بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
شهدت نهاية الأسبوع الماضى تعيّين الجيش الإسرائيلي لأول مرة عميدًا يتولّى مهمة القيادة المدنية في قطاع غزة، وهو العميد (إلعاد غورين)، ذلك بدعوى تقليل الضغوط الدولية على إسرائيل، واستعدادًا لتنفيذ صفقة تبادل الأسرى والمختطفين.
يعكس القرار بطبيعة الحال الرغبة في تكريس عملية إعادة احتلال قطاع غزة بعد مرور أكثر مع اقتراب مرور عام كامل علي بدء العدوان في السابع من أكتوبر 2024.
وآثر معه ردود فعل واسعة النطاق في الإعلام الإسرائيلي الذي سخر من القرار باعتباره خطوة لم يتم دراستها جيداً، بل أن البعض تسأل عن طبيعة مهمة (حاكم غزة) الجديد في ظل عدم وجود تعريف دقيق لوظيفته كرئيس لهذا الملف الجديد.
فهو أول من سيتولّى هذا المنصب والذي يشبه مهمة رئيس الإدارة المدنية التابعة للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، والتي يترأسها، حاليًا، المقدم (هشام إبراهيم)، ويطلق عليه اسم (المنسق).
غورين في مهمة قذرة
تحت ستار العمل الإنساني، جاءت فكرة القرار الإسرائيلي بتعيين (إلعاد غورين)، قائداً مدينيا لقطاع غزة، رغم عن أن كافة الشواهد والأدلة تؤكد أن إسرائيل تعمل منذ اليوم الأول لاجتياح القطاع على تكريس الاحتلال، وتهجير سكانه وقتل أكبر عدد منهم وتنفيذ مخطط شيطاني ربما يصل مداها للقضاء على من تبقى فيه.
شغل (إلعاد غورين) قبل منصبه الجديد منصب رئيس الدائرة المدنية في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) خلال العدوان الحالي، وهو الضابط الثاني الذي يتحمل أعباء الحرب واحتياجاتها.
بعد العميد (روني كاتسير)، الذي يشغل منصب رئيس قسم القانون الدولي في مكتب المدعي العام العسكري، ومع توسيع المسؤوليات، تم تقسيمها بين (كاتسير) و(إلعاد غورين).
ومن ضمن مهام قائد غزة الجديد، بحسب مزاعم الإعلام الإسرائيلي المتكررة منذ الإعلان عن صدور القرار: (رئاسة مديرية التنسيق والارتباط في القطاع، والتعامل مع القضايا التكتيكية اليومية مثل توصيل المساعدات الإنسانية في المعابر والطرق في القطاع، وإصلاح البنية التحتية المحلية المدمرة في القتال والاتصال المنتظم مع منظمات الإغاثة الأجنبية).
مع الادعاء كذلك إن هناك توقعات أن يقود العميد (إلعاد غورين) تحركات استراتيجية مدنية على المدى الطويل من أجل مواصلة الحصول على الشرعية الدولية لاستمرار القتال في غزة، دون أن تشهد أزمة إنسانية أو مجاعة، كما حدث بعد العمليات الحالية.
ولم يقف الأمر عند ذلك بل تحدث الإعلام الإسرائيلي عن أن العميد (إلعاد غورين) من المتوقع أن يلعب دورًا رئيسًا في العمليات المدنية واسعة النطاق التي سيتم تنفيذها قريبًا.
إذا تم تنفيذ صفقة تبادل الأسري والمختطفين، من خلال تمكين حوالي مليون من سكان غزة على العودة إلى منازلهم في شمال قطاع غزة، مرورًا من ممر (نتساريم)، بعد طردهم من منازلهم إلى مخيمات النازحين جنوب قطاع غزة بأمر من الجيش الإسرائيلي قبل حوالي 10 أشهر.
