بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
خلال الأيام الماضية، انتشرت مقاطع فيديو قصرة بكم مكثف فوق المعتاد، للخبير الاقتصادى الشهير الدكتور (صلاح جودة) – رحمه الله.
ولا شك أن تداول الفيديوهات القصيرة المقطعة أو الطويلة المجمعة للدكتور (صلاح جودة) – الذي كان له حضور متميز بين ضيوف برامج القنوات الفضائية أو الإذاعية أو المواقع الإلكترونية والصحف – له عدة دلالات.
أهمها تعلق الجماهير به كواحد من أكثر الخبراء مهارة في تبسيط أعقد المصطلحات في مجال الاقتصاد، وليس فقط الشعور القائم بأن الدكتور (صلاح جودة) يدخل في لب الموضوع مباشرةً ويضع الحلول المناسبة والفورية.
الرجل رحمة الله عليه، رغم وفاته منذ سبع سنوات، إلا أنك تراه وكأنما يحدثك اليوم في بث مباشر، وكأن أحدهم قد تمكن من إعادته بنفس أسلوبه وأفكاره، عن طريق الذكاء الاصطناعي.
ومن الدلالات أيضاً، افتقادنا الآنى لنموذج (صلاح جودة) في البرنامج التلفزيونية لتسمع منه ما يفسر لنا كل هذا الغموض، لكن طغت على البرامج، أساليب التغييب المعتادة، وهى ظاهرة معتادة في التاريخ تجدها عندما تمر الشعوب بمراحل حرجة في تاريخها.
فأنت الآن تجد برامج ينفق عليها الملايين من أجل أن تثير قضايا تافهة وغارقة في الخصوصية، حول أدق تفاصيل الحياة الشخصية لنجوم الفن والرياضة، وبعض الشخصيات المشهورة، حتى تكاد تعتقد أن بعضهم يتعمدون إثارة المشاكل حتى يشغلوا الناس بتفاهاتهم!
وكل هذا يأتى مواكبا للصراخ الصاعد في البرية من تكاليف الحياة التى اقتربت من نطاق المستحيل لتحقيق الحد الأدنى من متطلبات المعيشة الأساسية.
فبدلا من شغل الناس بمشاكلهم الحقيقية في ملفات التعليم والصحة والأمن الخارجى والداخلي، نجدهم يثيرون قصصاً عن إشاعات طلاق فلان من فلانة ونفسنة فلانة من علانة، وينشرون تنبؤات لعرافين وعرافات وخبراء وخبيرات الأبراج والروحانيات ولا يجرؤ أن يتهمهم أحد بالدجل والشعوذة!
لماذا (صلاح جودة)؟!
ولذلك فبحث السادة منتجى البرامج والمسئولين عن القنوات، عن نماذج قريبة الشبه من (صلاح جودة)، لن يخدم مساحات التغييب العمدى التي تشغل غالبية البرامج التلفزيونية!
ولعلنا نسأل: لماذا (صلاح جودة) عاد من بين كل الخبراء الذين كانوا يملأون الشاشات ما بين صادق ومدع وحى وميت وما بينهما؟!
الإجابة بسيطة للغاية، وهى لا تزيد عن البساطة نفسها، تلك هى التى يمتاز بها في طرح المشكلات وتقديم الحلول.
لذلك لن تجد نوعية (صلاح جودة) مرحباً بها، لأنها ستضع لكل مشكلة حلا أو على الأقل، ستضع الخطوات الواجبة نحو الحلول بطريقة تنمى وعي الجميع.
لكن من قال إن قضية الوعي هى قضية الإعلام في مصر؟!
فكلمة وعي تعنى تفكير، تعنى بحث عن حل، ثم تنتهى بالبحث عن حق!
فالوعي يهدى إلى الفكر والفكر يهدى إلى الثقافة، وهى كلمة لم يعد مرحباً بها وسط هذا الغثاء الفضائي الليلى الذي يخرج علينا بفضائح مفتعلة إن لم يجد فضائح حقيقية.
بالإضافة إلى شعل العقول بانتظار تحقق النبوءات أو خصائص الأبراج التى يصر البعض على أنها علم مثلها مثل (الفيزياء والكيمياء والرياضيات والجغرافيا والتاريخ والفلسفة والمنطق)!
بل ربما ستجد قريباً، من يطالب بتدريس علوم الأبراج والجفر والتنجيم، بعد أن تم إلغاء تدريس الفلسفة والمنطق وعلم النفس، فلابد من تغييب تعليمي نوازي به التغييب الإعلامي، وكلا التغيبيين لن يفلحا مادام هناك من يلم بأبسط قواعد التفكير في الفلسفة والمنطق!
