بقلم: محمد حبوشة
رحل الروائي والسيناريست الفلسطيني (حسن سامي يوسف) الحياة، في دمشق، الجمعة 2 أغسطس 2024، عن عمر 79 عاما، مختتما مسيرة إبداعية غنية، قدم خلالها أو شارك بكتابة أعمال تلفزيونية بارزة تركت أثرا لايمحى في ذاكرة مشاهدي الدراما السورية والعربية، على جناح إبداع حقيقي سيظل ويبقى في الذاكرة.
برحيل (حسن سامي يوسف)، تكون فقدت الساحة الأدبية العربية أحد روادها، تاركا إرثا غنيا من الأعمال الدرامية والروايات التي عبرت عن هموم الإنسان العربي، فلسطيني متجذر في سوريته، ورفض الخروج منها في سنوات الحرب كلها.
ولطالما آمن السيناريست (حسن سامي يوسف)، الذي وافته المنية الجمعة، بأنه ليس للفن وظيفة أسمى من إيقاظ الإنسان على إنسانيته.
وانطلاقا من ذلك بقي محافظا في كل ما كتب، سواء للسينما أو التلفزيون أو الرواية، على هذا السمت الأخلاقي، جاعلا من نصوصه بمثابة دعوة لصحوة البشر وتعزيز قيم الحب والجَمال والخير فيهم، من دون مثالية زائدة.
بل من خلال الغوص في هموم الإنسان السوري وتشريح أسباب قهره والإضاءة على مكامن الخلل في مجتمعه، بمعنى أنه ظل أمينا لكونه (كاتبا مغروسا في وحل الواقع)، كما وصف نفسه ذات مرة.
ولذلك رفض (حسن سامي) يوسف أن يكتب أي شيء عالقا في الفراغ وغير محدد المعالم، أكان من حيث الزمان أو المكان أو الشخوص، أو من حيث الهم قبل هذا كله، حتى لو بقي عاطلا عن العمل قولا وفعلا.
الكاتب الفلسطيني – السوري آثر دائما أن تكون أعماله وثيقة الشبه بنا، ينقل أوجاعنا وآمالنا بمصداقية عالية، معتمدا على قراءة ذكية للواقع، وتحليل عميق لمشاكله وعبثيته وأسباب مآسيه.
ليخرج بعد ذلك بأحداث وشخصيات ساحرة بوجوديتها، وتمتلك كل عناصر التعاطف معها، لأنها مشغولة بوعي هائل لمنطق عيشها ودوَّامات الخراب التي تحيط بها، وأكثر من ذلك لعلاقتها مع الحياة أولا، ومع شجون الآخرين ومسارات عيشهم ويومياتهم الآسرة.
لم يكن تقليديا في ما يكتب
لم يكن حسن سامي يوسف (1945 – 2024) في يوم من الأيام تقليديا في ما يكتب، إذ استطاع منذ بداياته أن يعبد طريقه الخاص إلى قلوب متابعي أعماله، لأنه من خلال ولهه بالإنسان.
كان يشبع شخصياته بمصداقية واقعية، وقدرة عالية على تحقيق التعاطف، بلا محاكمات قاسية، وإنما بسعي حثيث للنبش في عوالمها الداخلية، وصقل سلوكياتها الناجمة عنها، ضمن متواليات من الأحداث ينسجها صاحب مسلسل (الندم) ضمن آلية في الكتابة.
بقدر ما تكشف من حيثيات للمتلقي فإنها تحقق له المزيد من التشويق، وتعزز رغبته في أن يعرف أكثر عن مآلات الشخصيات، ومسببات نكوصها العاطفي والاجتماعي والنفسي.
وفق هذا التصور واظب الكاتب المولود في قرية (لوبية) في فلسطين عام 1945، وبعد الثانوية، عمل (حسن سامي يوسف)، ممثلا في المسرح القومي في دمشق، وبعد نكسة عام 1967، ساهم مع عدد من الشباب الفلسطيني في تشكيل فرقة (المسرح الوطني الفلسطيني) التي قدمت عروضاً كثيرة على مسارح العواصم العربية.
