في ذكراه الثانية عشر: نكشف كيفية اختيار (محمد نوح) لدوره في مسرحية (سيد درويش)
كتب: أحمد السماحي
تمر هذه الأيام الذكرى الثانية عشر لرحيل الموسيقار المتطور المتجدد (محمد نوح) أو (عم محمد) كما كنت أناديه، ففي حياتي المهنية اقتربت بقوة، وكونت صداقات إنسانية مع أربع نجوم كنت أناديهم باسم (عم فلان).
وهؤلاء النجوم هم (عم محمد رشدي)، و(عم محمد قنديل)، و(عم إبراهيم رجب) والرابع كان (عم محمد نوح).
والمدهش أن الأربعة كانوا عشاق صبابه لمصر المحروسة، عندما ينطقون يعزفون مقطوعة في عشق الوطن، وهذا العشق لم يكن ظاهرا على الملأ عند (محمد رشدي، ومحمد قنديل، وإبراهيم رجب) لكنه كان واضحا بقوة عند (محمد نوح).
والذي حاول أن يقود ثورة غنائية بأسلوب علمي بعد ثورة فنان الشعب (سيد درويش)، لكن الظروف السياسية بعد رحيل الرئيس محمد أنور السادات، لم تمكنه من تكملة ثورته الغنائية التى بدأها في نهاية الستينات.
(محمد نوح).. أول نغمة مختلفة
كان (محمد نوح) صاحب أول نغمة موسيقية وغنائية مختلفة في مصر، بعده، ومعه ظهرت العديد من الفرق الغنائية مثل (البلاك كوتش، والبيتي شا، والكاتس، والبلبوز) وغيرها التى انتهجت نفس الأسلوب، وكسرت الإطار التقليدي للأغنية، وغيرت معاني وملامح الأغنية.
وقدمت موسيقى مختلفة، وأيضا كلمات مختلفة عن المفردات التى كانت سائدة في الساحة الغنائية، كما ظهر مطربيين على نفس النهج منهم الرائع (محمد حمام) الصوت الذي فيه حزن كل العصور التى مرت بها مصر، والمطرب الثوري (عدلي فخري) وغيرهم.
سهرة ممتعة مع (محمد نوح)
أذكر مرة وأثناء إجراء أخر حوار لي مع عم (محمد نوح) أنه تحدث بحب عن موسيقاه فقال لي: (تجد في مزيكتي ملامح مصرية، وفولكلورية قديمة جدا استكملتها بدراسة جادة في أميركا لمدة 5 سنوات متصلة في أعلى المعاهد حتى أصل إلى نغمة مصرية خالصة.
وإذا حللت هذه النغمة تجد فيها حضارة قديمة، ومستقبلا واضحا، وتراثا من الصعب تجاهله، ومفردات صارت جزءا من نسيج وجداننا الفني، لذلك أدعي أن ألحاني يشعر بها المتلقي أكثر مما يفهمها.
ولقد درست لطلبة معهد السينما (القسم العالي) علوم (السيكونسر)، وفن تخليق الأصوات.
وفي هذا الحوار أبدع (محمد نوح) في الرد على أسئلتي، ويبدو أن الأسئلة المتخصصة نالت إعجابه، فحدث له حالة من النشوة والتجلي، وحب بلا حدود، فكان يجاوب على بعض الأسئلة بطريقة علمية ويعزف لي، ويغني.
وظلت معه هذه الحالة حتى انتهى حواري معه، وطلب مني أن انتظر معه في الاستديو، حتى يأتي شقيقه الفنان التشكيلي الكبير (حسين نوح)، وبعض الأصدقاء من قناة (ON).
وفي السهرة تجلى عم (محمد نوح) وغنى، وأبدع في الغناء والكلام ، حتى أن البنت المسئولة عن الاستديو قامت ورقصت، وكانت سهرة من أحلى السهرات التى قضيتها، وكان يردد لي طوال السهرة: (أنت السبب في هذه الحالة التى حدثت لي)!.
(محمد نوح).. ومسرحية (سيد درويش)
بمناسبة الذكرى الثانية عشر لرحيل موسيقارنا المبدع (محمد نوح) نتوقف لأول مرة عند كيفية قيامه ببطولة مسرحيته الشهيرة (سيد درويش) التى قام ببطولتها مع (وداد حمدي)، كما ذكرها مؤلفها (سيد طنطاوي).
وتحدث (سيد طنطاوي) عن مفارقات كثيرة جدا، صعب أن نذكرها كلها لكنها تؤكد أن الروتين القاتل والبيروقراطية وعدم التقدير موجودين بقوة في مسارح الدولة منذ القدم.
ولقد اخترنا من هذه الذكريات ما يخص موسيقارنا الراحل (محمد نوح)، حيث يقول الكاتب الكبير سيد طنطاوي في كتابه (في حب سيد درويش): كان الفنان والمخرج (محمد توفيق) ينوي أن يقدم مسرحية (سيد درويش) في صورة عظيمة.
وأن يسند أدواراها إلى كبار النجوم، واختار بالفعل الفنانة الكبيرة (هدى سلطان) للبطولة، وقرر أن يقدم الأغاني فيها (حية) مع أوركسترا يشترك يوميا في تقديم موسيقى الأغاني.
ولكن كانت مشكلة المشاكل هى العثور على الممثل الذي يقوم بدور سيد درويش، لا يجب أن يكون ممثلا فقط بل أن يكون مغنيا وعازفا على العود، وتسألنا من الذي يستطيع أن يقدم للناس هذه الشخصية الأسطورية.
وأن يقنع المشاهدين بأنه سيد درويش؟، ثم أنه لابد أن يكون يجيد العزف على العود، فمن هو ذلك الممثل؟!، استعراضنا أسماء جميع الممثلين والمطربين، ولم نختر منهم أحدا!
