الكاتب والناقد المسرحي ناصر العزبي
شاهدت بمركز الإبداع مسرحية (حاجة تخوف) للمبدع الكبير خالد جلال، وفي حقيقة الأمر؛ لم أخرج بانطباع إيجابي سريع عقب العرض، مثلما اعتدت في كل عروض مشاريع التخرج لدفع الدورات السابقة.
خرجت من العرض وحالي – كما يقال – (مبنج)، وقد أرجأت ذلك لسبب جلوسي على مقعد منتصف الصف الأول مما جعلني أشعر وكأنني مستهدف من أجواء العرض المفزعة.. ربما !
حاولت تحديد انطباعي عن عرض (حاجة تخوف) إلا أنه لم يتشكل في حينه ربما لأن أجواء العرض (مرعبة ومخيفة).. ربما، ولكن العروض السابقة كانت تحوي بعض من اللحظات المخيفة، والكثير من لحظات التوتر، بعض لحظات وليس كلها، هذا هو الفارق إذن.
كان العرض طوال مدته مخيف منذ اللحظة الأولى وحتى لحظته الأخيرة، حتى أن لحظة الانفراجة نفسها لم تكن كافية لتخفف من حالة التي (التنشنة) التي تملكتني، ربما كان السبب في ذلك حالة الإرهاق التي كنت عليها وقت المشاهدة،.. ربما !
إلا أنني انتهيت أخيرا لمعرفة السبب، ألا وهو أن هذا العرض عمل على تيمة الخوف نفسها، وهذا هو مربط الفرس ..
اعتاد (جلال) على أن يفاجئنا في كل مرة بموضوع جديد، ومع كل تجربة يزداد مأزق اختيار الموضوع، ربما يتشابه الشكل كنتاج ورشة، إلا أنه في تلك المرة فاجأنا بموضوع عن (الخوف).
ليقول من خلاله مقولته الجديدة، والتي تتفق مع نفس نهجه (الانتماء الوطني، وصدق الأداء النابع من المعايشة، وحميمية الموضوع).
(حاجة تخوف) العرض الذي تم افتتاحه منذ آواخر يونيو الماضي، مشروع تخرج الدفعة الثالثة من ستوديو المواهب، المجموعة (ب) من مركز الإبداع الفني (دفعة علي فايز).
صاغه وأخرجه خالد جلال، من إنتاج صندوق التنمية الثقافية، وشارك به أكثر من خمسين ممثلاً وممثلة، أمضوا عاماً ونصف العام من التدريب بالمركز، وكان ضمن عروض الدورة الأخيرة من المهرجان القومي ممثلاً لعروض صندوق التنمية الثقافية، وحصد جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
يحظى بجماهيرية واسعة
(حاجة تخوف) يستمر في تقديم عروضه ولا زال يحظى بمشاهدة جماهيرية واسعة حتى الآن، حيث يواصل المخرج خالد جلال كعادته وبحرفية شديدة دوره الريادي مستفيدًا من خبراته كمؤلف وكمدرب وكمكتشف وكمخرج تقديم عروض مشاريع التخرج بمركز الإبداع.
ويحرص على الإعلان عنها إيذانا بمقدم (نجوم جدد)، باعتبار هذا استكمالا لدور المركز، باطلاع المخرجين والمنتجين على موهبة الخرجين لإتاحة فرص العمل لهم، ليس التسويق لهم وفقط؛
بل ومتابعتهم بعد التخرج والمساعدة على تحقيق الانتشار لهم، مما جعل من ورش مركز الإبداع الفني قبلة لكل ممن يمتلك موهبة التمثيل، ينتظر الإعلان عن استقبال دفعا جديدة متطلعا للالتحاق بها، ومنهم خريجي أكاديمية الفنون والكليات المتخصصة.
وهذا على مدار جميع الدفع التي تخرجت من المركز قد منذ افتتاحه، ويشهد بهذا المشهد الفني الحالي بما يحتشد من فنانين أغلبهم ساروا نجوما، هذا؛ وقد بات هناك لعروض التخرج جمهوراً من المنتظرين يترقب نشاط المركز حرصاً على مشاهدتها من الجمهور العادي وليس من المتخصصين فقط.
