بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في تاريخ السينما المصرية، هناك أسماء لا تمحى من الذاكرة، وفنانين تركوا بصمة خالدة بفضل موهبتهم الاستثنائية وحضورهم المميز،أحد هؤلاء هو (استيفان روستي) ذلك الفنان الذي نجح في أن يكون واحدًا من أعظم الممثلين الكوميديين والشريرين في تاريخ السينما المصرية، رغم جذوره الأوروبية.
لم يكن مجرد ممثل بارع؛ بل كان حالة فنية فريدة انصهرت في المجتمع المصري إلى درجة أن الجمهور لم يشعر يومًا بأنه “أجنبي”. إنه (استيفان روستي)، ابن السفير النمساوي بالقاهرة، الذي وُلد لأم إيطالية، لكن قلبه وعشقه كانا لمصر.
وُلد (استيفان روستي) عام 1891 في القاهرة لأسرة تجمع بين أصول نمساوية وإيطالية، والده كان السفير النمساوي في مصر، ووالدته إيطالية، وهذا الخليط الفريد قدّم له ثقافة متنوعة منذ الصغر.
رغم هذه الجذور الأوروبية، عاش (استيفان روستي) طفولته وشبابه في مصر، وتشرّب الحياة المصرية بطبيعتها العفوية وروحها المميزة.. تردد على الأحياء الشعبية واختلط بالناس، فتكونت لديه شخصية مصرية عميقة جعلته قريبًا من قلوب المصريين.
لكن رغم تلك الأصول، لم يشعر الجمهور يومًا أن (استيفان روستي) شخص (أجنبي)، فقد كان يتحدث بلسانهم، ويتحرك بحركاتهم، ويُضحكهم بأسلوبه الخاص.. لقد انصهر تمامًا في الثقافة المصرية حتى أصبح رمزًا من رموزها.
ومما ساعده على ذلك هو إتقانه للعربية ووعيه العميق بالتقاليد والموروثات المصرية.
صانع الأفلام الشريرة والكوميدية
منذ بداياته الفنية، تميز (استيفان روستي) بقدرته على تقديم الشخصيات الشريرة بطريقة كوميدية، ولم يكن الشرير في أفلامه مرعبًا، بل كان يمتلك جانبًا إنسانيًا ساخرًا، يُبكيك من الضحك في لحظات توتر المواقف.
واحدة من أشهر جمله التي بقيت في ذاكرة المشاهدين، وهو يموت بالخطأ بسبب طلق ناري من أحد أفراد عصابته، فينظر إليه في لحظة موته ويقول: (نشنت يا فالح). تلك اللحظة أصبحت أيقونة في السينما المصرية، لما تحمله من سخرية ولحظة كوميديا وسط موقف مأساوي.
في مشهد آخر مع الفنانة الكبيرة (فاتن حمامة)، نجده يسألها بخفة ظل: (تشربي إيه يا أمورة؟)، فتجيبه: (أشرب كونياك)، فيرد عليها سريعًا: (هو الكونياك مشروب البنت المهذبة؟)، وكأنما يوبخها بلطف، محاكيًا الدور الأبوي برفق، ولكنه في الوقت نفسه يضيف بُعدًا كوميديًا ساخرًا.
وحتى في تعامله مع الشخصيات التي تمثل التقاليد المحافظة، لم يكن يخلو من الدعابة.
في مشهد يجمعه مع الفنانة العظيمة (فردوس محمد)، التي كانت تمثل دور السيدة الكبيرة المحترمة.
يدخل عليها (استيفان روستي) بطلبه الشهير: (تسمحي لي بالرقصة دي؟)، فترد عليه بطريقتها المصرية الشعبية: (حد حايشك يا أخويا؟ ما ترقص!)، ليعلق هو بطريقته المميزة: (بس أروح أتحزم وأجيلك)، هذه السخرية التي كانت تمتزج بالاحترام تعكس قدرته الفريدة على اللعب بين التقاليد والحداثة.
على مدار مسيرته الطويلة، شارك (استيفان روستي) في أكثر من 380 فيلمًا، من بينها العديد من الأفلام الكلاسيكية التي لازالت تُعرض حتى اليوم.
لم يكن يقتصر دوره على الأدوار الشريرة فقط، بل استطاع التنقل ببراعة بين الشر والكوميديا، وكان دائمًا يضفي لمسة فنية خاصة به على كل شخصية يقدمها.
نجح في أن يكون حاضرًا بقوة في مشاهد ربما لم تتجاوز الدقائق المعدودة، لكنه كان يعرف كيف يترك بصمته في ذهن الجمهور.
حتى إن أدواره الشريرة كانت محببة للقلوب، لما كان يقدمه من مشاهد تعكس طرافة الشرير وسخريته من نفسه ومن الموقف الذي يعيشه.
الانصهار في المجتمع المصري
رغم أصوله الأوروبية، لم يشعر (استيفان روستي) بالغربة في مصر، فقد كانت مصر بالنسبة له أكثر من مجرد بلد، كانت بيته الأول والأخير.
ربما كان أحد أسرار نجاحه وقدرته على الانصهار في المجتمع المصري هو أنه لم يتعامل أبدًا وكأنه (أجنبي)، على العكس، كان يعتبر نفسه واحدًا من أبناء هذا الوطن، يشاركهم همومهم وأفراحهم، ويجسد ذلك بموهبته على الشاشة.
كما كانت السينما المصرية في تلك الفترة قادرة على استيعاب كل الثقافات والأعراق، مما جعل مصر تُعرف بأنها وطن الفن والتنوع.
لقد قدمت السينما المصرية أرضًا خصبة للمواهب الأجنبية لكي تنمو وتزدهر، وكان استيفان روستي واحدًا من أبرز تلك النماذج.
نهاية أسطورة السينما
استمر (استيفان روستي) في تقديم أدواره المميزة حتى آخر أيام حياته، وترك وراءه إرثًا فنيًا ضخمًا سيظل خالدًا.
رحل عن عالمنا في 12 مايو 1964، لكنه بقي حاضرًا في قلوب محبيه وأمام أعين المشاهدين، بفضل أدواره التي تعكس الروح المصرية الحقيقية.
ربما يكون (استيفان روستي) مثالًا حيًا على قدرة مصر على احتضان الجميع، وتحويلهم إلى جزء من نسيجها الثقافي والاجتماعي، حيث ينصهرون فيها دون أن يشعروا أنهم غرباء.
وفي النهاية، يمكن القول إن (استيفان روستي) لم يكن مجرد فنان موهوب، بل كان رمزًا للتعايش الثقافي والانفتاح الفني.
إن (استيفان روستي) لم يكتفِ بأن يكون مجرد ممثل، بل أصبح جزءًا من ذاكرة السينما المصرية، وبقيت إفيهاته وطريقته المميزة في الأداء علامة فارقة في تاريخ الفن المصري، تُضحكنا وتُذكرنا دائمًا بقدرة الفن على تجاوز الحدود والانتماءات.