(نجيب الريحاني).. ضحكة مصر الأبدية التي لا تموت
بقلم الكاتب الصحفي: رسمي فتح الله
في قلب القاهرة الشعبية، وتحديدًا في حي باب الشعرية، وُلد (نجيب الريحاني) في 21 يناير 1889، حيث التقى الشرق بالغرب في روحه.
ابن لأب عراقي وأم مصرية، جمع بين ثقافتين وأسلوبين، فأصبح (أبو الضحك) الذي يضحك ويُبكي في نفس الوقت.
تلك البيئة الشعبية شكلت رؤيته للحياة والفن، وجعلته ابنًا شرعيًا لضحكات المصريين وأحزانهم.
رحلة البحث عن البسمة
في مدرسة (الفرير) تعلم (نجيب الريحاني) الفرنسية، لكن روحه ظلت تتحدث بلسان المصريين البسطاء، فقد كان هذا الشاب الذي يدرس في الصباح، يتجول في المساء بين المقاهي الشعبية باحثًا عن وجوه الناس البسيطة، ملهمًا بفنهم اليومي.
من هناك بدأت رحلته ليصبح ملك الكوميديا ومخترع فن الضحك المصري.
في فيلم (أبو حلموس)، يظهر (نجيب الريحاني) في شخصية (شحاتة أفندي)، الموظف الذي يعمل في دائرة وقف أحد أثرياء الاتراك، حيث يعكس المشهد بطريقة كوميدية عبقرية (الريحاني) في تسليط الضوء على الفساد المستشري آنذاك.
في مشهد مميز، يجلس شحاتة أفندي غارقًا بين دفاتر الحسابات، فيدخل عليه ناظر الوقف، ويطلب منه أن يكتب رسالة باستخدام الآلة الكاتبة.
يهمهم (شحاتة أفندي) بالموافقة ويتوجه نحو الآلة حيث يبدأ الناظر في إملاء الرسالة:
ناظر الوقف (عباس فارس): (حضرة المحترم مؤنس أفندي يقوت، مرسل لكم طيه كشف بمبلغ 92 جنيه و17 قرش و3 مليم عن قيمة ما صرف في بياض الغرفة البحرية بحارة (أواوير).
وهنا، لا يتمالك (شحاتة أفندي) نفسه ويضحك، ليقاطعه الناظر بنبرة حادة: (إيه يا جدع، فيه إيه؟) فيرد (شحاتة) بتهكم: (أوضة واحدة بيضتوها بـ 92 جنيه؟!
يؤكد الناظر قائلاً: (أيوه)!
فيرد (شحاتة) متعجبًا: (ليه، بيضتوها بلبن زبادي.. بمربى تفاح؟!).
المشهد يبرز عبقرية (نجيب الريحاني) في تحويل موقف عادي إلى نقد اجتماعي ساخر.
أيقونة المسرح المصري
نجيب الريحاني، أيقونة المسرح المصري، الذي تنازل للكاميرا ولكن لم يتنازل للغيرة، وأحد أبرز رواد الكوميديا في القرن العشرين، كان يحمل عبقرية فنية قادرة على السيطرة على خشبة المسرح، ولكن كيف تعامل مع السينما؟
يروي المخرج الراحل (نيازي مصطفى)، الذي عمل مع (نجيب الريحاني) لأول مرة في فيلم (سلامة في خير)، عن جوانب غير مألوفة من شخصية هذا الفنان العظيم.
يؤكد (نيازي) أن (نجيب الريحاني)، بالرغم من مكانته المرموقة على المسرح، كان يُظهر انضباطًا استثنائيًا داخل الاستوديو السينمائي، فقد كان يتقمص دور الجندي المطيع، تاركًا للمخرج كامل السيطرة.
لكن هذا التواضع لم يكن خاليًا من المنافسة.. في أثناء تصوير فيلم (سي عمر)، وهو الفيلم الثانى لنيازى مع (نجيب الريحاني) لعب (عبد الفتاح القصري) دورًا محوريًا حيث قدّم شخصية المجرم (ساطور) الذي يُخضع الريحاني (جابر) لسيطرته، واستطاع بأسلوبه المميز أن يسرق الأضواء في بعض المشاهد.
هذا الأداء أثار غيرة (نجيب الريحاني)، لدرجة أن العمل توقف لمدة شهرين لإعادة كتابة بعض مشاهد (القصري).
