بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
كان ذلك الرجل الوسيم الأنيق الوقور يظهر على الشاشة ليقرأ من ورقة أو يردد كلاماً مكتوباً له ليقرأه (الإعلامي) على المشاهدين في التلفزيون أو المستمعين للراديو.
كان كل دوره هو (التقديم) ومن خلال أدائه في هذا التقديم، تظهر براعته كمقدم لبرنامج أو نشرة أخبار أو غيرها من المواد المذاعة، ومن خلال هذا الأداء أيضاً يكتسب مكانته بين الجماهير.
وإن كان عن الأمثلة، فيصعب الحصر لكثرة من حفروا أسماءهم من (مذيعين) و(مذيعات) في الذاكرة الجماهيرية واستحقوا نجوميتهم ولقب (الإعلامي) لمجرد (فن الأداء).
ولكن بعد التغيرات الجوهرية التى وقعت في الحقل (الإعلامي) لمواكبة التطور التقني في وسائل البث وظهور الأقمار الصناعية الناقلة للقنوات التلفزيونية الفضائية، ومع توغل سطوة رؤوس الأموال المتدفقة وسعى كل صاحب رأس مال إلى الحفاظ على مصالح شركاته وبعد السماح للإعلام الخاص.
كان لكل واحد ما بارونات اتحاد ملاك مصر، قناته الخاصة وجريدته الخاصة، مستعيناً ببعض المذيعين والصحفيين والشخصيات العامة من مختلف الاختصاصات، مما أسفر عن ظهور كائن تلفزيونى متطور عن المذيع ليتم تدشين لقب (الإعلامي) على مقدم البرنامج كنتاج لهذا التلاقح الثلاثى بين المال والإعلام والصحافة.
وأحياناً يكون التلاقح رباعيا باشتراك سرى من جهة غامضة، ترى في الإعلام الوسيلة المثلى للسيطرة على الوعي العام، لتسوق من خلاله الجماهير وكأنها قطعان من الماشية، نحو مصير محدد مسبقاً في مخططات طويلة الأمد جرى الإعداد لها منذ عشرات السنين!
تحضير واستحضار الدواء
وفي البدء هذا (الإعلامي) كان يقدم لنا نفسه كأنه (المهدي) الذي جاء فوق سحابة، ليقدم رؤيته كخلاصة لخبرته في الحياة للخلاص من كل الأزمات، فهو وحده الذي يعلم أين يكون الداء؟، وهو أيضاً العليم بطريقة تحضير واستحضار الدواء.
لكنه في الحقيقة يمكن أن يكون صاحب عقلية فارغة سطحية، بيد أنه بارع في الدعاية لنفسه قبل أن يدعو لما يطرحه من مادة إعلامية، مستغلا سطحية وتهافت أصحاب الأمر في الإعلام، وكما يقول المثل الشعبي (كل شئ له يشبه له)، أو حسب النطق المباشر للمثل (كل شيلو يشبهلو).
ومن مميزاته أنه لا يعتمد على مواد مكتوبة مباشرة ولا يقرأ من أوراق كما كان يفعل أسلافه من سلالة المذيعين المنقرضة، ولو كانت، فهو ينسبها إلى نفسه، ليتحدث موحيا بأن ما يلقيه هو من بنات أفكاره الشرعية.
وفي كل مجال تجده هذا (الإعلامي) هائما على وجهه، في الدين والسياسة والتاريخ والطب والفلك، وغالباً ما يتخطى دوره ليتحول من مفكر قومي، إلى نبي يهدى!
من هذا؟!
لكن الأهم من سؤال من هذا، ولا من الذي وراءه ولا كيف وصل هذا (الإعلامي) إلى ما وصل إليه، هو للسؤال الصريح الموجع: (ما الذي يجعلنى أستمع إليه وهو يملى علينا ما يراه؟!).
فنحن نرى هذا (الإعلامي) يصر على أن يرسم لنا خطواتنا كأننا أطفال روضة يتعلمون المشي (تاتا.. تاتا)، أو الكلام (ماما.. بابا)، ثم يخطو خطوة أعلى ليقدم نصائحه إلى الدولة لكى تتبعها مغمضة العينين، لأنه وحده يملك الرؤية من خلال برنامجه الذي صار يحق الحق ويبطل الباطل ولا يجرؤ أحد على صده أو رده!
فنحن كل ليلة نلهث بين القنوات التلفزيونية لنستمع ونستمتع إليه – أو إليها – وهو يصول ويجول ويتنقل من قضية إلى أخرى، فإذا غاص في التاريخ فهو (الجبرتي)، وإذا تحدث في الرياضة فهو (المستكاوي)، ولو تكلم في السياسة فهو (لطفى السيد)، وإذا تطرق نحو الدين فهو (أبو حنيفة)!
يمتطون صهوة عقولنا
لكننا في الحقيقة نحن الذين صنعنا كل هذه الأوهام وأهدينا الأهمية والنجومية إلى شخصيات هشة لا تملك أى ثقافة حقيقية، ولكنها تجد من يستمع إليها وهى تتحدث إلى الناس في صغائر الأمور وعظائمها يمتطون صهوة عقولنا ويملون على ضمائرنا لنصير أتباعهم المسحورين بخوار عجولهم.
ننتظر يوميا ماذا قاله السيد (زيد) أو ردده الأستاذ (عمرو) أو صرحت به (مدام باتعة)!.. ألم تنظر إلى وجوههم لترى أن آثار الانفعال على وجوههم وهو يتخرصون بما ظنوا أنه خلاصة الحكمة.
وبقليل من التأمل تجد أن هذا (العمرو) وذلك (الزيد) و(باتعتهما) الثالثة، ما هم إلا عرائس خشبية، هناك ما يحركها من وراء الستار!
كلنا نعلم هذه الحقيقة لكننا تتجاهلها كما تجاهل قوم (موسى) حقيقة أن السامرى هو الذي صنع العجل من ذهب أوزارهم!
لقد سيطرت هذه النوعيات السامرية على الوعى الجماهيرى إن سلباً وإن إيجاباً، حتى أولئك الذين يجاهر كثير من الناس ببغضهم، تجد برامجهم هى الأكثر مشاهدة وعجولهم هى الأكثر خواراً، فكأنما نغيظ أنفسنا بمتابعة ما نبغضه ونعذبها بترديد ما لفظناه!.
يمكن أن تجرب وتطرح اسم أى إعلامي منهم على جمع من الناس تختاره عشوائياً، وراقب ردود الفعل الغاضبة بانفعالات تقارب الجنون.
تقصد من؟!: فلان؟!.. زفت.. قطران.. ابن ستين..
انتظر.. لا تطرح الأسماء على من حولك، لا انتقائياً ولا عشوائياً.
جرب أن تطرحهم على نفسك وأنت تخلو بعيداً عن الناس.
هل فعلت؟!
والآن.. هل ثمة اختلاف بين إجابتك وإجابة من كانوا حولك؟!
إذن لا تظلمهم وحدهم، بل لا تظلم من وراءهم!
كن عادلاً مع نفسك أولا.
فأنا وأنت وهو وهى.. نحن من جعلنا هؤلاء نجوماً حتى ولو فرضوا علينا، حتى لو أدركنا مدى تهافتهم وسطحيتهم وغبائهم.
فلا نلومن إلا أنفسنا!
فقد انتظرنا ظهور (المهدي)، ولكننا اتبعنا (السامري) فيما كان وما يكون وما سيكون!