(حاجة تخوف)، منذ اللحظة الأولى لبدء العرض تجده يدخلك مباشرة في حالة غرائبية، على إثر ضوضاء تنبعث من خلف جمهور الصالة، إذ يحكي عن مجموعة من الناس تعطل بهم الباص – الذي يقلهم – بمكان مقطوع ليس به سوى بيت واحد.
يظهر لهم رجلاً وكأنه حارس أو غفير – وإن بدا وكأنه مريض نفسي – يحمل مصباحا في يده – يدعوهم ليبيتوا بالبيت لليلة لحين تحل مشكلة سيارتهم، وعند دخولهم يتفاجؤون بصاحب البيت وبناته الثلاث غريبو الأطوار، تشي ملامحهم وحركتهم وطريقتهم في الكلام بذلك.
ويرحب بهم صاحب البيت ويخبرهم بأن الأبواب توصد مع المغرب ولا تفتح إلا بطلوع النهار، وأنهم لن يخرجوا إلا بعد طلوع النهار، ويحذرهم من النظر إلى المرايا الموجودة به، ليتسرب إليهم الشعور بأنه بيت مسكون بالأشباح، يظهر أهله – فرادة أو جماعة – فجأة ويختفون فجأة، ويتسرب الخوف لنفوسهم.
أنا معملتش حاجة
وحين يقررون ترك البيت يكتشفوا أنهم محبوسون به، ولم يأخذوا بالتحذير من المرايا، إذ كان كل منهم ينظر إلى المرآة، ويبدو أنها تعكس لهم خفايا داخل نفوسهم يهربون من مواجهتها، ما يترتب عليه تداعي خطايا ارتكبها كل منهم، إذ نجده يردد جملة (أنا معملتش حاجة)..
ومع كل منهم تأخذنا تلك الجملة إلى لوحات متتابعة تستعرض مخاوف أفراد ضيوف البيت، لتبدو وكأنها لحظات للتطهر لإبعاد خوفهم والتخلص من مشاعرهم السلبية، وتلك هي التكئة التي استند إليها مخرج العرض ليبدأ من خلالها نجوم دفعة علي فايز (ضيوف البيت) استعراض قدراتهم وإمكانياتهم التمثيلية.
عبر لوحات استعرضت صورًا متعددة بالمجتمع تستوجب الخوف عبر تيمات مجتمعية مختلفة، منها؛ (تيمة الخوف والوحدة أخر العمر بعد فقد الزوج، تيمة الباحث عن المستقبل ومخاوف الارتباط لدى الشباب، تيمة مشاعر الفنان من ابتعاد الأضواء عنه وزوال شهرته.
تيمة جحود الأبناء، تيمة سطوة الأخ والاستيلاء على ورث البنات، تيمة فقد الأب..)، ومع الاقتراب من نهاية العرض نجدهم يستجمعون قواهم ليقومون بقتل أهل البيت مبعث فكرة الخوف بداخلهم، لينتبهوا لقدرتهم التغلب على المشاعر السلبية، فقط عليهم التعرف عليها والاعتراف بها وتجاوزها.
وهكذا فإن بنية العرض تعتمد على فكرة عامة، تقدم من خلال حكاية لمجموعة تواجه مصير واحد، تحتوي داخلها حكايات بعدد أفراد المجموعة، يطرح من خلالها فكرة تكتمنا على خوف بداخلنا عن أفعال ارتكبناها، نتكتم عليه ونهرب من مواجهته.
وهذا في حقيقته (حاجة تخوف)، وعلينا أن نتأمل ما بداخلنا والاعتراف بما نتهرب منه ومواجهته، حتى نتطهر أو نتخلص منه بما يسمو بنا ويدفعنا للإقدام على الحياة والسعادة.
وقد هيأ المخرج (خالد جلال) مكان العرض ليكون في مستوى واحد بدون منصة تمثيل بحيث يكون المتفرج في نفس المستوى، وألغى المسافة بين جمهور المشاهدين والممثلين ليكونوا جميعا ضيوفا بالبيت الذي تجرى به الأحداث.
وقد عمد في تصميم سينوغرافيا مكان العرض إلى معايشة المشاهدين للأجواء، أعين مرسومة على الحوائط، طغيان للون الأسود، وبعض الأحمر المكان، وملابس حداد الشخصيات، واضاءة خافتة، ولفت انتباههم لجملة (أنا ما عملتش حاجة) كجملة محورية تبدأ بها كل لوحة.
