رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب: صوت (فيروز) من القاهرة

المصريون كانوا يرددون كلمات فيروز بطريقة تقليد الصوت الموسيقى للكلمة

بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ

ترى ما السر وراء أن (فيروز) من بين قلة قليلة جداً من بين المطربات والمطربين العرب، لم تنطلق نجوميتهم العظمى من مصر؟!

هذا ليس سؤالاً للاستفسار، بل هو للتعجب، إذ جرت العادة على أن كل فنان عربي في الطرب أو التمثيل، إلا يحسب نجماً حقيقياً إلا بعد  من خلال قاعدة انطلاق مصرية.

كانت هذه هى القاعدة وما دونها استثناء وكانت (فيروز) على رأس هذه الاستثناءات!

كان هناك بالفعل نجوم في بلادهم فتنت بهم الجماهير ومنحتهم الشهرة والمجد، لكن داخل بلادهم لا يكاد أي منهم يتجاوز حدودها، وربما اشتهر لهم عمل أو عملين على الأكثر  لكل واحد، فتذيع شهرته في البلاد العربية، لكن مع ذلك تظل النجومية معلقة بأجواء القاهرة التى اختارها النجوم العرب مقراً رئيسياً لإقامتهم.

ولكن (فيروز) عندما زارت مصر، للمرة الثالثة في سنة 1976 لتقدم أغانيها على مسرح الأندلس – بعد زيارتين سريعتين سابقتين عامي 55 و66، لم تحيي فيهما حفلات – كان نجمها لامعاً في سماء فن الطرب العربي، وحلت على القاهرة بفرقتها الكبيرة وهى في زهوة النجومية في لبنان ومصر وكل بلاد العرب.

وفي تلك الحفلات شدت (فيروز) أغانيها التى كانت سبقتها إلى آذان المصريين أغانى كثيرة، ومن بينها أغان أعادت تقديمها على مسرح الأندلس بصحبتها عروض استعراضية لبنانية صرفة.

ومع ذلك، كانت (فيروز) قلقة لأنها كانت لأول مرة ستواجه الجمهور المصري مباشرة، في حفلات مذاعة تلفزيونياً، فغالبية الحاضرين لم يسبق لهم رؤية فيروز مباشرة أمامهم.

وبعدها اتسعت مساحات (السميعة) لفن (فيروز) عقب هذه الحفلات في مصر بدرجة غير مسبوقة وبجماهيرية نافست فيها المقيمين والمقيمات في القاهرة وكأنها تعيش بين المصريين وهى لم تمكث إلا ما يزيد قليلاً عن أيام الحفل.

الوقع الصوتى للكلمة الفيروزية على مسامع المصريين يبدو مختلفا

الوقع الصوتى للكلمة

لم يكن تعلق المصريين بصوت (فيروز وحده)، لكن تعلقوا أيضاً باللهجة اللبنانية المكتوبة بها أغانيها وبموسيقى الرحبانية، مع أن معظم الكلمات لم يفهمها الغالبية، خاصة مع طريقة نطقها باللكنة المميزة لطريقة نطق أهل لبنان للكلمات.

فإذا تفحصت ما يتغنى به كثيرون من عشاق (فيروز)، إن كانوا يعرفون تفسير بعض كلمات الأغاني، ستجدهم يرددون الكلمات بطريقة تقليد الصوت الموسيقى للكلمة، حيث تكاد تطمس معالمها ولا يبق إلا اللحن.

أما المعنى، فلا يهم كثيرا، فإن أهم ما يميز فن الطرب، هو الوقع الصوتى للكلمة على المسامع ثم ولوجها إلى القلب مباشرةً، دون حاجة إلى فهم معنى الكلمة، لكن وقع الكلمة بطريقة أداء المطرب وهى التى تحفر مجراه في قلوب الجماهير، ففي الغناء يمكن نقل الإحساس دون حاجة للمعنى.

ولا حتى فهم اللغة أو اللهجة، فالأغانى وإن كتبت بلغات محلية، إلا أن الغناء له لغته العالمية!

فإن قدرات المطرب الحقيقية، تتحقق في هذا، فكم وجدنا من عشاق (أم كلثوم) مثلاً، من هم أميون لا يقدرون على فهم قصائد مثل (أراك عصي الدمع، سلوا كئوس الطلا، الأطلال)، لكنهم يندمجون معها ويرددون كلماتها وقد استوعبوا دلالتها وأثرت في مشاعرهم كما تؤثر فيمن فهموا معانيها بسهولة.

كما أن هناك مطربين اشتهروا في العالم كله كع انهم يغنون بلغة واحدة!

و(فيروز) كذلك لم تنقل إلى المستمع المصري مجرد موسيقى ولا حتى لهجة لم يتلقوها بكثافة مثلما تلقوها من (فيروز)، ولكنها نقلت إليهم روح الإبداع اللبناني كلمات ونغمات وحركة.

كما لابد أن نقر أنه لم يظهر متعصبون يناطحون عشاق (أم كلثوم) في تربعها على قمة الغناء العربي منفردة، إلا المتعصبين لفن (فيروز)، خاصة المصريين، فإذا سمعت لبنانياً، لا يعدل بفيروز مطربة أخرى ولو كانت أم كلثوم، فلا عجب.

لكنك لابد أن تقف متعجباً أمام سميع مصري من عشاق (فيروز)، يجادلك في الأمر نفسه ويحاول يستفزك  بأنها لا تناطح أم كلثوم فقط، بل هى أفضل عنده منها!

(أرجوك لا تقف أمام هذا الهراء كثيراً ولا قليلاً، فقط استمتع بما تحب)

في صوتها صور تعبيرية حركية

صور تعبيرية حركية

وكانت نفحة الأخوين رحباني، لفيروز أن أخرجاها من مجرد مطربة عاطفية تقليدية، ليجعلوها تغنى أغانى من التراث اللبناني أو الشعبيات المشهورة هناك، فأخذتنا معها عبر الرحبانيبن، في رحلات على هدير  البوسطة من ضيعة حملايا على ضيعة تنورين، لنعيش فيها مع الزمان والمكان اللبنانيين.

فقدمت أروع أمثلة للأغنية المجسمة في صور تعبيرية حركية تراها مثلما تسمعها، حتى لو لم تذاع عبر شاشة تلفزيون أو على خشبة مسرح!

كما أستطيع أن أزعم أن الاحتكار الرحباني لفيروز قد أفادها أكثر من أنها لو استسلمت لتغنى من ألحان آخرين غيرهما، فهى لم تغن لغيرهما إلا ألحاناً قليلة من تراث (سيد درويش)، وكذلك لم تفوت فرصة أن تغني بعض الأغنيات لمحمد عبد الوهاب.

(هناك أغنية واحدة لحنها رياض السنباطي ولكنها لم يتم إذاعتها حتى الآن)!

وحتى في أدائها لأغانى (درويش وعبد الوهاب)، جاء بطعم المزيج العبقرى الفيروزى الرحباني.

فقد قدم هذا الثالوث الشرقي مجموعة منتقاة من الأغاني والألحان لم تشهد ساحة الغناء العربي مثيلاً لها في كل العصور.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.