كان منهم من يستطيع أن يمثل، ولكنه لا يغني ولا يعزف، ومنهم من يغني ويعزف ولكنه لا يمثل، حتى ظهر لنا الممثل الشاب الجديد (محمد نوح) وهو ممثل ومغن ودارس للموسيقى وعازف للعود، ويشبه سيد درويش إلى درجة بعيدة.
(محمد نوح).. وفرقة البحيرة
يستكمل طنطاوي حديثه فيقول: كان (محمد نوح) قد بدأ حياته موظفا بمحافظة البحيرة، موظفا لا يهتم بوظيفته ولا يرى للحياة معنى إلا في التمثيل والغناء.
وقد تسببت هواياته هذه في شيئين، الأول هو تقدير محافظ البحيرة لمواهبه مما جعله يلحقه بفرقة (البحيرة المسرحية)، والشيئ الثاني هو غضب رئيسه المباشر عليه، وعلى تغيبه عن وظيفته الأصلية مما جعله يخصم له 89 يوما من مرتبه.
ثم ظهرت فرق مسرح التليفزيون والتحق (محمد نوح) بفرقة المسرح (الحديث) محتفظا بوظيفته في دمنهور في نفس الوقت، وصار يقضي وقته في السفر بين دمنهور والقاهرة.
ويستعين بدخله الصغير في رعاية أسرته التى تركها والده أمانة في عنقه، فلم ينجح في شيئ إلا رعاية أسرته، أما في المسرح الحديث فلم يلتفت اليه أحد لمدة عامين.
وأما في دمنهور فقد تراءى له شبح الفصل من الوظيفة، وظل الشبح الثقيل يطارده ليل نهار، ثم جاء العام الثالث وظهر له شبح جديد في فرقة المسرح الحديث، هذا الشبح هو تشديد الرقابة على الممثلين.
وإرغامهم على التوقيع في كشوف الحضور والانصراف كل يوم، وكان هذا معناه أن يتفرغ كل ممثل لوظيفته في الفرقة، وأن يتخلى عن أي عمل آخر له خارج الفرقة.
(محمد نوح) يتمزق
وجد (محمد نوح) نفسه يتمزق بين كل هذه التيارات فهو لا يستطيع أن يترك وظيفته في دمنهور لأنها رغم متاعبها شيئ مضمون، وهو لا يستطيع أن يتفرع للعمل في فرقة المسرح الحديث، لأنه يعمل فيها بعقد مؤقت معرض للإلغاء في أي يوم.
وهو في النهاية لا يستطيع أن يتخلى عن حبه للتمثيل والغناء، ولم يكن قد ظهر على المسرح في أي دور خلال العامين اللذين مضيا عليه موظفا في فرقة المسرح الحديث.
ويستكمل (طنطاوي) ذكرياته عن (محمد نوح) فيقول: وفكر الفنان الشاب أن يخطو خطوة عملية نحو ضمان مستقبله، فكر في أن يعرض موقفه على المخرج (محمد توفيق) المشرف على المسرح الحديث.
وأن يرجوه أن يختبره في أي دور لأنه إذا ضمن دورا واحدا في أي مسرحية، فإنه يستطيع أن يترك وظيفته في دمنهور نهائيا مطمئنا إلى المستقبل.
نداء توفيق ورعب نوح
فكر (محمد نوح) وتردد وفكر، وأحجم ولم ينفذ شيئا، وبدأت الفرقة تستعد لتقديم مسرحية (سيد درويش)، فقال في نفسه: هذه مسرحية غنائية كبيرة، وشخصياتها كثيرة، ومن المؤكد سوف تستوعب ممثلي الفرقة كلها.
لابد أنه سوف يجد له دورا في المسرحية، خصوصا وأنه يغني ويعزف على العود، أما دور (سيد درويش) فلم يخطر بباله قط، كان ذلك بالنسبة له شيئا أكبر من أحلام اليقظة نفسها.
ثم بدأت بروفات المسرحية، وبدأت التجمعات، وبدأ الدخول والخروج، و(محمد نوح) لا يجرؤ على التقدم إلى (محمد توفيق)، بل ظل يقضي وقته جالسا على مقعد أمام باب المسرح في الظلام يداعب مشاكله وأحلامه.
ويضيف (سيد طنطاوي) مؤلف مسرحية (سيد درويش): في أحد الأيام كنت أجلس مع (محمد توفيق)، ومعنا الزميل الصحفي (أحمد عبدالحميد)، نبحث عن الممثل الذي يقوم بدور (سيد درويش).
وتذكر (أحمد عبدالحميد) أنه رأى ممثلا شابا يصلح للدور في فرقة (البحيرة المسرحية)، وقال إنه يعلم أن ذلك الشاب ممثل في فرقة (المسرح الحديث).
وتذكر (محمد توفيق) انه هو الذي أخرج هذه المسرحية لفرقة البحيرة، وتذكر وجه ذلك الشاب، وقال: أنه حقا يصلح للدور، ولكنه لا يعرف أنه ممثل في فرقة المسرح الحديث التى يشرف عليها.
فقال له (أحمد عبدالحميد): (لقد رأيته الليلة جالسا في الظلام أمام المسرح)، وقام (محمد توفيق) وفتح النافذة، ونادى على (محمد نوح)، وما أن دخل نوح الحجرة حتى أيقنا جميعا أنه حقا خير من يمثل دور سيد درويش.
أما (محمد نوح) فإن نداء مديره محمد توفيق له من النافذة كان قد أرعبه، فصعد السلم وقلبه مضطرب، ودخل الحجرة وهو يتوقع أن يخرج منها مفصولا!، ولكنه خرج ومعه نسخة من المسرحية ليقوم بدور سيد درويش.