وجملة (لأ عملنا المهم ما نعملش كده تاني) التي تنتهي بها مجموعة العرض للتأكيد على أهمية الاعتراف بالخطأ، وهذا قد يعد مباشرة مرفوضة في عروض المسرح بشكل عام، إلا أنه قد يكون مقبولاً في مشاريع التخرج التي تحكمها أهداف محددة.
ولوعي المخرج بطبيعة عروض المسرح التي تختلف عن طبيعة عروض مشاريع التخرج من حيث الهدف الأساسي للثانية من استعراض لموهبة الممثلين وقدراتهم، وضرورة اتاحة الفرصة لجميع المتدربين للظهور بشكل يسلط الضوء فيه على كل منهم وما اكتسبوه من مهارات.
شكل اللوحات المتتابعة
الأمر الذي يجعله يعتمد على شكل اللوحات المتتابعة، والتي قد تطول بمدة العرض وهو يعي تماماً بأن هذا – وخاصة مع تكرار تأكيد اللوحات على مقولة واحدة – يتعارض مع التكثيف، بما قد يبعث على تسرب الملل للجمهور.
لذا؛ ولأنه يعمل على تحقيق المتعة الفكرية والجمالية للمشاهدين – إلى جانب الهدف الأساسي للمشروع – لجأ للتنوع الذي يكسر الملل، التنوع في التيمات المختلفة في كل لوحة، التنوع في المواهب التمثيلية، التنوع في حالات الدراما بين الكوميديا والتراجيدي والميلودراما، الاعتماد على حيوية الشباب وسرعة إيقاع الأداء.
كذلك سرعة الانتقال من لوحة إلى أخرى، بما يحقق الأثر التراكمي لدى المشاهد، مع التزام فريق العمل بدقة التنفيذ لكافة عناصر العرض والانضباط التام على خشبة المسرح.
(حاجة تخوف) عرض ازدحم بالفنانين المتميزين، ممن لديهم قدرة على التعبير عن دراما وأفكار العرض، ووعي بعلاقتها بالمجتمع، خيث ضم العرض إلى مجموعة الدفعة عدد من خريجي دورات سابقة كعناصر لها تجربة سابقة.
وأجاد جميع من شاركوا بالعرض، ونذكر منهم: شريف إسماعيل وشاهندة على في (لوحة المطعم)، خلود خالد وباسم الجندي في (لوحة فقد الزوج)، منة حمدي في مشهد (الفنانة التى ابتعدت عن الأضواء)، محمد حسين في دور (العريس الذي يخاف من الارتباط)، محمد سراج في لوحة (الشاب الذى يتكسب من السوشيال ميديا)..
ومعه محمد إبراهيم في لوحة (الصعيدى المتمسك بالتقاليد ويرفض الإغراءات)، أحمد حسام وشريف حليم بمشهد (دار المسنين)، نهى نبيل وحبيبة النادي في مشهد (الجدة والطفلة)، ومعهم (مي حمدى ونورا نبيل)..
وآخرين في مقدمتهم (محمد نديم وأشرف مهدى ونادر جودة ومحمود جراتسى ومحمد حسيب وهبة كامل ويحيى محمود، شريف رجب، أسماء غنيم، نانسي السمري، مدرونا سليم، أحمد خليل، جهاد أشرف، سلمى هاني، نزار سيف، هبة السويسي، حبيبة زيتون، مجدي حمزة، لقاء الصيرفي..
عمر أسامة، شيماء بن عشا، مصطفى منصور، آية سليمان، أمنية سيد، عمر لطفي، شيماء عصمت، مارك نادي، مريم محروس، محمد القرشي، نسمة نور الدين، منار عمار، ودنيا حلمي).
ومن فريق العمل من شارك – إلى جانب التمثيل – في صناعة عنصر من عناصر العرض، ومنهم؛ (محمد نديم وهبة كامل) الأزياء، (محمد سراج ومارك نادي) إعداد موسيقى، (أشرف مهدي ومحمد كريم ونادر جودة) الديكور، تحت إشراف مصمم الديكور (محمد الغرباوي).
وبقيادة تنفيذية للمخرج المنفذ (علا فهمي) تميمة نجاح عروض (خالد جلال).