بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
إن الحديث عن ضرورة وجود استراتيجية لـ (الثقافة) في الدولة المصرية ليس من باب الترف الفكرى وإنما هو ضرورة و حتمية بسبب التناقض الشديد في القرارات و الذى تمارسه جهات متعددة داخل حكومتنا الرشيدة، و التي توحى بأن كل جهة في وادٍ ، تتصرف بمعزل عن الجهات الأخرى.
فعلى سبيل المثال من المفترض أن تنفذ الحكومة (رؤية مصر 2030) والتي وضعت في 2016 ، فهى الخطة طويلة المدى للدولة لتحقيق مبادئ وأهداف التنمية المستدامة في كل المجالات وتشمل البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي.
وتركز هذه الرؤية على الارتقاء بجودة حياة المواطن المصري وتحسين مستوى معيشته في مختلف نواحي الحياة، وذلك من خلال التأكيد على ترسيخ مبادئ العدالة والاندماج الاجتماعي ومشاركة كافة المواطنين في الحياة السياسية والاجتماعية.
من خلال تعزيز الاستثمار في البشر وبناء قدراتهم الإبداعية بالحث على زيادة المعرفة والابتكار والبحث العلمي في كافة المجالات.
وفي شق (الثقافة) تقرر هذه الرؤية ضرورة تشجيع المواهب وإعطاء الفرصة لها وزيادة دور العرض و المكتبات و تحقيق العدالة الثقافية بمد يد العون المادى و المعنوى الى كل الأماكن في عموم الجمهورية من أجل وصول خدمة (الثقافة) للجميع.
ولكن للأسف ما يحدث هو العكس تماما ، فبدلا من زيادة دور العرض (سواء السينمائى او المسرحى أو المتحفى)، لا نجد أن وزارة (الثقافة) قد بنت مسرحا واحدا او دارا للسينما منذ 2011 و حتى الآن !!
بل هناك أصوات تتعالى كل فترة عن بيع أصول للوزارة مثل (مسرح البالون ومسرح السامر)، وهى أصوات للأسف صادرة من المجلس النيابى الذى من المفترض أن يحاسب الحكومة على عدم تنفيذها رؤية مصر وبناء دور عرض جديدة!!
جهاز (الثقافة) الجماهيرية
وإذا كانت تلك الرؤية تنص على ضرورة دعم المواهب و المبدعين وزيادة مساحة اكتشاف الموهوبين في كل المجالات من أجل استعادة زخم القوى الناعمة المصرية، نجد أن وزارة (الثقافة) أنشأت منذ أعوام قليلة جائزة للمبدع الصغير في مجالات متعددة.
وعلى جانب آخر نجد نفس الحكومة تجهض أهم أجهزة وزارة (الثقافة)، والتي يعتبر الحفاظ عليها مسألة (أمن قومى) وهو جهاز (الثقافة) الجماهيرية، فهناك قرارات من جهات أخرى تهدد نشاط قصور (الثقافة) بالتوقف.
هذا التوقف معناه أنك تفتح الباب لكل خفافيش الظلام، وأن الحديث عن رؤية مصر 2030 في (الثقافة) مجرد لغو.
والكلام عن تنمية البشر وبناء الانسان مجرد سفسطة لا قيمة لها، فبرغم أن واقع النشاط الفني للأقاليم، والذى تقوم به هيئة قصور (الثقافة) منذ نشأتها تحت مسمى الجامعة الشعبية في النصف الأول من القرن الماضى وحتى الآن أقل من طموحات الجميع – بما فيها مسئوليها.
إلا أنه مهدد بالتوقف بسبب أمر من وزارة المالية لجميع مراقبى الحسابات بكل المواقع بضرورة أن يقوم كل المتعاملين مع الهيئة بالتسجيل الضريبى في منظومة الفاتورة الإلكترونية، و هو أمر تصل تكلفته على المواطن إلى 1600 جنيه كل عام.