في عام 1968 أرسلته وزارة الثقافة في سورية لدراسة السينما في الاتحاد السوفياتي في المعهد العالي للسينما في موسكو (كلية السيناريو) فتخرج فيها بعد خمس سنوات، وعاد إلى دمشق حاملاً الماجستير في هذا الفن.
ومن ثم عين (حسن سامي يوسف) رئيسا لدائرة النصوص في المؤسسة العامة للسينما، وهو عضو في هيئة تحرير مجلة (الحياة السينمائية) التي تصدر في دمشق.
ومنذ تخرجه من المعهد العالي للسينما في الاتحاد السوفياتي (الفغيغ) عام 1968، استطاع أن يجعل من أفكاره التي يؤمن بها سيناريوهات.
بدأها في السينما منذ عام 1973 بفيلم (بقايا صور)، ثم (الاتجاه المعاكس) و(غابة الذئاب) عامي 1975 و1977 على التوالي.
وفي الثمانينيات أنجز سيناريو فيلمي (حب للحياة) عام 1981، و(قتل عن طريق التسلسل) بعده بعام، كما أنه أسهم بوضع المعالجة الدرامية لأفلام (حبيبي يا حب التوت) عام 1979، و(الطحالب) عام 1991، و(صعود المطر) عام 1995، إلى جانب عمله كمستشار درامي للعديد من الأفلام ومنها (نجوم النهار، وقائع العام المقبل، حادثة نصف متر، الليل).
بصمات لا تنسى في الدراما
وفي الدراما التلفزيونية ترك بصمات لا تنسى على صعيد الموضوعات، وعلى مستوى البناء الدرامي كشخصيات وأحداث، إلى جانب تصميم ذكي للحبكات، والأهم في علاقتها بالجمهور، بحيث باتت أعماله ذات نكهة خاصة في ذاكرة المشاهدين، سواء التي كتبها بمفرده أو بالشراكة مع السيناريست نجيب نصير.
ونذكر من أعمال (حسن سامي يوسف) تلك: (الندم، زمن العار، الغفران، نساء صغيرات، أسرار المدينة، أيامنا الحلوة، رجال ونساء، حكاية خريف)، فضلا عن درته الدرامية (الانتظار) التي مازال أثرها باقية كإحدى علامات الدراما السورية، أحد أعمال التي قام ببطولتها النجم السوري (تيم حسن).
أما في الرواية فلـ (حسن سامي يوسف) 7 روايات، اثنان منهما حولهما إلى مسلسلات تلفزيونية، وهى (فتاة القمر) التي أصبحت عام 1999 مسلسل (نساء صغيرات)، ورواية (عتبة الألم) التي باتت مسلسل (الندم) عام 2016.
كما كتب يوسف روايات (الفلسطيني، بوابة الجنة، الزورق، إلى فاطمة)، وله دراسة صادرة عن وزارة الثقافة السورية بعنوان (هموم الدراما)، ناقش فيه مشكلات الدراما السورية بأسلوبية بسيطة تبتعد عن التنظير، وتقترب من الواقع الدرامي المعاش، إلى جانب رواية (على رصيف العمر)، كما ترجم كتاب (المسألة اليهودية) لفيودور دوستويفسكي.
اتهموه بأنه فلسطيني
في حديث خاص مع (الميادين الثقافية)، قال المخرج (الليث حجو): (إن أكثر ما لفتني في الأستاذ (حسن سامي يوسف) رحمه الله هو ارتباطه بسوريا، وقدرته الفائقة على الكتابة عن الهم السوري أكثر من كثير من السوريين.
وأيضاً رفضه لكل الذين اتهموه بأنه فلسطيني ولا يجوز له أن يحكي عن سوريا وهمومها، فهو متجذر بسوريته ورفض الخروج منها في سنوات الحرب كلها، والمقربون منه يعلمون حق المعرفة أنه لا يعرف الحديث إلا عن سوريا التي عاش فيها معظم سني حياته.
وأضاف (حجو): تنحو جميع الأعمال التي كتبها للتلفزيون إلى الشكل الأدبي الروائي، وأهم ما يميزها برأيي أنها وثيقة الصلة بالمرحلة والتاريخ السوري المعاصر، ولذا أعتبر أن العملين اللذين أخرجتهما عن نصوصه (الانتظار، والندم) بمثابة وثيقتين دراميتين لتاريخ هذا البلد).
