بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
المسرح المصري الديني المصري القديم، يحتوي على نظام (كهنوتي)، فبعد الانحراف عن العقيدة التوحيدية كما أوضحنا من قبل، ظهر النظام الكهنوتي الفلسفي.
وهو ليس بدين بالمعنى العام للدين بل نظام (كهنوتي)، تظهر فيه شخصية الكاهن بصورة العارف بالأسرار ليسيطر على اتباعه، ويخترع لهم آلهة بشرية يتبعونها، ويصبح الكاهن هو الوسيط بين الآلة البشرية ومن يتبعون هؤلاء الآلهة.
ولما كانت البشرية تتلقي أوامر الله وشرائعه عن طريق الأنبياء والرسول الموحى إليهم من الله سبحانه وتعالى انحرف هؤلاء الكهنة، و وخلطوا ما بين قصة آدم وحواء وأبنائهم، والطوفان، وعزير .. إلخ.
ورفعوا هؤلاء البشر في مصاف الآلة، ولكنهم يعترفون في ذات الوقت بأن الله سبحانه وتعالي هو الذي خلق هذه الآلة وهى المتحكمة في البشر وخلافه، وعملوا خدعة مفادها أن هذه الآلهة المزعومة يوحون إليهم، وخلقوا قصص مزيف ليؤيد فكرتهم، وأصبح شخصيات هذه القصص نظام (كهنوتي).
وهذه العلامات لا تقتصر على البشر فقط، بل وعلى العناصر الأربعة (الماء، الهواء، التراب، النار) وعلى الحيوانات، والنباتات، موهمين أتابعهم أنهم تلقوا الأسرار بوحي من الآلة المزعومة، فحرفوا وأضافوا في قصص حياة هؤلاء البشر.
ونستعرض بعضا من النظام الـ (كهنوتي) في المسرح المصري القديم من خلال ما وصل إلينا كم البرديات والجداريات، ونبدأ بقصة مولد أوزيريس الخرافية الكهنوتية:
ونرى فيها تحويل تلك الشخصيات إلى نظام (كهنوتي) بالإضافة إلى النجوم والنبات والطيور، ونستعرض هذا من خلال النص التالي، والذي على ما يبدو كان ضمن مسرحية الأسرار الخاصة بأوزيريس، أو مسرحية بدء الخليقة:
عندما كانت الأميرة (نوت) تستعد لاحتفالات زواجها من الملك (جب)، اكتشفت بستانا بديعا رائعا يقع في وسط بحيرة كبرى على مقربة من المدينة، وكان من السهل الوصول إلى هذه الحديقة عن طريق جسر صغير.
(نوت) تجلس متأملة
وكانت (نوت) تعبره كل يوم لتصل إلى هذا المكان، وتجلس متأملة متفكرة تحت ظلال شجرة جميز ضخمة فاقت جميع الأشجار المجاورة في ارتفاعها وضخامتها، وفي ذات صباح حينما كانت تستقبل مشرق النهار، وهى تشدو مترنمة بأنشودة لآتوم رع، بهرتها روعة الشمس وتألقها، وأذهلها قصف الرعود، وهنا ترامى إلى سمعها صوت (آتوم) الإله الخالق قائلا:
آتوم: (هيا فلتتجسد.. أنت يا من ولدت في الفضاء، وتكونت في هوة الظلمات، فلترفعي رأسك أيا شجرة الجميز اللدنة الخاصة بنوت، فإن السماوات قد أنجبت من الهواء والرطوبة (شو وتفنوت)، وهى تحتضن طفلا بين أيديها، وها هو قادم إليك وكأنه واحد من النجوم، أنه أوزيريس قادم نحوك).
ومع هبات النسيم، سمعت هذه العبارة أيضا:
آتوم (سوف أضعه في أعماق الصدر، من أجل حياة القلب).
وكذلك سمع هذا النداء والابتهال:
(أيا رع قد تضخم جسد نوت بلقاح الروح الكامنة في كيانها).