هل تخيل صاحب القرار عاملا زراعيا – من أصحاب المهن المؤقتة – يهوى أيا من الفنون (تمثيل/ غناء/ فنون شعبية) و يمارسه في قصر (الثقافة) منذ طفولته، أن يصبح مطالبا بدفع 1600 جنيه كل عام من اجل ممارسة هوايته، والتي لا يتقاضى عنها طوال العام سوى أقل من نصف هذا المبلغ مخصوما منه الضرائب والدمغات؟
وأن يسدد عن هذا المبلغ الزهيد ضريبة قيمة مضافة، يكتب بها إقرارا شهريا، إلى جانب أن عليه كتابة إقرارا ضريبيا إلكترونيا كل عام؟!
هل يتخيل مصدر هذا القرار مصير كل فرق الأطفال في جميع ربوع مصر التي تمارس نشاطها من خلال قصور (الثقافة)، والتي يتقاضى أهليهم ما لا يغطى حتى ثمن المواصلات؟
زيادة حصيلة الضرائب
كيف سيتم التعامل مع أهل هذه الأطفال؟، هل كل أب مطالب أن يسجل ابنه في المنظومة الضريبية ويتحمل مسئولية إدارة اعماله كقاصر؟، أم سيفضل في تلك الحالة أن يبقيه في منزله ويبتعد عن وجع الدماغ، و نترك الأطفال نهبا للتيك توك واليوتيوب وقنوات بير السلم؟
إن زيادة حصيلة الدولة من الضرائب أمر لا نعترض عليه، ولكن السؤال: هل تطبيق تلك المنظومة على المبدعين المتعاملين مع الدولة أو مع الهواة في الأقاليم هو ما سيضمن القضاء على الاقتصاد الأسود (الاقتصاد الموازى لاقتصاد الدولة).
والذى يقدر حجمه بحوالى 2 تريليون جنيه، وتقدر الضرائب المستحقة عنه بأكثر من 330 مليار جنيه تضيع بين مصانع بير السلم والاسواق العشوائية والباعة الجائلين و المهربين، وصفحات البيع على وسائل التواصل الاجتماعى ؟
وإذا أصرت وزارة المالية على تطبيق هذه القوانين على جهات الإنتاج كالثقافة الجماهيرية، فعليها أولا أن تجيب على تلك الأسئلة: كم تكلفنا الحرب على الإرهاب حاليا؟، وكم ستبلغ تكلفتها اذا توقف نشاط هيئة قصور (الثقافة)؟
وكيف نسعى لبناء الانسان في ظل كل هذه العراقيل؟، وكيف نتحدث عن العدالة الثقافية؟، وعن أي انتماء للأجيال الجديدة نتحدث؟، وكل ذلك من أجل حفنة جنيهات تسعى وزارة المالية إلى جمعها!
بالإضافة الى ذلك فقد خلقت وزارة المالية بقرارها (مافيا) للفاتورة الإلكترونية، فلم يعد العمل في الديكور المسرحى (مثلا) فى فرق الأقاليم بالأمر السهل أو الهين، فالميزانيات ضئيلة تكاد تكفى بالكاد، ويتم شراء الخامات من محلات صغيرة.
ولكن بسبب الفاتورة يضطر كل مخرج إلى التضحية بما يوازى 30% من ميزانية الديكور يدفعها لتاجر مسجل بالمنظومة من أجل خامات لاتزيد عن 3 آلاف جنيه، وهكذا باتت الفاتورة بابا لنهب الحكومة!!
وإذا كان الديكور هو المستهلك الأكبر لميزانيات النشاط المسرحى فما بالك بنشاط آخر لقصور (الثقافة) مثل الحرف البيئية، والتي غالبا لا تتوفر خاماتها إلا في محلات (الخيوط و الكلف)، ومن ثم: أين تأتى بالفاتورة؟
إن وجود استراتيجية ثقافية لا تعنى مجرد (أحلام مصاغة في ألفاظ براقة)، ولكنها تعنى في المقام الأول دستورا لكل أجهزة الدولة تتعامل من خلاله مع (الثقافة) والمثقفين.
تراعى نوعية النشاط وأهميته و مردوده المعنوى (و ليس المادى)، وضرورة وجوده من أجل تحقيق شعار (جودة حياة المواطن)، والتي لن تكتمل إلا بممارسته لهوايته و تذوقه للفنون.
فهل هناك أمل أن يسعى الوزير (الدكتور أحمد هنو) في القيام بهذا العمل؟.. أعتقد لو نجح في هذا سيكون قد قدم للثقافة المصرية أكبر الخدمات.
وللحديث بقية..