دلالات القرار
وفي اعتراف صريح وواضح بأن الهدف من وراء تعيين (إلعاد غورين) قائداً لقطاع غزة، أكد وبشكل واضح في تصريحات للإعلام الإسرائيلي، تدل معها على النية الخبيثة المبيته لاحتلال غزة والبقاء فيها لفترة طويلة “أن غزة ستشغل إسرائيل كثيرًا خلال السنوات المقبلة..
بل أكثر من اليوم، وستكون المهمة هى الاستمرار في إعطاء متنفس للقوات الإسرائيلية للقتال من أجل تحقيق أهداف الحرب مع خفض الانتقادات الدولية ضد إسرائيل)
تكشف خطوة تعيين (إلعاد غورين)، عن انخراط إسرائيل في خطّين من المفاوضات، الأول شكلي مع حركة حماس بوساطة مصر وقطر والولايات المتحدة، والمفاوضات وفق هذا الخط متواصلة منذ شهور طويلة دون أن تحقق الغاية المعلنة منها.
لكنها تُستخدم تارةً غطاءً لمواصلة حرب الإبادة أمام العالم، ومن أجل امتصاص غضب الشارع الإسرائيلي الذي يطالب بإنجاز صفقة تعيد المحتجَزين الإسرائيليين.
أما الخط الثاني من المفاوضات، فهو الذي تخوضه إسرائيل مع نفسها ومع الولايات المتحدة، من أجل وضع الترتيبات اللازمة لمستقبل قطاع غزة، أو ما بات يُعرف بـ (اليوم التالي) بعدما فشلت في حسم حربها في القطاع عسكرياً.
والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة مع أسئلة أخرى: هل ستنجح إسرائيل في خطوتها هذه؟، وما قيمتها الحقيقية على الأرض؟، وهل بقي مبرر لمواصلة المفاوضات؟، وهل سيقبل المجتمع الدولي بمثل هذه الخطوة؟، وأين السلطة الفلسطينية من كل ما يحصل؟
الثابت هو بعيداً عما يطرحه الإعلام الإسرائيلي من تكهنات أن تلك الخطوة تأتي في المقام الأول بهدف تمكين إسرائيل من الحصول على شرعية دولية لاحتلال غزّة بشكلٍ دائم.
على خطى واشنطن
تماماً كما فعلت الإدارة الأمريكية بتعيين الجنرال الأمريكي المتقاعد (جي جارنر) حاكماً عسكرياً للعراق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي حمل نفس مسمى الحاكم العسكري لغزة.
وهو (رئيس المكتب الأمريكي لإعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية في العراق)، كما سبق وأن عينت الإدارة الأمريكية حاكماً عسكرياً أيضاً في اليابان عقب الحرب العالمية الثانية، عندما قامت بتعيين الجنرال (ماك آرثر) حاكماً عسكرياً لليابان، وظل هو الحاكم الفعلي بالرغم من وجود حكومة يابانية.
لكن المؤكد هو كما أن فكرة الحاكم العسكري للعراق لم تنجح، فإنها لن تنجح في غزة، لأن خشية أمريكا من أن تتحمل وحدها نفقات إعادة إعمار العراق المدمّر دفعتها إلى التخلي عن فكرة فرض حاكم عسكري أمريكي مباشر على العراق.
لذلك عينت (جارنر) في 21 إبريل 2003 على رأس طاقم أمريكي يتألف من نحو 400 شخص، معظمهم من العسكريين، مع استمرار وجود القوات العسكرية على أراضيه، في ظل ملامح عسكرية، وتم إعفاؤه في 11 مايو 2003، وهو يتوقع للحاكم العسكري لغزة، لأنه جاء أصلاً لإيجاد بديل متواطئ في إدارة القطاع، بعد الفشل أمام صمود المقاومة الفلسطينية.
كذلك فمن الثابت أن هذا القرار هو صيغة من صيغ الاحتلال في قطاع غزة، ولن تكون مقبولة، بالرغم من الإعلان أن مهمّة (إلعاد غورين) هي التواصل مع المنظمات الإغاثية الدولية فيما يخصّ غزة، وتريد إسرائيل أن تقول لدول العالم والمؤسسات الإغاثية إنه مهتم بالقضايا الإغاثية الإنسانية في قطاع غزة، وقام بتعيين مسؤول في هذا المجال.