وفي سياق آخر أوضح (حجو)، أن الراحل من الأشخاص القلائل، إن لم يكن الوحيد، الذي درس السيناريو بطريقة أكاديمية في معهد (فغيغ) زمن الاتحاد السوفياتي، وكان لذلك أثر في آليات بناء نصوصه وصقل أسلوبية سرده وكتابته.
لكن الأهم هو معرفته ومخزونه الإنساني الكبير، إذ إنه لم يكتب أيا من أعماله لمجرد تحقيق مشاهدات والوصول إلى (الترند)، وإنما بدافع إنساني، لذلك لم يهتم إن كانت أعماله ستحقق مشاهدات عالية أم لا، وإنما همه الأساسي التعبير عن مخزونه الأخلاقي التزاماً بمسؤوليته تجاه المجتمع.
من جهته، قال السيناريست والممثل (إياد أبو الشامات)، بأن الحديث صعب جدا عن (حسن سامي يوسف)، على المستوى المهني والحياتي، لأن تجربته الفنية والحياتية غنية جدا.
مبينا أن أكثر شيء أحزنه هو تلك المفارقة بأن (حسن سامي يوسف)، انتهى من المكان الذي بدأ فيه، بحيث أن حياته كانت أشبه ببناء الحلقة التلفزيونية، وهذا من سخرية الأقدار أن يكون الإنسان في هذه المنطقة محكوم بحلقة تبدأ من نزوحه بعمر 3 سنوات من فلسطين.
ثم انتقاله مع عائلته إلى سوريا قادما من بيروت، ثم اضطراره إلى النزوح من مخيم اليرموك، وتاليا العيش في فندق، وكأن حياة مبدع (الانتظار) انتهت من حيث بدأت، (فعندما تكون فلسطيني وسوري وابن هذه المنطقة تحس دائما أن كل جهودك تذهب هباء بهذا المكان للأسف الشديد).
وتابع: (إن حياة النزوح والمخيمات التي عاشها (حسن سامي يوسف)، أنتجت كل هذه التجربة الحياتية القاسية، كما أنتجت نوعا جديدا من الدراما السورية الواقعية التي ذهبت نحو العشوائيات والإنسان المهمش الذي يعاني ضنك العيش ويبحث عن حلول حياتية).
وقال أبو الشامات إن: (حسن سامي يوسف) قدم الكثير للدراما السورية، وله فضل كبير بأعماله الخالدة مثل (الانتظار، الغفران، الندم)، كما أن بدايته وحيدا بالدراما السينمائية والتلفزيونية، ثم شراكته مع نجيب نصير، والانتهاء وحيدا بـ (الندم) و(فوضى).
وهذا جعل حياته تشبه الحلقة (البداية، الطريق، النهاية)، هذا ملفت للنظر بتجربة هذا الإنسان الذي تتلمذ في يوم من الأيام على يد الأديب (غسان كنفاني).
وأوضح (أبو الشامات)، أن الراحل كان من القلائل الذين درسوا السيناريو أكاديميا، وهذا واضح بجميع أعماله التي قدمها، أما رواياته فلم يكن لها النصيب الأكبر بالوصول إلى ضمائر الناس كما أعماله التلفزيونية.
وهذا له علاقة بالوسيط وحظ الأدب اليوم وقلة القراء، ولكن تلفزيونيا كان له تأثير كبير وعمل انعطافة كبيرة بمسار الدراما السورية.
إذ صب كل جهوده في الدراما الواقعية مع (نجيب نصير)، وقدما معا أعمالا لا تنسى، وحزننا كبير على هذه الخسارة لشخصية مهمة وكبيرة ومؤثرة بواقع الدراما السورية).
عراب الكتابة الدرامية السورية
من جانبه، قال السيناريست (مازن طه): نعزي أنفسنا جميعا بفقدان الكاتب الكبير (حسن سامي يوسف) والذي كان عراب الكتابة الدرامية في سوريا.
وأعتقد أن جميع أبناء جيلي قد تعلموا منه بفضل سيناريوهات أفلامه السينمائية التي كانت تنشر في مجلة الحياة السينمائية، وكانت بالنسبة لنا مرجعا أكاديميا متاحا في ظل صعوبة الحصول على مراجع متخصصة في ذلك الوقت.