(يمكنك إذن أن تستنتج لماذا كان السيد (جوبلز) يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة (ثقافة).
لكن عودة البحث البحث بكثافة عن فيديوهات راحلين يدعون للتفكير تجعلنا نتحسس رؤوسنا، فمهما بلغ التغييب والإلهاء، فهناك أصحاب عقول مازالوا يبحثون عن حل الغائب ومن ثم سيجدون الحق المغيب!
إن أكثر حوار نردده في أنفسنا أمام تجليات وتحليلات وحلول (صلاح جودة)، حيث نجدنا نتساءل في حيرة
الله.. إيه ده.. ماهى الحلول بسيطة أهه!
طب ليه الحكومة ما بتسمعش كلام الدكتور (صلاح جودة)؟!
فالرجل كان يصرخ في البرية، ولكن لا يسمعه أحد على المستوى الرسمي، اللهم إلا معدى البرامج ومقدميها والجمهور.
أفكار الدكتور (صلاح جودة)
أما المسئولون فلا وقت عندهم لسماعه لأنهم ملتزمون فقط بكل يصدر إليهم من أوامر وتعليمات، لأن المنظومة الأزلية التى تحكم سير الخطوات الرسمية، لا تعرف ولا تعترف بسلاسة أفكار الدكتور (صلاح جودة).
ذلك لأنها المنظومة الأكثر مناسبة لما يمكن أن نسميه (مجموعة المصالح المرتبطة)، تلك المجموعة التي تسعى لتعقيد الأمور ووضع العراقيل أمام أية حلول ودائماً ما تخطط لإحداث الأزمة تلو الأخرى، حتى تبقى مقدرات السوق في يديها لا يستطيع أحد اختراقها مهما علا صوت صراخه!
فالتعقيدات والأزمات والغموض لابد أن يكون نتيجتها جميعاً على التوازي، الإحباط والإلهاء والتغييب!
فالتسطيح والتفاهة ليس مجرد نتاج ظروف اجتماعية ما، بل صناعتان ملازمتان لاقتصاد الأزمة، ذلك الذي لا يتحكم في مفاصل السوق المحلية فحسب، بل في اقتصاد العالم كله!
فالعالم يتجه بكل شراسة، لنشر ثقافة الاقتصاد الترفيهي، وهو مرحلة متطورة من الاقتصاد الاستهلاكي المسرف، ففي الوقت الذي تعمل فيه الدول الصناعية الكبرى بكل طاقتها للحفاظ على صدارة العالم.
وتعمل على ألا تنتقل تلك الصدارة لدول وكيانات أقل، بسبب التقدم التكنولوجي الإلكتروني الذى ييسر عمليات نقل الصناعات وتطويرها، لذلك لابد من نشر الأزمات بأى شكل: (حروب، ثورات، فتن طائفية).
مشروعات إلهاء فكرى تعمل على تفكيك مجتمعات بكاملها، تشجيع المشروعات الترفيهية التى تعتمد على الاستهلاك الذي يعمل على نقل المكاسب الضخمة من الترفيه إلى حسابات صانعى الترفيه (الحقيقيين) والذين يقفون وراء جهات الترفيه المحلية قي الدول الصغيرة!.
فليت الأمر ببساطة العرض وتقديم الحل الذي تعودنا عليه من مفكرين وخبراء كثيرين يضيق المقام بحصرهم.
فما دامت هناك أزمة، فهناك حتماً فروق أسعار وبالتالي أرصدة تتضخم، لكن لا يمكن لهذه الأرصدة الضخمة أن تعمل للصالح العام، لذلك كانت المشروعات والمنتجات الترفيهية، حتى لا تقوم قواعد اقتصادية صلبة يمكن أن تحقق ما كان ينظر إليه (صلاح جودة) وكان يدعونا للنظر معه.
فالخطر كل الخطر أن نرى ما رآه ونسمع ما قاله، لذلك لن يعود مثله لأستديوهات التحليل، اكتفاءً بفتن التحليل الفنى والرياضي والاجتماعي في قضايا من فرط تفاهتها أمست تثير الغثيان، لكنهم مصرون عليها!
ولنكتف نحن باجترار فيديوهات مقتطعة من أحاديث لمفكرين من أمثال (جلال أمين، وعبد الوهاب المسيري، ومصطفى محمود، وصلاح جودة) على هواتفنا الخاصة ونستمتع بشعور كأنهم يتحدثون من خلال الذكاء الاصطناعى!