وهنا سطع برق خاطف على الأرض قاطبة، وعندئذ رأت نوت الطائر (إيبس) يدور حولها، فأغمضت عينيها، وتمددت على الأرض، فاقدة الوعى، تحت ظلال الجميزة.
وعرف جب هذا الأمر عن (نوت)، بل رأى في أحلامه وحيا إلهيا ينبأه بذلك، وبعد أن أمضى ليلة كاملة من التفكير في الأمر، تقبل الطفل الذي سيولد بعد فترة، وهكذا ولد أوزيريس في مدينة الأمنتت.
قالت نوت المتألقة العظيمة: (هذا هو ابني، أول وليد لي، وأول من رضع ثدي)
من أعالي السماء سمع هذا الصوت:
(هذا هو حبيبي، وهو المفضل عندي).
وفي ذات الحين كانت النجمة (سوتيس) تحدد بداية هذا المولود الجديد.
توقفت ساقا سوتيس، وها أنا أوزيريس قد ولدت خلال فترة راحتهما.
وبعد فترة ما تزوج جب من نوت وأنجبا ست، ثم من بعده إيزيس ونفتيس، وكانت كلا من إيزيس ونفتيس تولعان حبا بأخيهما أوزيريس، واشتعلت الغيرة في قلب ست الذي كان يضمر له كراهية شديدة.
ظهور العلامة النجمية
ومن خلال ما سبق نلاحظ نظام (كهنوتي) في شخصية آتوم (آدم عليه السلام) وتأليه، ونوت الأميرة نوت المرأة (وهى بمثابة وعاء ناقل لأوزيريس)، ونلاحظ الماء والرطوبة (شو وتفنت) فقد خلق عن طريقهم أوزيريس، وتم وضعه في بطن نوت.
ونأتي إلى علامة الملك (جب) الذي يري في أحلامهم، أمر أوزيريس بأنه مخلوق ووضع في بطن نوت، ولكن يفكر في الأمر ويتقبل الموضوع ويتزوج من نوت بعد وضعها أوزيريس، وينجب (ست، وإيزيس، ونفتيس)، وقد ظهر نظام كهنوتي في الطير إيبس، والذي طار بين السماء والأرض ليخبر عن مولد أوزيريس.
وظهرت العلامة النجمية من خلال النجمة سوتيس الشعري، وهذه من نظام خرافي كهنوتي، فقد كانت هذه النجمة تسير لترشد عن أوزيريس، إلى أن توقفت قدماها حتى يتم التعرف عليه.
وبعد ذلك، تظهر بقية القصة، وتظهر الأفكار الكهنوتية الخاصة بموضوع التأليه لأوزيريس، فليس هناك بشر مؤله، فنجد بقية القصة في تربية نوت لأوزيريس، فعندما كانت تربيه وتعده لحكم البلاد بعد جب فيقول الكهنة:
أن نوت أخبرت أوزيريس بطبيعته المزدوجة (إلهية ودنيوية) وأخذت تعده وتؤهله لكي يخلف أبيه في حكم مملكته.
وهذه الطبيعة المزدوجة هو نظام (كهنوتي)، فلا يعقل أن يموت الإله ويتألم من خلال عملية قتل وحشية قام بها ست، فجعلوا لأوزيريس طبيعة خاصة بأنه ذو طبيعتين، وأصبحت مسار جدل فلسفي بين الكهنة.
وهكذا ظهر الفكر الـ (كهنوتي) في صورة علامات بشرية بالإضافة إلى الحيوانات والنباتات.. إلخ، وهذه العلامات هي رموز كهنوتيه ظهرت في المسرح المصري القديم، توضح الفكر الـ (كهنوتي) وانحرافه عن عقيدة التوحيد، والتي لم يستطع الكهنة محوها من نصوصهم، والتي تظهر في كثير من نصوص الأهرام كابتهالات وصلاة لله عز وجل.