وأوضح (طه)، أن أهمية تجربة الراحل تأتي من واقعيتها، إذ إن أغلب نصوصه مستقاة من رحم الواقع وأغلب شخصياته مهزومة تبحث عن ذاتها وعن خلاصها، من دون شعارات رنانة جوفاء، أو أبطال ملحميين، بل مجرد أناس بسطاء قد نراهم في الشارع.
منوها إلى أن (تجربته الغنية أنصفت المرأة السورية، فقد كان مدافعا شرساً عن حقوق المرأة في الحياة والتعلم والحب والمشاركة، ومسلسل (زمن العار)، يقدم نموذجاً صارخا عن هذا التوجه في كتاباته.
الكاتب الفلسطيني – السوري (حسن سامي يوسف) آثر دائما أن تكون أعماله وثيقة الشبه بنا، ينقل أوجاعنا وآمالنا بمصداقية عالية، معتمداً على قراءة ذكية للواقع، وتحليل عميق لمشاكله وعبثيته وأسباب مآسيه.
ليخرج بعد ذلك بأحداث وشخصيات ساحرة بوجوديتها، وتمتلك كل عناصر التعاطف معها، لأنها مشغولة بوعي هائل لمنطق عيشها ودوَامات الخراب التي تحيط بها، وأكثر من ذلك لعلاقتها مع الحياة أولا، ومع شجون الآخرين ومسارات عيشهم ويومياتهم الآسرة.
قالها الأستاذ (حسن سامي يوسف) ذات مرة بكل ما في روحه الطيبة من فخر: (لن أكتب للتلفزيون يوماً شيئاً لا يشبهنا، حتى لو أصبحت عاطلاً عن العمل).
تقول (ليلى ساندي) في (سيناتوبيا): اليوم رحل عنا وعن التلفزيون الذي أغناه بأعمال تشبهنا، حكى قصصنا وولج إلى عالمنا بقلمه روى حكايات عشناها وأحببناها بكل تفاصيلها، حارب الحياة والظلم والانحدار الثقافي المؤلم، رافضا أن يقترن اسمه بعمل لا يرقى إلى مستوى توقعات كل من أُغرم بأدبه مهملاً من القائمين على الإنتاج والأعمال الفنية.
كانت الكتابة وسيلته المثلى للتحدث إلينا، ليخبرنا أنه منا ويشعر بنا، كثيرة هي أعمال الأستاذ متنوعة متعددة مختلفة، لكن ما جمع بينها كلها كان ذلك الألق الإنساني الذي دائماً ما أحسن حسن سامي يوسف تغليف أعماله به.
ومن هنا لا يسعنا هنا ذكر كل الأعمال التي أبدعها الأديب الراحل، لكننا سنسلط الضوء على أربعة أعمال تلفزيونية لا زالت ورغم كل التغيرات التي طرأت على المجتمع السوري قطعة من قلب كل من شاهدها يوما.
الانتظار
عام 2006 دخل (حسن سامي) بذكاء وترو إلى عالم المهمشين، إلى حياة أولئك البسطاء القاطنين في العشوائيات المنتظرين بأمل لا يفنى غدا أفضل، لم يكن (الانتظار) مسلسلا آخر عن البسطاء، بل كان مسلسلا لأجلهم.
نعم لأجل أولئك الذين التهمتهم الحياة أحياء، كانت حارات دمشق الشعبية الفقيرة الغارقة في القذارة بطلة الحكاية، حارات يقطنها المنتظرون بكافة أنواعهم وأطيافهم فهناك من ينتظر الحب وهناك من ينتظر الأمل وهناك من يبحث عن خلاصه بغض النظر عن الوسيلة.
لا مكان عند (حسن سامي يوسف) للمرفهين أصحاب السيارات الفاخرة في هذا العالم، كان هذا العمل تصويرا حقيقيا واقعيا لعالم يظن البعض أن تجاهل وجوده يكفي كي يختفي تماما.
سنوات طويلة مرت ولا زلنا نذرف الدموع لأجل (عبود/ تيم حسن) اللقيط الذي قست عليه الحياة أكثر مما استحق و(رجا) الشاب الذي نشأ بين أبوين منقسمين متباعدين ووائل الأب والصحفي الذي ينتظر بصبر ذلك البيت الذي يليق به وبعائلته.
