بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
من الإبداعات المصرية في مجال التمثيل، ظهور شكل مسرحي كامل يطلق عليه (خيال الظل)، وهذا النوع المسرحي، يعد من الأشكال الجديدة في المسرح المصري، وهذا الشكل من الفنون العربية التي وفدت إلي مصر.
فقد عرف (خيال الظل) للمرة الأولى – عند العرب – في العصر العباسي، وكان مجيئه إلى مصر في عصر الفاطميين في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وكذلك كان (خيال الظل) تمثيلا حيا فعالا منذ القرن السادس الهجري، إلى بدايات القرن الرابع عشر الهجري.
و(خيال الظل) عرض يُقَدَّم أمام النظارة، ويتخذ شخوصه من جلود وتحرك بعصي من وراء ثوب أبيض مشدود (ستار) فيظهر خيال الدمى فيه، حيث يقوم اللاعبون بإدراج دمى الخيال خلف الستارة البيضاء بواسطة سيقان خشبية يحركها أحد اللاعبين، يختص بتحريك جميع ما يقدم على المسرح من شخوص في حين يقوم اثنان من اللاعبين بالعزف على آلات موسيقية.
ولهذا الفن قدرة على تصوير الكثير من الحياة الطبيعة التي لا تستطيع العروض البشرية تصويرها، وهذا ما نلاحظه في تمثيلية (علم وتعابير)، حيث إن (شخوصها تتجاوز مائة وخمسين صورة، وهى منوعة بين أناس وطيور حيوانات ومناظر طبيعية كالأشجار.
إلى جانب المباني كالبيوت والقصور والأديرة وغيرها، وإذا كانت تمثيلية واحدة تستوعب كل هذا العدد العديد من الصور؛ فمن الواضح أن إعدادها كان الدعامة الكبرى لنجاح اللاعبين.
ومن أهم فناني عروض (خيال الظل) ابن دنيال، وقد وُصِفَت أعماله بأنها أقرب الشبه للمسرحية المكتوبة، وهذا ما يوضحه (عبد الحميد يونس) بقوله: (وبابات ابن دانيال تشبه إلى حد ما المقامة في طورها الأخير، والباعث على هذا التشابه، هو أن التمثيل تقوم به شخوص مصورة أو مشكلة إلى جانب الحديث البشري.
كما أننا نجد في المقدمات التي وضعها (ابن دانيال) لتمثيلياته ما ينبئ ولو بطريق غير مباشر بأن هذا المؤلف التمثيلي لم يغفل عن التدوين، أي أن باباته يمكن أن تقرأ ويمكن أن تمثل.
تمثيلياته المدونة أدنى للمسرحيات
وأصبحت تمثيلياته المدونة أدنى إلى المسرحيات المكتوبة، فيها من الإشارات ما يعين القارئ على التصوير والنقلة، وما يرشد المخرج أو المؤدي في الوقت ذاته.
وهذا دال على أن (ابن دنيال) قد صنع أدباً تمثيلياً لـ (خيال الظل) ولم تكن باباته ارتجاليه، بل هى بابات منظمة مكتوبة بها إرشادات إخراجية وحوار، كما أن (من خصائص الأدب التمثيلي عند ابن دنيال، أنه فكاهي كله يحاول أن يستغل الحركة والصورة والنغم والكلمة.
بحيث تفرغ شحنة الشعور عند المتلقين لهذا الأدب بطريقة تخيلية، أي أن هذا الأدب التمثيلي يقصد إلى التسلية والترفيه قبل أي شيء آخر.
وهذا الأدب التمثيلي لابن دنيال بُنِيَ على أسس الأداء التمثيلي إذ من خصائص هذا الأدب التمثيلي أيضا، أنه – كغيره من أنواع الأدب القصص العربي – يستغل الشعر والنثر معا، ولكن هذا الاستغلال يناسب التمثيل، لأنه ليس مجرد ترصيع أو استشهاد أو تكرار.
فالنثر يعتمد على الفواصل والسجع؛ ليكون سهلا على الحفظ والأداء من ناحية، ومثيرا للانتباه عند النظارة من ناحية أخرى، أما الشعر فبعضه فصيح، وبعضه عامي، وبعضه في منزلة بين المنزلتين.
ويقترن في اكثر الأحيان بالتلحين والغناء.. والخطابية التي تغلب على أسلوب هذا الأدب التمثيلي مصدرها التأثير في العقل الجمعي، وعظا وترفيها وطربا.
ولقد كان (ابن دنيال) مبدعاً فذاً، ليس على مستوى الكتابة فقط؛ حيث إنه (ليس هناك مجال للشك في أن الذي خلد ذكر (ابن دانيال) هو تفوقه في فنه التمثيلي، فكانت له اليد الطولى فيه.
فهو الذي يصنع الرواية ويكتبها وينظم الأصوات ويلحنها ويعين الأزياء المناسبة، وكل ما يحتاج إليه التمثيل ويشترك بنفسه في العرض، فكان هو الكاتب والناظم والمغني والمخرج والممثل فأجاد وأبدع.
