(التغريبة الفلسطينية).. استدعاء التراجيدية الأكثر تعبيرا عن المأساة الفلسطينية !
كتب: محمد حبوشة
في ظل ما يحدث على التراب الفلسطيني المقدس تتزاحم في رأسي أفكار كثيرة حول مآلات القتل والدمار وحرب الإبادة على كامل الأراضي الفلسطنية الحالي، ولكني أجدني مضطرا إلى استدعاء مسلسل (التغريبة الفلسطينية) باعتباره العمل الأيقوني الأكثر تعبيرا مأساة فلسطين.
نبدأ بكلمات شارة المسلسل: من قصيدة (الفدائي)، التي كتبها الشاعر الكبير (إبراهيم طوقان) في ديوانه (فلسطين)، وقد انتقي المخرج (حاتم على) من تلك القصيدة أقوى كلماتها التي تعبر عن حجم المأساة الفلسطينية لتتوافق مع التراجيديا الإنسانية التي احتوتها أحداث المسلسل.
وتقول الكلمات من غناء (عامر حسن الخياط)، والألحان والموسيقى (طاهر مامللي):
لا تَسلْ عن سلامتِهْ
روحه فوق راحتِهْ
بدَّلَتْهُ همومُهُ
كفناً من وسادِتهْ
هو بالباب واقفُ
والرَّدى منه خائفُ
فاهدأي يا عواصفُ
خجلاً مِن جراءتِهْ
صامتٌ لوْ تكلَّما
لَفَظَ النَّارَ والدِّما
لا تلوموه قد رأى
منْهجَ الحقِّ مُظلما
وبلاداً أحبَّها
ركنُها قد تهدًّما.
(التغريبة الفلسطينية).. عشرين عاما
نعم جاءت (التغريبة الفلسطينية – عام 2004) – أي قبل عشرين عاما – للمخرج (حاتم علي)، والمؤلف الدكتور وليد سيف، بمثابة أيقونة دراما (فلسطين) بلا منازع، وعلى الرغم من أن المؤلف ذاته كان قد سبق له أن قدم عملا مشابها مع المخرج الأردني (صلاح أبو هنود) بعنوان (الدرب الطويل) ولم يحقق نجاحا يذكر.
إلا أن (التغريبة الفسطينية) امتلكت خصوصية في عرضها الشيق لتجربة النكبة، تلك التي تشبه النكبة الحالية الأكثر إيلاما، حيث ترصد تجربة الاقتلاع واللجوء، فضلا عن كونه قد رسم صورة شاملة وبواقعية للنضال الفسلطيني المنسى.
والتي تبدأ من أعمال المقاومة المبكرة في (فلسطين) وينتهي إلى المصائر التي آل إليها الفلسطينيون في الشتات.
وتبدو دهشة (التغريبة الفلسطينية) الإبداعية في قدرته على نقل حياة الفلسطينيين في بيئاتهم المختلفة بأمانة، وبعمل جسور على أدق التفاصيل، إلى جانب ذكاء خطاب المؤلف والمخرج بلغة امتلكت القدرة على أنسنة الفلسطيني.
وفي نقديته لمشكلات هذا المجتمع الذي ظل يقدم بصورة ذهنية ومعمقة على الشاشة، ولنتأمل سويا ونجتر الذكريات بطريقة (الفلاش باك) المشاهد الأولى لحاتم على في (التغريبة الفلسطينية)، فبعزف شجي حزين على إيقاع (القانون).
وفي شموخ يرقد الجسد المسجى بعد طوال عذاب، إنه (أحمد أبو صالح الشيخ يونس)، والذي يجسد دوره الفنان الكبير (جمال سليمان) في ارتجال مذهل.
وبعد أن سلم الروح لبارئها، يدخل الأخ الأصغر (على) وقام بدوره (تيم حسن) في واحدة من أعماله الدرامية الناضجة – على صغر سنه آنذاك – كان حضر لتوه من (عمان) التي استقر بها بعد جسد الحلم الكبير للعائلة بحصوله على الدكتوراه من أمريكا.
أتذكر حاليا (تيم حسن) يسرد جوانب المأساة محدثا نفسه بمرارة عن العمود الفقري لعائلات (فلسطين)، ويدخل في مشهد يعد الـ (ماستر سين) للمسلسل، ليجتر الذكريات التي عاشها في كنف أخيه الأكبر (أبو صالح) الذي كان يمثل العمود الفقري للعائلة الريفية الفلسطينية الفقيرة.
