بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
فى الخامس عشر من شهر أغسطس ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة جديدة بقصفه مدرسة (مصطفى حافظ) التى تؤوي أكثر من 700 نازح في حي الرمال غرب غزة.
استشهد على إثرها 10 فلسطينيين على الأقل، بعد قصفه 9 مدارس تؤوي المئات من النازحين في القطاع خلال الفترة الأخيرة، مستمرا فى ممارسة أسلوب التضليل لقتل أكبر عدد من السكان واستهداف المدنيين للضغط سياسيًا على الفصائل الفلسطينية لإجبارها على وقف المقاومة وإلقاء سلاحها.
بيان الاحتلال الإسرائيلي فى أعقاب تلك المجزرة ، جاء على لسان المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي الكاذب (أفيخاي أدرعي).
وزعم فيه أنّ “طائرات مقاتلة تابعة لسلاح الجو أغارت بشكل دقيق وبتوجيه استخباري لهيئة الاستخبارات العسكريّة والقيادة الجنوبيّة، على مجموعة من المسلّحين في مجمع قيادة وتحكّم تمّ إنشاؤه وإخفاؤه في منطقة مدرسة (مصطفى حافظ ) في مدينة غزة.
(أفيخاي) ادّعى كذبا أنّ (هذا المجمّع كان يُستخدَم من قِبل عناصر حركة (حماس)، لتخطيط وتنفيذ هجمات ضدّ الجيش وإسرائيل)، زاعما أنّ قبل الهجوم، تمّ اتخاذ سلسلة من التّدابير لتقليل احتماليّة إصابة المدنيّين، بما في ذلك استخدام أسلحة دقيقة واستخدام الصّور الجوّيّة.
إضافةً إلى الاستعانة بمعلومات استخباراتيّة إضافيّة، وأنّ (الجيش سيستمرّ في العمل بقوّة وحزم ضدّ المنظّمات المسلّحة الّتي تستغلّ المدارس والمؤسّسات المدنيّة كملاذ آمن).
مرت مجزرة مدرسة (مصطفى حافظ) للأسف ومن بعدها مرت أكاذيب (أفيخاي) مرور الكرم كسابقتها من مجازر لا مثيل لها فى حق الإنسانية والبشرية جمعاء.
ولما لا وإسرائيل لديها من القدرات والوسائل التى تمكنها من طمس معالم جرائمها، بل وطلب العون من البعض للمضي قدما فى استكمال مسيرة الدم التي بدأتها فى الثامن من أكتوبر 2023، دون أن يردعها او يوقفها أحد.
المدرسة قبل حرب السابع من أكتوبر
قصف مدرسة مصطفى حافظ
لكن الجريمة ولا مكان ارتكابها يستحقان المرور مر الكرام عليها ولا غض الطرف عنها وبيان رمزية المكان ليس لدى أهل غزة فحسب، ولكن لدينا نحن أيضا فى مصر، فموقعها هو مدرسة (مصطفى حافظ) التى تحمل اسم البطل الشهيد (مصطفى حافظ).
هذا المقاتل المصرى الذي قاد حربًا باردة ومقاومة خلف خطوط العدو الصهيوني وفي مرحلة تاريخية صعبة بتعليمات مباشرة من الرئيس الراحل (جمال عبد الناصر).
بدأ (مصطفى حافظ)، حياته العسكرية بالتحاقه بالكلية الحربية في مصر في أكتوبر عام 1942، وبعد تخرجه عُين في سلاح الفرسان، وفي مايو 1948، انتدب لسلاح الحدود برتبة ملازم أول، ثم عُين حاكمًا لبلدة (بيت جبريل) حتى عام 1949، ثم حاكمًا لرفح جنوب قطاع غزة، وبعدها نُقل إلى محافظة البحر الأحمر مأمورًا للغردقة.
وفي شهر أكتوبر 1952، انتدب لإدارة المخابرات (مكتب مخابرات فلسطين)، وأسندت إليه مهمة قيادة مكتب غزة عام 1954، وفي مارس 1955، ارتبط اسمه بقرار القيادة المصرية بدء العمل الفدائي المنطلق من قطاع غزة.
وذلك من خلال تشكيل وحدات فدائية فلسطينية، عُهد بقيادتها إلى قائد المخابرات الحربية المصرية في قطاع غزة، البكباشي (مصطفى حافظ)، بإشراف مباشر من الرئيس (جمال عبد الناصر)، وحملت اسم الكتيبة (141).
وجه (مصطفى حافظ) الدعوة لعدد من الشخصيات الوطنية الفلسطينية ذات العلاقات المباشرة بالجماهير لتزكية الشبان المؤهلين للانضمام إلى هذه الكتيبة. وفي أعقاب اختيار عناصر هذه القوة، تم تدريبهم في معسكرين، أحدهما قرب مخيم الشاطئ، والثاني في جنوب قطاع غزة.
وقد خضع الملتحقون لتدريبات عسكرية مكثفة، وبلغ عدد أعضاء كل معسكر 350 عضوًا، وفتحت السلطات المصرية معسكرات التدريب التابعة للحرس الوطني في مصر لهذه القوة، حيث تم إلحاقها بدورات عسكرية، تلقت خلالها أنواعًا مختلفة من التدريب على الفنون القتالية وحرب العصابات.
خطط إسرائيل لاغتيال (حافظ)
انطلقت الموجة الأولى من عمليات المقاومة الفلسطينية بتاريخ 25/8/1955، وأخذت الأعمال الفدائية شكل مجموعات كبيرة توغلت داخل الأرض المحتلة، ونفذت عمليات مختلفة.