ومعنى هذا أن (ابن دنيال) كان يقوم بعمل عرض مسرحي كامل عن طريق (خيال الظل)، وهو مبدع حقا في استغلال خيال الظل في أعماله، فقد تنوعت عروضه في تقديم صورة من الحياة العامة للناس.
فقد تطرق للسياسة في أعماله، وهذا ما نلاحظه من خلال بابته (طيف الخيال)، وهى مِن أبدع البابات الثلاث، بل يعتبرها البعض أبدع مسرحية في تاريخ خيال الظل المصري.
فهي تعكس صورة مجمعة من واقع الحياة المصرية في القرن الثالث عشر الميلادي، السابع الهجري بكل ما فيها من تقاليد وعادات، وتحكيها بأسلوب ذلك العصر.
الإطار الفكاهي المرح
وبرغم أن إطار هذه البابة – كغيرها – هو الإطار الفكاهي المرح فإنها تصور نقدا سياسيا لاذعا لحدث مشهور في تلك الفترة، وهو استقدام الأمير (أبي العباس أحمد بن الخلفية الظاهر العباسي) من بغداد إلى مصر واحتفاء الظاهر بيبرس به وبطل هذه البابة هو (الأمير وصال)، وهو الصورة الساخرة لذلك الأمير العباسي.
ومن بابة (الأمير وصال) نلاحظ مدى تناول الأعمال المسرحية لحياة الناس، وامتدادها لنقد الحاكم والخليفة وابنه في قالب كوميدي، وهذا ينم عن قمة الوعي الشعبي لما حوله من أحداث، بل وينقده في أعماله التمثيلية، والحياة السياسية كانت تسمح بهذا ولا تمنعه، وهذا دال على حرية المناخ التعبيرى في تلك الفترة.
ومن إبداعات (ابن دنيال) أيضا الثراء والتنوع في شخصياته التي يمثلها عن طريق بابته وكثرة عدد تلك الشخصيات داخل العرض المسرحي، وهذا ما نلاحظه في بابته (عجيب وغريب).
وبالرجوع إلى هذه البابة نجد أنها ليست تمثيلية كاملة العناصر لها موضوع معين، وإنما هي مجموعة عجيبة من ذوي الحرف الغريبة ممن كانوا يجولون في الأسواق والموالد والحفلات العامة.
فهي تعرض سبعاً وعشرين شخصية من هذه الشخصيات حسب الظهور في المسرحية: (غريب الصافي، وعجيب الدين الواعظ، وحويس الحاوي وعسلية المعاجيني، وهلال المنجم، وعواد الشرماط، وشبل السباع، ومبارك الفيل، وأبو العجب صاحب الجدي.. إلخ.
وفي هذه البابة نلاحظ التنوع والثراء في إظهار مجموعة من الشخصيات كانت سائدة في حياة الناس في ذلك العصر، ولم يتوقف إبداعه على ظهور الشخصيات البشرية فقط بل صور الكثير من الألعاب الشعبية في عصره داخل العرض المسرحي.
وهذا ما نلاحظه في بابته (المتيم الذميم والضائع اليتيم)، إذ (تتكون شخوص هذه البابة من شخوص بشرية وشخوص حيوانية وجمادية، والشخوص البشرية تضم: (المتيم، الذميم، بابا البيرم، والحكم زيهون)، بالإضافة إلى شخصيات أخرى ثانوية.
أما الشخوص الجمادية والحيوانية فتنحصر في الديوك والكباش والثيران وأدوات المائدة، حيث استعرض (ابن دنيال) بعض الألعاب التي كانت شائعة في عصره.
وخيال الظل يقدم عرضا مسرحيا كاملا، ولكن من خلال العروسة، وهو يقدم عروضه أمام المُشاهِدين، وعرضه يحتوي على العديد من الشخصيات العرائسية، ويحتوي على الموسيقى والغناء، وممثلوا (خيال الظل) طريقتهم في التمثيل تنقسم إلى منطقتين، منطقة تحريك العروسة، والمنطقة الثانية الصوت الخاص بكل شخصية عرائسية.
ففي هذا المسرح لابد أن يمتلك الممثل التوافق العضلي والصوتي، لكي يستطيع القيام بالتمثيل المطلوب من خلال العروسة، ويعتمد تمثيله الجسدي على حركات العروسة بينما الصوت يعتمد على جسمه البشري.
وهذا الممثل، يمثل من خلال صوته الشخصيات بطبقاتها ومعاني كلماتها، بينما الحركة يمثلها من خلال العروسة في هذا المسرح، وهذا التمثيل يحتاج إلى مهارات عالية في كيفية توافق حركة العروسة والصوت البشري المصاحب لها، كما أنه في التمثيل يعتمد على الصوت المستعار.
أي أنه يمثل معظم شخصياته بصوت مستعار، يعطي للشخصية طابعها المميز، وبظهور هذا النوع المسرحي في مصر، يكون الفنان المصري قد جدد وعمل على تجريب شكل جديد من أشكال المسرح، التي لاقت نجاحا باهرا، في المجتمع المصري.