هذا الحادث يكشف جانبًا إنسانيًا آخر للريحاني؛ فهو على الرغم من عبقريته ونجوميته، لم يكن بمنأى عن الغيرة الفنية، لكنه تعامل معها بأسلوب مهني يعكس التزامه تجاه العمل السينمائي.
عبقرية الكوميديا المرتجلة
وفي أحد مشاهد فيلم سي عمر، يجتمع الريحاني (جابر افندى ) وعبد الفتاح القصرى (ساطور) على طاولة الطعام.. يُقدم (نجيب الريحاني) ببراعة مشهدًا ساخرًا، حيث ينظر إلى أدوات البلطجة المعلقة على الحائط بجانبه ويسأل نجيب (القصرى):
الريحاني: إيه دول كمان؟
القصري: دي الحاجة زهرة!
الريحاني: أنعم وأكرم! اللي ياخد خبطة من دي، يدعيلك أنت والوالد بالجنة.
ثم يشير (نجيب الريحاني) إلى قطعة ضخمة تشبه الشاكوش ويقول: (والتانية مين بقى حضرتها؟).
القصري: ده عنكب!
الريحاني: أنعم وأكرم! ده من مخلفات الفامليا؟
القصري: لا، ده من منشأتى أنا!
الريحاني: تعيش وتنشأ!
هذا المشهد، رغم بساطته يعكس قدرة (نجيب الريحاني) على خلق الكوميديا المرتجلة التي تستخدم كل تفاصيل المكان والأشياء لتقديم مشهد فكاهي يعكس بساطة المصريين وسخريتهم من واقعهم.
فى مشهد آخر فى نفس الفيلم يقف وكيل عزبة (عمر بك الألفي) بعد أن تلقى الأوامر من عمبد عائلة الألفى (محمد كمال المصرى – شرفنطح) بطرد (جابر أفندي) المحاسب والمدقق الذى يهتم لتفاصيل الحسابات بالعزبة، والذى يتحدى فسادهم بعد أن اكتشف تزوير اختام 500 عامل يتم الصرف بأسمائم دون عمل حقيقي.
الوكيل: أنت سليط اللسان قليل التربية.
جابر افندى: جايز يا فندم بس الحمد لله مش قليل الذمة.
الوكيل: قصدك ايه؟!
جابر أفندى: اعذرني بقى أنا هطق من الغيظ يا سعادة البيه، عزبة زي دي فيها 150 بقرة و 90 جاموسة ومعيز وخرفان ميظهرش فيها كوباية لبن؟.. فراخ وحمام بالكوم مفيش أربع ولا خمس بيضات كده ولا كده!..
نحل زي الغمام يسد علينا عيون الشمس طول النهار زن زن زن أوعى النحل حوش النحل .. مفيش لحسة عسل !
الوكيل: خلصت؟
جابر أفندى: أيوه ، الواحد يفرج عن قلبه شوية هتخنق.. هموت!!
الوكيل: اسمع يا جابر أفندي.. أنا شايف أن ذمتك دي بتتعبك أوي وعلشان أريحك أعلنك بكل سرور أن حضرتك مفصول من الدايرة.
كوميديا الريحاني الفريدة
لم يكن (نجيب الريحاني) مجرد فنان كوميدي، بل كان صانعًا لضحكة مصرية تحمل في طياتها هموم الناس.. في أفلامه مثل (سلامة في خير، وغزل البنات)، قدم (الريحاني) صورة المواطن البسيط الذي يتأرجح بين ضحكات الحياة ودموعها.
كان يعرف كيف يحول المواقف المؤلمة إلى كوميديا تبكي وتضحك في نفس اللحظة، ليصبح صانع الضحكة الحزينة التي يعرفها المصريون جيدًا.
نهاية المسرحية.. وبداية الأسطورة
الريحاني لم يكن وحده في رحلته الكوميدية، فقد جمعته شراكة فنية نادرة مع الكاتب (بديع خيري) معًا، قدما أعمالًا مسرحية خالدة امتزج فيها الذكاء الاجتماعي بالفكاهة الراقية.
في 8 يونيو 1949، أُسدل الستار على حياة (نجيب الريحاني)، لكن ابتسامته وروحه المرحة بقيتا حيّة في ذاكرة الملايين.
كان يعرف أن الفن يخلد صاحبه، وكان يطمح أن تظل ضحكته محفورة في قلوب المصريين، لتكون إرثًا من السعادة الباقية التي لا تموت.