وقد اتسع نطاق العمليات التي نفذتها قوات الفدائيين، فغطت كافة أرجاء فلسطين، وشملت أهدافًا عسكرية متعددة، من معسكرات جيش إلى خطوط أنابيب إلى عربات عسكرية إلى خزانات مياه إلى كل شيء له علاقة بالجيش الإسرائيلي.
حاولت إسرائيل تدبير خطط لاغتيال (حافظ)، لكنها فشلت مرتين. وأخيرًا، نجح (الموساد) في اغتياله، حيث أرسل في 12/7/1956 طردًا ملغمًا انفجر بين يديه عند محاولته فتحه في مقر قيادته في مبنى سرايا غزة مما أدى إلى استشهاده.
حيث استغلت المخابرات الإسرائيلية أحد الفدائيين الذين وقعوا في الأسر، وكان في الأصل من السجناء الجنائيين الذين أفرج عنهم للعمل في كتيبة الفدائيين، وساومته على الإفراج عنه مقابل أن يكون عميلا مزدوجا لحمل طرد ملغوم بعد عملية تمويه كبيرة.
ليضمنوا أن يصل الطرد مباشرة لحافظ، حيث لم يكن العميل يعرف أن الطرد ملغوم، بل أوهموه أنه يحتوي على كتاب للشفرة مرسل لقائد الشرطة في غزة، حيث أفهموا العميل أنه يعمل معهم.
وبعد ذلك، كرّم الرئيس (جمال عبد الناصر) ذكراه بعد استشهاده، ومنح اسمه وسام الوطنية والشجاعة، ليظل أحد رموز النضال الوطني في التاريخ الحديث.
على الرغم من استشهاد (مصطفي حافظ)، إلا أن الإسرائيليين ظلوا يطاردون كل ذكرى له على أرض فلسطين لما مثله من رمز للنضال ضد الاحتلال.
فبعد هزيمة يونيو 1967 واحتلال قطاع غزة تبارى الإسرائيليون في تحطيم نصب تذكاري أقامه الفلسطينيون لإحياء ذكراه، وكانوا يحطمون صوره التي كانت منتشرة في الشوارع والمنازل والمقاهي.
الاغتيال المعنوى للشهيد حافظ
المجزرة الأخيرة وجد فيها الاحتلال الفرصة مجددا للنيل من الشهيد (مصطفي حافظ) وإعادة اغتياله مرة أخرى لإرسال رسالة مفادها أن يد البطش الإسرائيلية لا تطال الأحياء وحدهم، بل تستهدف رمزو النضال والشهداء ليس الفلسطينيين وحدهم بل الرموز المصرية التى ناضلت وضحت بأروحها من أجل غزة.
الحقيقة هى أن تلك الجريمة، سبقها جريمة اغتيال معنوى قبل نحو عقدين من الزمان للشهيد (مصطفي حافظ)، تمثلت فى سيطرة إسرائيل على عقل (نونى درويش) نجلة الشهيد.
وجعلها واحدة من أكثر المدافعات عن الكيان الصهيوني شهرة بل ودفعها لتأسيس رابطة تحمل اسم (عرب من أجل إسرائيل)، تعمل فى الدعاية لإسرائيل والترويج لأكذوبة السلام الوهمي معها.
(نوني درويش) المولودة سنة 1949 باسم (ناهد مصطفى حافظ درويش) درست علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتخرجت فها سنة 1969، ثم عملت محررة ومترجمة لصحيفة الشرق الأوسط إلى أن هاجرت عام 1978 إلى الولايات المتحدة مع زوجها، حيث اكتسبت الجنسية الأمريكية.
نوني درويش
ومن ثم تبنت موقفا يلوم الثقافة العربية الإسلامية على ما تراه عنفا وكراهية تجاه أمريكا وإسرائيل وينسب إليها قولها إن (موت أبيها يعود إلى الحضارة الإسلامية في الشرق الأوسط وإلى حملة إعلان الكره الذي يتم تعليمه للأطفال منذ الطفولة).
وتقول (إن مهمتها هي أن تحث على الصلح، والقبول والفهم بين الإسرائيليين والعرب)، ثم تركت الإسلام وارتدت عنه بعدما اختارت التخلى عن دماء والدها، وأكدت مسامحتها الإسرائيليين على ما سلف لأنها ترى أن التسامح هو السبيل لتحقيق السلام.
الأكثر من هذا كان مشاركتها خلال الفترة الأخيرة مع عملاء سابقين في (الموساد) فى فيلم إسرائيلي وثائقي بعنوان (إخبار نوني – Telling Nonie) إنتاج عام 2024.
من إخراج (باز شوارتز)، وبطولة (أوسنات ساراجا)، (أورلي أطلس كاتز)، (إنبال ليفي)، (نوعا لاهاف موفار)، ويتناول التوترات بين غزة وإسرائيل في النصف الأول من الخمسينيات.
ويسرد تفاصيل عملية اغتيال المقدم (مصطفى حافظ)، وعلى الرغم من أن الفيلم يكشف تفاصيل الجريمة لكها فضلت حب إسرائيل عن والدها الشهيد.
الثابت هو أن إسرائيل لم تتخل ولن تتخلى عن مواصلة مطاردة روح الشهيد والانتقام منه ومن سيرته النضالية كلما سنحت لها الفرصة لذلك، لكن الثابت ايضا هو أن هناك من يتبنى سيرته ويؤمن بمواصلة النضال والمقاومة ضد هذا الكيان مهما فعلت إسرائيل.