كان العمل حكاية عن القدر والحياة، عملا سلط الضوء على عالم مجهول وروى حكايته لأجل كل البؤساء الذين يقبعون ليل نهار في الانتظار غير عالمين إلى متى ينفلج فجر جديد من الأمل.
الغفران
عاد (حسن سامي يوسف) عام 2011 في مسلسل (الغفران) ليحطم قلوبنا بواحدة من أعقد وأكثر قصص الحب حزنا، قصة (أمجد/ باسل الخطيب)، و(عزة/ سلافة معمار) اللذان حلما بعالم مثالي يغمره الحب غير عالمين أن الحياة لا ترحم المحبين إنما تتفنن في تعذيبهم وإذاقتهم الويل وأن الحب لا يكفي لصنع عائلة قوية مستقرة.
لم يكن (الغفران) يوما قصة عن الحب كما قد يظن أغلب المشاهدين، إنما هو قصة عن الحياة عن قسوتها وعن تلك اللحظات التي ندرك فيها أننا لم نفعل ما يكفي وأن الشوق يؤلم أكثر بأضعاف من الحب.
لقد ترك (الغفران) بصمة لاتمحى في عالم الدراما السورية، بدءا من الشارة الأسطورية التي أغناها المبدع (إياد الريماوي) انتهاء بالمشهد الأسطوري الذي خلقه تعاون اثنين من أفضل مبدعي الدراما الراحلان الكاتب (حسن سامي يوسف)، والمخرج (حاتم علي)، اللذان نجحا بحق في تقديم قصة حب أسطورية بنهاية ملحمية خارجة من قلب مجتمعنا وحياتنا.
زمن العار
ولا يمكن لنا الحديث عن (حسن سامي يوسف)، دون التطرق إلى مسلسل (زمن العار) الذي خرج إلى الشاشة عام 2009، جاعلا من المطحونين أبطالا له، لربما يكون (زمن العار) واحدا من أشد الأعمال السورية جرأة وأكثرها عمقا.
كان عملا ناقش بشجاعة ذلك المفهوم الغريب الذي يحكم بقبضة من حديد المجتمعات الشرقية مفهوم العار، كانت (بثينة/ سلافة معمار) بطلة العمل الأولى بثينة البريئة العانس التي أفنت حياتها تخدم أمها المريضة.
لم تعرف (بثينة) العالم الخارجي يوما، كان عالمها هو المنزل الكالح والغرفة المفعمة بروائح المرض والموت، لم تعش (بثينة) يوما كامرأة، لذا فقد كان وقوعها في حب جميل الخبيث زوج صديقتها وجارتها صباح والزواج منه سرا مسألة وقت.
لم تكن (بثينة) امرأة كريهة، كانت امرأة ترغب في الحب والأطفال والزواج لكنها حرمت حقها هذا ووصمت بالعار فقط لأنها رغبت في أن تكون أنثى، كان عار (بثينة) وسيلة مثالية لتغطية عار أخوتها وأبيها الذين اقترفوا أفعالاً تفوق في فظاعتها فعلة بثينة لكن المسكينة ككل مسكين آخر تحملت وزر العار الذي أثقل عائلتها بمفردها.
كان (زمن العار) عملا قاسيا خاض في أعماق مجتمع يدير ظهره للضعفاء، مانحا الحصانة لأولئك الذين لا يردعهم رادع عن تلبية رغباتهم وطموحاتهم، ففي النهاية لم تكن (بثينة) صاحبة العار الحقيقية، فالعار كان نسيجا كثيفا يلتف بقسوة في أنحاء ذلك البيت الذي أسرها طوال حياته.
الندم
وهل يمكن أن ننسى (عروة/ محمود نصر)، و(هناء/ دانا مارديني)؟، طبعا لا، لقد كان مسلسل (الندم) صدمة حياة للجثة التي تحولت إليها الدراما السورية، صدر المسلسل عام 2016 كبلسم شاف لكل من تاق لعمل يحكي قصصنا وحياتنا ومعاناتنا.