فقد ارتاح المناضل الأسطوري لتوه بعد أن ذاق مرارات الغربة والتهجير كل سني عمره ، وعايش الانكسارات والهزائم الكبرى التي سبقت النكبة وما بعدها دون وصول إلى أفق قريب للعودة، وهنا يشبه هذا المشهد استشهاد (يحيى السنوار)، ولكن الفارق أن (السنوار) استشهد في قلب المعركة.
مشاهد الريف الفلسطيني الضائع
لقد عمد المخرج ومن اللحظة الأولى إلى تثبيت مشاهد الريف الضائع في الذاكرة التي لم تغاردها حتى الآن، وقد نجح بالفعل في إزاحة اللثام عن تلك السير الحية من البطولات المنسية.
والتي روت بدمائها الطاهرة الذكية أرض (فلسطين) في بواكير الزحف الصهيوني، في أعقاب (وعد بلفو) اللعين وهبوب الرياح العدائية لـ (الهجاناة) بأفعالهم المشينة التي استهدفت الأرض والناس حتى وقوع النكبة التي انفرط العقد الفلسطيني على أثرها بهزيمة وتراجع الجيوش العربية.
يقف الأخ الأصغر (على) أمام جثمان (أبو صالح) بشاربه الأبيض الكث والشال الأبيض الذي يعكس نورانية تلك اللحظة، وفي تلخيص غير مخل يسرد جوانب المأساة محدثا نفسه بمرارة:
(أبو صالح، يا خوي أبو صالح.. أنا على.. أخوك.. أخوك وابنك، هسه بدي أقولك إشي: أنا لولاك ما صرت إشي، ياحبيبي يابو صالح، ياحبيبي ياخوي). ثم يستعرض بصوته تاريخ الأب الروحي لنضال فلاحي (فسلطين).
وبأسلوب الرواي يقول (تيم حسن) في آسى موجع: (رحل الرجل الكبير، وتركني وراءه أتساءل عن معنى البطولة، أخي أحمد (أبو صالح) لم تعلن خبر وفاته الصحف والإذاعات.
ولم يتسابق الكتاب إلى استدعاء سيرته وذكر مآثره، وقريبا يموت آخر الشهود المجهولين، آخر رواة المسنيين، أولئك الذي عرفوه أيام شبابه جوادا بريا لم يسرج بغير الريح، فمن يحمل عبئ الذاكرة ؟
ومن يكتب سيرة من لاسير لهم في بطون الكتب، أولئك الذين قسموا جسومهم في جسوم الناس، وخلفوا آثارا عميقة تدل على غيرهم، ولكنها لاتدل عليهم.
وللحقيقة فإن كاميرا (حاتم على) مخرج العمل حلقت ببراعته المعهودة لتغوص بليونة خاطفة تحت جلد القضية.
وفي عمق هذا الجرح الغائر يفور الدم الفسطيني فواحا برائحة المسك والعنبر، مخلوطا بطعم المجد والخلود الأبدي لأولئك الذي فنوا في سبيل القضية التي ماتزال تشكل وصمة عار على جبين العرب والعالم إلى يومنا الحالي.
قسوة العلاقات الإنسانية
مع مسلسل (التغريبة الفلسطينية) نحن أمام نمط جديد من المسلسلات، نحن أمام واقعية فنية تخلق صورتها النابضة بالحياة والتفاصيل.. أمام إحساس تراجيدي حار يصوغ عناصره المشهدية من بيئة المكان والعلاقات.. ودراما التهجير والترحال الذي يحدث قسريا اليوم على أسنة الطائرات والدبابات والمدافع في محاولة لتصفية القضية.
ولعلنا نشهد حاليا قسوة العلاقات الإنسانية في الوطن والقرية الصغيرة وفي مواطن اللجوء والمخيم الذي يتسع مع صغره واكتظاظه بكل رثاثات الحياة وبؤسها وفظاعة الشرط الإنساني الذي يرتسم في ذلك الأفق المتهالك من صفيح وأسمنت وخيام وأزقة ضيقة وأمل بعودة لا تتحقق ونصر لا يظفر سوى بالخيبات والواقع العربي المرير.
الإحساس التراجيدي الحار في (التغريبة الفلسطينية) يبتعد عن الميلودرامية التي نعيشها الآن.. ويتخلّص من فجاجة البكائيات واستدرار الشفقة وحتى من النظرة الرومانسية الساذجة إلى الوطن السليب.
ليرى التراجيديا باعتبارها حقيقة مطلقة ترمي بثقلها على مصائر الأفراد والعائلات مثلما ترمي بوطأتها الكابوسية على مصير وطن.
وهنا يرتقي المسلسل بإحساسه التراجيدي بعيدا عن الندب والتفجع.. ليرسم ببرود عقلي أحيانا آفاق المأساة ثم يلونها بألوان المشاعر الحارة وقد اكتملت الصورة الواقعة المتواصلة أو الهيكل العظمي للواقع التراجيدي في الأساس.
