بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
كان النجاح الكبير الذى حققه عرض (يا عزيز عينى) في افتتاح المهرجان القومى شبحا يطاردنى، فلم أكن أتمنى نجاحا أقل منه في تجربتى الجديدة بالأوبرا، وربما انعكس هذا على كل تصرفاتي، ونقلت كل هذا للدكتور (مجدي صابر).
فلقد كنت متوترا لأقصى الحدود، ومتعجلا بشدة أن أرى نتيجة التدريبات، ولكن الغياب المتكرر لأعضاء (فرقة الفرسان) كان يشعرنى بصعوبة انجاز العمل.
وبرغم التبريرات التي كانت تقال من أن أجورهم الشهرية ضعيفة جدا (حوالى 1200 جنيه فقط)، وأنهم لايتقاضون شيئا في مقابل البروفات، وأن الفرقة مضطرة لمراعاة ظروفهم حتى لايهربوا إلى كيانات أخرى تدفع أفضل، لكنى لم أقتنع بكل تلك الأسباب، بل زادتنى توترا.
ما بين كتابة النص وتحويله إلى شعر عامية لم يستغرق الوقت طويلا، فلقد كنا نتناقش أنا ومحمد السورى في كل مشهد قبل كتابته – على حسب المعالجة التفصيلية التي وضعتها – ثم يتولى هو صياغة الحوار ونقوم بمراجعته سويا، ثم أرسل المشهد الى الشاعر (أمين حداد) فيعيده إلى وهو مصاغ شعرا، فأقوم بإبداء الملاحظات – لو كانت هناك ملاحظات.
وبعد كتابة ما يقرب من ثلاثة أرباع العمل – سبعة مشاهد من عشرة – بدأت مرحلة جديدة كنت أقوم فيها بقراءة تلك المشاهد مع المغنيين، وكأنها مشاهد تمثيلية غير مغناة.
وعندما يصلوا إلى مستوى الأداء الذى أريده، أسجل البروفة وأرسلها إلى الملحن، لكى يكون الأداء هو ما يقود الى اللحن.. هكذا كنت أتصور أن يتم الأمر كى تخرج الألحان محملة بالمشاعر التي أريدها في كل مشهد.
وبرغم سرعة الإنجاز في مجال الكتابة والصياغة الشعرية، كان هناك تباطؤ في التلحين أو ليس بنفس السرعة المطلوبة.
وبرغم مجهودات الصديقتين (كريمة بدير، ورجوى حامد) في التصميم وسرعة إنجاز المشاهد الحركية كنت أرى أن المنجز العام للعمل بطيئا، ولكن القدر كان يرتب أمرا آخر.
المخرج (إسلام إمام)
فذات يوم صحوت على ألم شديد بعينى اليمنى، ودموع لا تتوقف، فاضطررت إلى الذهاب إلى مستشفى للعيون قادنى إليها صديقى وجارى في السكن ابنى المخرج الموهوب (إسلام إمام).
وإذا بالطبيب يطلب منى الخضوع لعملية جراحية في العين اليمنى فورا قبل أن تتفاقم حالة المياه البيضاء التي أعانى منها، كما قرر أن العين اليسرى تحتاج أيضا لنفس العملية.
ولكن ليس بنفس السرعة صارحت الطبيب بأن لدى عمل ولا يمكن أن أتأخر عن إنجازه في الموعد المحدد، فقال إن العملية لن تستغرق سوى دقائق وفترة نقاهة لا تتعدى 24 ساعة ثم أمارس عملي.
ولكن تحت شروط كثيرة منها عدم الانفعال وعدم إرهاق العين في القراءة، وعدم التعرض للحرارة أو الضوء المبهر، فطلبت منه أن أجرى العملية في العين اليمنى ويتم تأجيل اليسرى إلى ما بعد انتهائى من عملى فوافق.
اخترت توقيتا مناسبا للبروفات حيث كانت تتوقف أسبوعيا أيام الخميس والجمعة والسبت، وأجريت العملية في يوم الخميس كى أنال قسطا من الراحة بعدها، كما اخترت توقيتا أثناء سفر ابنى (أحمد) حتى لا يصاب بالتوتر أو الهلع، واعتمدت على وجود ابنى (إسلام الذى أجرى مثل هذه الجراحة من قبل.
و بالفعل بعد يومين كنت في البروفة، ولكن بعين أضع عليها ضمادة، و بدأت المتاعب تتوالى من تلك اللحظة لم أكن مستعدا لها ولم أعمل لها حساب (كما يقولون).
كانت العين اليمنى قد صارت قوية الإبصار بعد إزالة المياه البيضاء و تركيب عدسة، بينما بقت اليسرى بنفس الضعف، و فشلت كل محاولاتى للإبصار بكليهما معا، فهناك اختلال رهيب في الرؤية.