المسلسل هو معالجة درامية لواحدة من أكثر روايات (حسن سامي يوسف) شعبية وشهرة (عتبة الألم)، كان المسلسل مؤلما قاسيا حقيقيا، كان حكاية عن رجل امتلك العالم وفرط فيه.
وكان حكاية وطن انقسم على نفسه كأحداث العمل ماض مشرق وحاضر مظلم، كان (عروة وهناء) بطلي الحكاية الأقرب لقلوبنا كانا شابين مفعمين بالحياة والحب لكن القدر كان له رأي آخر ورحلت هناء تاركة ندبة لا تمحى في قلب عروة الذي لم يغفر لنفسه يوماً كسره لقلبها.
لم ينس (حسن سامي يوسف) سوريا الوطن الذي احتضنه، فكانت عائلة (أبو عبدو الغول) تمثيلا دقيقا للمجتمع في سوريا، المجتمع الذي لا يترك للحب والأحلام مساحة تكفي للحياة، ولم ينس للحظة أنه فلسطيني فكتب عن أوجاع اللاجئين الذين يحاربون الحياة بلا وطن عن اللاجئين الذي انتمى إليهم ونشأ بينهم.
كان (الندم) عملا خارجا من قلب (حسن سامي يوسف) المثقل بالألم، خرج من قلبه ليلج إلى قلوبنا وليصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا المفعمة بالمآسي الأنسانية التب يعانسها المجتمع السوري.
أشهر أقوال (حسن سامي يوسف):
** لا بأس في أن نظل ندفع مقابل لحظات الماضي الجميلة ما حيينا، ولكن ماذا عن المستقبل؟!
** القلب عم يصير شوي شوي من دون مطارح مفضلة، أو المطارح المفضلة في القلب عم تصير مغلقة.. يا ترى للأبد؟
** نحن نسعى على الدوام إلى إثباتِ بطلان هذه الحقيقة، فنروح نتشبث بالحياة، وتلك هي أكبر مصائبنا.. وهكذا تصير الحياةُ، بالنسبة إلينا، أكبر مصائب الحياة.
** مشكلة الإنسان مع الحياة أنها سوف تنتهي به ذات يوم، وهو يومٌ قريب مهما تراءى لنا بعيدا.
** أنا أمتهن الانتظار، فالانتظار ليس غريباً عليّ.. يخيل إليّ في بعض الأوقات أن حياتي كلها لم تكن إلا انتظاراً.. ولكن ما الذي كنت أنتظره على وجه الدّقة؟ لست أعرف؟!
** يا بتقبليني متل ما أنا، يا بترفضيني متل ما أنا.. لا تحاولي تعيدي تركيبي من جديد.
** ما في شي اسمه متأخر.. في شي اسمه: هادا وقته، امبارح كان بكير، وبكرا بيكون فات الوقت.. ووقته المناسب هو اليوم.
** إننا نتهم النساء بالنكد في أية مناسبة، وفي كل مناسبة، وننسى ونتناسى أنهن أكثر منّا حرصاً علينا.. ننسى ونتناسى أنهن يتمتعن بدقة الملاحظة، والإحساس الفائق بالمسؤولية، التي جوهرها الأمومة، حتى وإن كن صغيرات بعد.
** أرجوك أن تشفق عليّ وتجيئني مرة في العمر، فالعمر ينفد يا أبي.. ولم يبق منه غير القبر.
رحم الله الروائي والسيناريست (حسن سامي يوسف)، الذي لم يتبقى منه الآن غير (القبر)، بعد أن تخطى عتبة الألم وسئم (الانتظار)، ومل الحياة في (زمن العار)، ولم يعد قادرا على (الغفران) رغم (الندم) الذي سجله في عمله الدرامي الرائع.
رحل (حسن سامي يوسف) رافضا الإساءة لتاريخه العريق، رافضا أن يكتب عن عالم مثالي لا وجود له، رحل المبدع كما عاش بهدوء وسلام، تاركا لأجلنا إرثا قيما، يذكرنا أننا غيرنا وجه الدراما العربية يوما.
وداعا (حسن سامي يوسف)، لن ننساك يوما، وسنظل دائما نتغنى بالأديب العظيم الذي أمتعنا لأعوام وأعوام بأعمال يستحيل أن تمحى من الذاكرة السورية والعربية على حد سواء.