بقلم: رسمي فتح الله
في ليالي القاهرة الهادئة، حيث كان الفن لا يزال يحمل روح الأصالة، وقف (حسن البارودي) أمام المرآة في غرفة المكياج بإحدى المسارح العريقة.
كانت يداه النحيلتان تتحسسان وجهه الهزيل، كأنهما تستدعيان الملامح التي سيتقمصها لتجسيد شخصيته الجديدة.
لم يكن (حسن البارودي) مجرد ممثل يقف على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، بل كان (صانع أرواح)، ينحت المواقف الإنسانية بأدائه الفريد وصوته الذي يكاد يُشعرك أنه يأتي من أعماق الحكمة البشرية.
في عينيه البارقتين، وفي جسده الهزيل، كان يحمل إرثًا فنيًا عميقًا امتد من المسرح إلى السينما العالمية.
الحب والخيانة في نظرة هادئة
في فيلم (الطريق)، قدم حسن البارودي أحد أكثر أدواره تعقيدًا وإنسانية.. لعب دور الزوج المسن لشادية، التي وقعت في حب رشدي أباظة، النزيل الغريب الذي جاء يبحث عن والده الغائب.
(حسن البارودي)، صاحب الفندق، كان يجسد شخصية الزوج الذي ربما يشعر بمرارة الزمن وقسوته، لكنه لا يصرخ أو يثور.
كانت ملامحه المتعبة وصوته العميق هما أداته لرسم تلك الشخصية التي تثير في نفس المشاهد تساؤلات عن الحب، الغدر، والصراع الإنساني بين الواجب والرغبة.
في أحد المشاهد المؤثرة، يقف (حسن البارودي) ينظر إلى شادية بعينيه المرهقتين، وكأنه يدرك الخيانة دون أن ينطق بها.
كان صمته مليئًا بالكلمات، ونظرته تحمل ألمًا لم يُعبر عنه بالكلمات.. كانت شخصيته تجسيدًا للحكمة الموجوعة، لرجل يدرك أن الحياة قد تركته وراءها، لكنه يرفض أن ينكسر أمامها.
الشر باسم الدين
أما في فيلم (الزوجة الثانية) فكان دور (مبروك العطار) أحد العلامات البارزة في مسيرته الفنية.
في تلك القرية البسيطة، كان العطار هو اليد اليمنى للعمدة الظالم (صلاح منصور).. كان بارعًا في استخدام الدين كوسيلة للهيمنة، بلسان يحمل كلمات تبدو حكيمة، لكنها تحمل خنجر الخبث بين طياتها.
في أحد المشاهد الشهيرة، يلتفت (حسن البارودي) إلى شكري سرحان، الفلاح البسيط الذي أجبره العمدة على طلاق زوجته (سعاد حسني)، ليقول له بنبرة أشبه بالسم الناعم:
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)
تلك الكلمات كانت تمزج بين الوصاية والتسلط، تُظهر الشر في قناع الفضيلة.. صوت (حسن البارودي)، المنخفض الواثق، كان هو مفتاح الشخصية.
لم يكن بحاجة إلى صراخ، فكل ما احتاجه كان نظرة واحدة، وكلمة بطيئة مدروسة، لتترك المشاهد في حالة من الانبهار والخوف.
الرحمة في عالم مضطرب
وفي (باب الحديد)، قدم (حسن البارودي) درسًا آخر في الأداء الراقي.. لعب دور (عم مدبولي)، بائع الجرائد الحكيم، الذي كان بمثابة صوت الرحمة والعقلانية في محطة تعج بالفوضى.. كان (مدبولي) شخصية مليئة بالإنسانية، تتعامل مع الجميع برقة وصبر.
عندما وقف (قناوي/ يوسف شاهين) ممسكًا بسكينه، غارقًا في اضطرابه النفسي، كان (مدبولي) هو الوحيد الذي اقترب منه بلا خوف.
بصوته العميق المطمئن، قال له: (انت زعلان ليه؟ ده أنا هجوزك هنومة، والمهر جايبهولك معايا في جيبي أهو).
كانت تلك الجملة كافية لإطفاء النيران المتأججة داخل (قناوي)، ولإظهار كيف يمكن للحكمة أن تكون أقوى من أي تهديد.
أداة البارودي السحرية
ما جعل (حسن البارودي) فريدًا عن أقرانه لم يكن فقط موهبته التمثيلية، بل صوته الذي كان أداة سحرية بحد ذاته.. كان صوته يحمل نبرة هادئة، لكنها تحمل في طياتها عالماً من المعاني.. عندما يتحدث، كانت كلماته تُلقي بظلالها على المشهد بأكمله.
في أدواره الشريرة، كان صوته يخلق شعورًا بالخطر المقترب، أما في أدواره الحكيمة، فكان صوته يمنح المشاهد إحساسًا بالأمان والطمأنينة، وكأنك تجلس أمام أب أو حكيم.
المسرح: حيث بدأ كل شيء
رحلة (حسن البارودي) الفنية بدأت من المسرح. في عام 1923، انضم إلى فرقة حافظ نجيب، ثم انتقل بين فرق (فاطمة رشدي ورمسيس)، قبل أن يؤسس فرقته الخاصة مع الفنانة (نجمة إبراهيم.)
كانت خشبة المسرح هى مدرسته الأولى، وهناك تعلم كيف يجعل من جسده وصوته أدوات تعبيرية متكاملة، تنقل بين المحافظات والسودان، حاملاً معه شعلة الفن المسرحي، قبل أن ينتقل إلى الشاشة الكبيرة.
في عام 1966، شارك (حسن البارودي) في فيلم (الخرطوم)، الذي جمعه بالنجم العالمي (شارلتون هيستون).
كان هذا الفيلم فرصة لإظهار موهبته على مستوى عالمي، حيث جسّد دورًا يعكس الحكمة والوقار، مقدمًا صورة مشرفة للفن المصري أمام العالم.
نهاية الرحلة وبداية الخلود
في عام 1972، قدم (حسن البارودي) آخر أدواره في فيلم (الشيماء)، ليختتم مسيرة امتدت لعدة عقود.
وفي عام 1974، رحل عن عالمنا، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا خالدًا.. لكن حسن البارودي لم يرحل حقًا.
صوته وأدواره ما زالت تعيش بيننا، تحمل لنا دروسًا عن الخير والشر، عن الحكمة والمكر، وعن جمال الفن الذي يخاطب الروح.
في كل مرة نشاهد فيها أفلامه، نستعيد ذلك الفنان العظيم الذي جعل من صوته وجسده الهزيل أدوات لصنع شخصيات ستظل خالدة في ذاكرة السينما المصرية.