وكأنها تعيد من عام إلى عام ووصولا للانتفاضة الثالثة التي تدق أبواب التارخ الآن (أسطورة سيزيف) ليعاود الكرة من جديد دون جدوى الصعود الهبوط.
ارتعاشات الرعب ومرارة اللحظات المأساوية التي تعتري مجمل القضية حاليا تجلت في أداء بارع لكل من: باسل خياط (حسن)، خالد تاجا (أبو أحمد)، جوليت عواد (أم أحمد)، يارا صبري (فتحية)، نادين سلامة (خضرة)، قيس الشيخ نجيب (صلاح)، مكسيم خليل (أكرم السويدي)، سليم صبري (أبو اكرم السويدي)، حسن عويتي (أبو عايد.
فضلا عن أداء استثنائي لحورية الدراما العربية نسرين طافش بدور(جميلة) والتي عبرت فيه بصوت شجي عن تلك الأنثى المسكونة بالعفة والعفاف، على رقة حالها وغلبتها على أمرها، مقهورة بتخلف عشيرتها.
وبمزاج من عفوية وتلقائية الموهبة التي تفوق سنها وخبرتها – آنذاك – كممثلة شابة استطاعت في ثلاثة حلقات فقط أن تبكينا بكاءا حارا يدمي القلوب على تلك الفتاة، رمز فلسطين سليبة الإرادة، ضائعة الهوى والهوية، ناهيك عن عذوبة أداء حاتم على نفسه في دور (رشدي).
المعالجة الإخراجية لحاتم علي
إن هذه الرؤية التي تتبدى في صورة المعالجة الإخراجية العامة لمسلسل (التغريبة الفلسطينة) تؤسس مرتكزاتها بكل تأكيد استنادا إلى نص (وليد سيف الملحمي) الذي يروي مرحلة تاريخية على مدى زمني طويل.. مستلهماً ما يشبهها وما يبدو أنه سيرة ذاتية لشخصية عاشت في الواقع وان لم تحمل اسما له واقعه التاريخي المميز.
لكنها بالتأكيد كانت تحمل كل أبعاد الواقع الاجتماعي المؤثر سواء بالنسبة لهذه الشخصية أوبالنسبة للشريحة أو العائلة التي تمثلها وتنطلق منها لتعود فتتماهى في الصورة المطلقة للوطن الذي يعيش مصيرا أسوأ كثيرا مما كانت عليه فترة الثلاثينات من القرن الماضي، فلم يكن متخيلا أن نصل إلى المسافة صفر في تاريخ القضية.
تحية تقدير واحترام لروح المخرج الكبير (حاتم علي) على إنجازه أيقونة الدراما العربية (التغريبة الفلسطينية)، ومن قبل تحية تقدير واحترام أيضا لمؤلف العمل (وليد سيف) – منحه الله الصحة والعافية – فلم يكن يبلغ أفق الكمال أو يبلغ مشارفه ما لم يتأسس على نص قوي ومتين مسبوك في حواراته ولقطاته وبناء شخوصه.
ومن هنا فقد أحسن (وليد سيف) كل هذا وكأنه كان يكتب ما يمكن أن نسميه (نص العمر) حسب التعبير التقليدي.. إلا أن هذا التعبير على تقليديته يمكن أن يشير إلى حقيقة أن وليد سيف كان يكتب في (التغريبة الفلسطينية)، ما كان يشتهي أن يكتبه ذات يوم عن وطنه الذي احتل وشعبه الذي تشرد وحلمه الذي سرق.
قلبي معه الآن وهو يعيش تفاصيل حية في ذاكرة التهجير والتشرد وصقيع الغربة وفقر المخيم، الذي يتعرض يوميا لقصف عنيف من الآلة الصهيونية التي تعصف بالأرض، وتقتل النساء والأطفال بدم بارد.. ليتنا نعيد عرض التغريبة الفلسطينية) مرات ومرات الآن حتى ندرك حجم المأساة التي يعيشها إخواننا الفلسطينيين.
ثم تحية واجبة لأبطال (التغريبة الفلسطينة): (جمال سليمان، تيم حسن، خالد تاجا، جوليت عواد، يارا صبري، نادين سلامة، باسل خياط، نسرين طافش، قيس الشيخ نجيب، مكسيم خليل، أدهم مرشد، أناهيد فياض، ميرنا شلفون، رامي حنا، سليم صبري، حسن عويني، رنا جمول) وغيرهم ممن شاركوا في هذا العمل الأسطوري.