بها الناس في حياتهم الاجتماعية.
هذا بالنسبة للموضوع، أما لشخصيات العمل المسرحي التي سوف يؤديها الممثلون سوف تكون مصادر أداء هذه الشخصيات مستمدة من الصورة العامة الاجتماعية للجمهور عن هذه الشخصيات ، ومن لوحة ادفو نجد شخصية إله، وشخصية حاكم.
و(الممثل المحترف) الذي سوف يؤدي شخصية الإله سوف يستمد تدريباته من الكهنة الذين قدموا الصورة الجسدية عن هذه الشخصية، وبالطبع تلك الصورة يعرفها الجمهور، إذا أول ما يركز عليه الممثل في أدائه لشخصية إلاهية.
شكل الشخصية الجسماني وهيئته التي سوف يظهر عليها في صورة جسدية إنسانية، أو صورة جسدية بقناع حيواني ، ويتدرب على جميع الحركات الجسمانية التي رسمها الكهنة والتي يعرفها الجمهور (وهذه الحركات تشكل علامات للشخصية مرسومة من قبل الكهنة – على سبيل المثل حركة الأذرع.. حركات القدم.. إلخ).
وعندما يتمكن (الممثل المحترف) في التدريب على الحركات الجسدية للشخصية، يسبح بخياله في تصور هذه الشخصية داخل الحياة الخاصة بها في مسرح أحداثها، والذى ابتدعه الكهنة في التحدث عن الحياة الخاصة بالآلهة وأماكن إقامتها ، وعلاقتهم ببعضهم وصفة قرابتهم.. وهكذا).
وبعد ذلك يشاهد هذه الشخصية، وما تمثله من صورة ذهنية لدى الجمهور، وموضوع هذه الشخصية داخل العمل، وبعد هذه التدريبات الجسدية والخيالية، ستدفق المشاعر الداخلية للمثل معبرة عن تلك الشخصية ، وما يحب أن يراه الجمهور منها في حياته.
هذا بالنسبة للشخصية الإلهية التي جاءت في لوحة ادفو، وعن الشخصية الثانية والتي كان يؤديها (إمحب)، وهى شخصية الحاكم، نلحظ أن هذه الشخصية بشرية، والتدريب على تلك الشخصية لا يخص الكهنة، بل يخص الحاكم البشري.
وفي التدريب على هذه الشخصية سوف يعتمد (الممثل المحترف) إمحب على مصادر أداء مختلفة مستمدة من الحياة العامة للحاكم، وصورة الحاكم التي يظهر بها أمام الشعب ، ولهذا عليه القيام بالتدريب ، على الحركات الجسمانية لأوضاع حكام مصر، في ظهورهم أمام الشعب، مثل حركات الجلوس، الإيماءات، والإشارات.. إلخ.
ويدخل في تصور حياة الحاكم مع معاونيه، ومع الشعب، إلا أن تنطبع هذه التصورات في ذهنه، وعند أدائه الشخصية يستحضر ما في ذهنه من هذه التصورات، ليخرج الأداء التمثيلي مغلف بالمشاعر الخاصة بتلك الشخصية، لكي ترتبط جميع شخصيات العرض بالصورة الذهنية الوجدانية لجمهور المشاهدين.
إمحب.. الممثل المحترف
ومن المؤسف أن لوحة ادفو لم تنقل موضوع العرض المسرحي، ولكن من ذكر فيها، يمكننا من استنباط الشكل التمثيلي للممثلين، وهذا الاستنباط بني على ما وصل إلينا من برديات، ولوحات جدارية، توضح اهتمام المصري القديم بالشكل الجسدي للشخصيات.
وما لحظة على الجداريات من تمثيل الأوضاع الجسدية لسائر الحرف المصرية التي كان يمارسها المصري القديم من زراعة وصيد، حتى مهنة الطب اهتم بظهور الآلة الطبية وحركة الذراع ووضعيته الخاصة بالطبيب ، ووضعية المريض أمام الطبيب.
مما يؤكد على أسلوب التمثيل المسرحي الذي حاولنا استنباطه من لوحة ادفو والخاصة بالممثل المحترف المصري، ومن أهم ما جاء بهذه اللوحة، أن العروض المسرحية كانت تقدم في أماكن كثير في إقليم مصر.
وهذا ما نجده في (السطر 12) فنعرف أن (إمحب) انحدر معه (رئيس الفرقة – الممثل الأساسي) إلى الجنوب حتى بلده (مبو) على أطراف النوبة، كما يصعد معه إلى الشمال حتى مدينة (أواريس) التي كانت قد استخلصت للمرة الثانية من أيدي الهكسوس.
وهذا الوصف للمدن التي عمل بها (إمحب)، يؤكد على أن العروض كانت تقدم في ربوع مصر، ولكن ما يهمنا في هذا الوصف، أنه يضع أيدينا على المكان المسرحي الذي تتم في هذه العروض.
ونلاحظ أن أماكن تقديم العروض، ليست ثابتة، بل متغيرة، من مكان إلى مكان، وبالطبع سوف يتم العرض في مكان يحدده الجمهور للفرقة، وهو المتاح لهم، والمساحة المكانية سوف تختلف من حيث الحجم من بلد إلي بلد، ولهذا سوف يضع المخرج حلول إخراجية خاصة بالمساحة المكانية للعرض.
وبالتالي سوف يتدرب الممثل على التمثيل وفق الحيز المكاني، بالإضافة إلي التدريبات السابقة الذكر، وسوف يكون كل عرض من عروض الفرقة به رؤية إخراجية تتفق مع طبيعة المكان الذي سوف يتم فيه العرض.
وقد ظهر هذا النوع من العروض في مصر الحديثة، وأطلق على الفرق المسرحية اسم المحبظين المختلفة في المعتقد مع المعتقد المصري القديم، ولكنها تتفق في طريقة التمثيل المتوارثة من مصر القديمة القائمة على الأسس والقواعد الفنية للعرض المسرحي.
وهذه الفرق كانت تقدم عروضها في أماكن متعددة، إلا أن المنظرين لفن عروض المحبظين، لم يلتفتوا إلى الأساليب الإخراجية لتلك العروض وفق المساحة المكانية المتغيرة، وكيفية تعامل الممثل مع هذه المساحات المكانية بحيث لا تؤثر على الصورة الأدائية التي سوف يمثلها ويحب أن يراها الجمهور.
وبهذا نكون قد قدمنا طريقة من طرق التمثيل لـ (الممثل المحترف)، وكيفية تقديم فن التمثيل في مساحات متنوعة.