حاولت علاج الأمر عن طريق نظارة إحدى عدساتها صفر والثانية قوية تعوض ضعف إبصار العين الأخرى، و لكن كافة المحاولات باءت بالفشل، وأصبحت لا أرى جيدا إلا بتغطية عين منهما، فكنت أقوم بتغطية العين اليسرى (الضعيفة) أثناء البروفة.
وبعد انتهاءها أغطى العين اليمنى (القوية) أثناء قيادتى للسيارة مرتديا نظارتى القديمة لأن ضوء السيارات المبهر كان يؤذينى، وهكذا صارت أيامى كلها تبديل غطاء العين مع كمية ضخمة من الأدوية والقطرات ومسكنات الصداع ومحاولة عدم الانفعال، إلى أن ذهبت للطبيب مرة أخرى.
كان قرار الطبيب أن الحل الوحيد هو إجراء عملية في العين الأخرى، فاتصلت بالدكتور (مجدى صابر) وشرحت له الحالة التي أعانى منها، وطلبت تأجيل العرض عن شهر نوفمبر فتكرم بالموافقة وتم التأجيل الى شهر ديسمبر.
الدكتور (مجدى صابر)
فطلبت (كريمة بدير) أن تعيد عرضا لها في نوفمبر حتى توفر لأعضاء الفرقة موردا من مكافأة العرض، وعندما علمت بالأمر اقترحت عليها عن طيب خاطر أن نتقاسم توقيتات البروفات، ولكن الدكتور (مجدى صابر) رفض أن تقدم الفرقة أي عمل إلا بعد الانتهاء من عملى.
عندما عدت من العملية الثانية أخذت أعمل بكل جدية حتى انتهيت من تخطيط 8 مشاهد من 10 يتكون منها العمل، ولم يبق إلا القليل، ولكن القليل هذا كان كثيرا بالنسبة لى.
فبعض الألحان مطلوب بها تعديلات كى تتسق مع رؤيتى الكلية للعرض، وبعضها لم يصلنى على الطلاق، ونتاجا لإلحاحى على الملحن اختفى ولم يعد يرد على اتصالاتى، وفي نفس الوقت كانت نسبة غياب الراقصين تزداد ومشاكلهم تتفاقم.
فاضطررت للشكوى للدكتور (مجدى صابر) وأنا كلى خجل، فلم أعتد أن أدخل مكانا فأشكو من فيه الى المسئول، وصارحته بأننى لم أجد إلتزاما إلا من المطربين الذين اخترتهم من الأوبرا والصديقة (رجوى حامد) التي عاونتنى بصدق و إخلاص، وكانت بحق مخرجا منفذا حقيقيا إلى جانب كونها مصممة و مدربة.
وتدخل الدكتور (مجدى صابر) ليضع الأمور في نصابها، ولكن القدر وضع نقطة النهاية في تلك التجربة، فلقد تلقيت خبر نقل ابنة شقيقتى إلى العناية المركزة بإحدى المستشفيات.
وعندما ذهبت إلى هناك فوجئت بخطورة الحالة، ولم يصبح أمامى في تلك اللحظة سوى أن ألازمها، فهى ليست ابنة شقيقتى فقط، بل هى أول حفيدة لوالدىّ وابنتى المدللة التي توليت كل أمورها منذ الصغر.
فأنا من اخترت لها كليتها والتخصص وتابعتها في كل مراحلها التعليمية حتى حازت درجة الدكتوراة في اللغة الإنجليزية وآدابها.
اعتذرت للدكتور (مجدى صابر) عن استكمال تجربة (الروك أوبرا) التي أحلم بها، و أنا أشكره شديد الشكر على موقفه الداعم والرائع، فلم أكن في حال يسمح بأى شيئ سوى الدعاء لله أن يرفع عن ابنتى هذا البلاء.
ولله الحمد من قبل و من بعد، فقد استردت عافيتها بعد أسابيع من القلق والتوتر، ولكن كان عليها أن تتعايش مع شروط قاسية لفترة طويلة، فحمدنا الله على نجاتها.
أما انتقال التجربة الى المسرح القومى فتلك قصة أخرى أتمنى أن أحكيها ذات يوم، فلقد قررت التوقف عن رواية أحداث أعايشها لأننى فوجئت بغضب بعض الأصدقاء مما سردته في مقالات سابقة – برغم صحته ودقته.
ولكنهم ظنوا أنى أدينهم أو أقلل من قدرهم، ولم يكن هذا مقصدى على الإطلاق، فقد كنت أعتقد – كما قلت في المقالة الأولى – أن من واجبى أن أروى هذه الوقائع للأجيال الجديدة – أو من هم أصغر منى سنا وخبرة – ليعلموا أن المتاعب تصيب الجميع.
فلا فرق بين مخرج معروف وآخر في بداية حياته العملية، وأن يشطبوا من قاموسهم كلمة (اليأس) فربما كان الله يؤخر عنهم ما يطلبون ليعطيهم الأفضل.