ذلك في سياق التضليل الإسرائيلي المتواصل لدول العالم، في حين أن المواطن الفلسطيني في غزة يواجه معاناة هائلة، لا يستطيع أحدٌ وصفها، ولن يُفلح حاكم عسكري في تغيير الوضع، بدليل عدم قدرة إسرائيل حتى الآن على إعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، أو أن توقف استمرار نشاط عمل المقاومة وتَوسعه.
والأخطر من هذا هو أن قرار تعيين حاكم عسكري إسرائيلي لقطاع غزة يأتي في إطار خطة اليوم التالي التي وضعها (نتنياهو) التي تتمركز حول إعادة احتلال غزة على الأقل في الفترة المقبلة، لكن ليس بالضرورة أن يكون احتلالاً ذا وجود ظاهر.
لكن قد يكون احتلالاً يتحكم في كل معابر القطاع وما يدخل وما يخرج، إضافة إلى شرعية حدوث عمليات عسكرية فجائية حسب الضرورة، تماماً كما يحدث في معظم مدن الضفة الغربية، مع فارق مهم، وهو أنه لا توجد سلطة فلسطينية داخل القطاع بالمعني الحرفي.
وبذلك يحقق (نتنياهو) هدفين: الأول إنهاء حكم حماس على أرض الواقع واستحالة عودة السلطة الفلسطينية، بل القضاء على ما تبقى منها في غزة، والثاني بناءً على القائمة الطويلة التي وضعها الإسرائيليون لمهام الوظيفة الجديدة، التحكم في جميع تفاصيل الحياة المدنية الضرورية للإنسان الفلسطيني في غزة.
بمعنى آخر ستبقى المتطلبات الدنيا لحياة الإنسان في غزة، سواء بالسماح أو المنع، رهن تفسيرات الحاكم العسكرى الإسرائيلي.
ما بعد القرار
السؤال الذي يطرح نفسه الآ:، هل ستنجح إسرائيل في تمرير مخططها، وما هو رد فعل المقاومة الفلسطينية المتوقع، ويمكن القول أن الكشف عن مخطط سيناريو الحكومة الإسرائيلية المتطرفة سيؤدي حتماً إلى انهيار أيّ مفاوضات بشأن عملية تبادل الأسرى بين المقاومة وإسرائيل.
إذ تستطيع المقاومة إفشال المخطط الجديد إذا استطاعت الصمود من خلال الاستمرار في الاستنزاف البشري للجيش الإسرائيلي، واستمرار رفض سكان قطاع غزة (زعماء العشائر والعائلات الكبيرة) تشكيل أيّ (إدارة مدنية) تحت الاحتلال.
ما سيؤدي حتماً إلى إفشال تعيين أي حاكم عسكري للإدارة المدنية في المستقبل، وسوف يُجبر (نتنياهو) على العودة إلى نقاشٍ جديّ حول إتمام الصفقة.
كذلك هناك سؤال آخر: هل يستطيع الجيش الإسرائيلي أن يحقق أهداف الحرب بالطريقة التي يراها (نتنياهو) وبإمكانية فرض حكم عسكري في الداخل؟ هذا يتطلب الكثير، خاصة أن القطاع تم تدميره بشكلٍ كامل، وأصبح بدون بنى تحتية، وهذا يحتاج إلى قدرات كبيرة.
فهل ستكون إسرائيل قادرة على توفير ذلك؟، خاصة أن الإعلام الإسرائيلي، تحدث عن أن كلفة إدارة القطاع عسكرياً ستصل إلى 20 مليار شيكل سنوياً أي أكثر من خمسة مليارات دولار.
وتضيف 400 وظيفة بالجيش، وإن إدارة القطاع تعني المسؤولية عن حياة 2,3 مليون شخص وتتطلب 5 فرق عسكرية، والأيام القادمة وحدها ستجيب عن هذه الأسئلة.