بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
على سبيل التنكيت والتبكيت معا، تداول رواد فيسبوك صور الفنان الكبير حسين رياض في دوره الشهير (الريس عبد الواحد) الجنابني، وهناك حالة سخرية وراءها إسقاطات من الحاضر على الماضي.
حيث يرى كثيرون أن (الريس عبد الواحد) كان يعيش عيشة مستورة على الرغم من أنه (حتة جناينى لا راح ولا جه) في حدائق قصر سمو الأمير.
فهو يسكن منزلاً واسعا يأويه مع أسرته المكونة من زوجته وولديه (على وحسين) بالإضافة إلى ابنة شقيقة زوجته التى دعتها ظروفها – التى لم يتطرق إليها الفيلم – لتسكن مع خالتها وتصير عضوا أساسيا في الأسرة.
البيت واسع وبراح وبه أثاثات تليق بوضعية موظف حكومة من الطبقة الوسطى، وبه سلم داخلي يؤدي إلى دور تانى أو سطح تربي فيه الطيور، ومكان لإعداد ما تتطلبه الحياة المنزلية من خبيز وغسيل وطبيخ.
كما تمكن (الريس عبد الواحد) من إلحاق ولديه بالمدارس حتى تربيا وكبرا في خير سمو الأمير، بل ودخلا مدرستي الحربية والبوليس وصارا ضابطين في الجيش والشرطة.
ولا يخفي أن في الأمر إسقاط يتماشى مع الموجة العارمة التى بدأت على استحياء ثم ما لبثت أن تغولت بعد أحداث ثورة 25 يناير سنة 2011.
وبدأت تنتشر صور ومقاطع فيديوهات قصيرة تم التقاطها في عهد الملكية أو باختيار لقطات وحوارات من أفلام ما قبل ثورة 23 يوليو سنة 1952، وأطلق عليه البعض (الزمن الجميل).
حيث تظهر شوارع القاهرة أو الإسكندرية نظيفة ولا أثر للعشوائية والزحام، كذلك نشر صور رجال وسيدات وأطفال بأزياء فاخرة أو قوائم الطعام في المطاعم الراقية.
ولا يخفي أن الحنين للعصر الملكى وتجميله هو في الأساس نوع من الاحتجاج الهامس على الأوضاع الراهنة او بالبلدى (تنبيط على الحال).
المقارنة الطبقية اللامعقولة
وسوف أؤجل إلى حين، المقارنة الطبقية اللامعقولة بين الدخول والأسعار وأوضاع العامل والموظف والفلاح المصري في عهدي ما قبل وما بعد 23 يوليو.
فما لفت انتباهى هو تجاهل الذين أعجبهم بيت (الريس عبد الواحد)، لواقعة طرده من البيت عقب اجترائه على طلب يد سمو البرنسيسة (إنجي) لابنه الضابط (علي)، ذلك لأنهم رأوا أن (الريس عبد الواحد – الخدام) لا يليق به أن يناسب الأمير.
وهل ترى أن الخدامين لايجوز لهم أن يفكروا في الزواج من بنات مخدوميهم؟!!!!!!!
طرح السؤال مع كل هذا التعجب هو أساس المعضلة، فقد تراكمت الفروق المالية والاجتماعية حتى أجبرت المجتمع البشري على وضع درجات بين الناس، قسمتهم إلى سادة وعبيد.
ومالبث هذا الفساد الاجتماعي أن انتقل إلى الضمير الإنساني، فظن الناس أن مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية، هى نتيجة لقوانين كونية تماماً كالقوانين الطبيعية التى تحكم حركة الوجود من الذرة إلى المجرة، إلى الخلية الحية من بدايات الكائنات وحتى الإنسان بصفته متوجا فوق شجرة المخلوقات النابضة بالحياة.
لكن تلك الفوارق الاجتماعية وما يتبعها من عادات وتقاليد مهما بلغت من صرامتها، إلا أنها ليس لها حتمية ولا حجية القانون الطبيعي، ذلك لأنها أوهام من صنع البشر أنفسهم.
وهى لا تلبث أن تثبت وهميتها وتنهار أمام أى عواطف تنشأ بين اثنين مثل (على) ابن (الريس عبد الواحد)، و(إنجي) بنت الأمير، يختلفان في الانتماء الطبقي، ففى كل زمان ومكان (على وإنجي) لإثبات زيف القشور الاجتماعية.
والوقائع لا حصر لها الأمس واليوم وغدا وبعد غد، فالطبيعة الإنسانية تتغلب على كل ذلك الركام، وتندفع فجأة من أعماق الإنسان لتزيح كل تلك القشور الهشة وتقذف بها حمما نارية، تماماً كالبراكين من أعماق الأرض.
نشهد ذلك في كل زمان ومكان، ليثبت فساد وهشاشة النظم الاجتماعية ووهمية المستويات المالية التى نشأت عليها تلك الدرجات التى تشكل تحديات للإرادة الإنسانية الحرة، فأنت لست حرا عندما تسلم إرادتك لوضعك الطبقى كنت غنياً أم فقيراً.
الاستسلام للمنظومة الاجتماعية
كما أنك تخادع نفسك عندما تحكم على ذاتك بالرقي أو التخلف، بالعلو أو بالدناءة، تبعاً لأى معيار اجتماعى أو مالى، لأنك بهذا الاستسلام للمنظومة الاجتماعية، قد صرت مجرد قالب طوب في بنيان عملاق، لاإرادة حقيقية لذاتك، لأنك لم تختر موضعك من الجدار في الأعلى او في الأسفل.
لقد أسفر الحوار الذي دار بين (الريس عبد الواحد) وبين (البرنس)، عن هذا النظام الطاغي الذي محق أي معايير إنسانية، حيث يرى (البرنس) نفسه في درجة أعلى بكثير من أن يتطلع لها (الريس عبد الواحد) الخدام.
فرآه مجنوناً، لأنه تجاسر وتجاهل كل الفوارق بينه وبين البرنس وهو (منطق) مقبول عند الغافلين، إلى درجة أن أحداً لا يجادل فيه، لكن كان لـ (الريس عبد الواحد) وجهة نظر أخرى!
فهو يرى أن ابنه الضابط في الجيش المصري قد وضع قدمه على أول طريق الارتقاء الطبقي الذي يمكن أن يجعله جديراً بأن يناسب أسرة الملوك والأمراء، لأنه سيحوز يوماً رتبة لواء والتى تتيح له تلقائياً أن يحصل على (الباشوية) ويصير باشا منتسبا إلى الطبقة العليا، وأما والده (الريس عبد الواحد)، فسيموت وسينساه الناس!
هنا رؤية (الريس عبد الواحد) تتبع نفس المعايير التي أجبرته على أن يحقر من شأن نفسه كعبد من عبيد إحسانات (الأمير)، الذي هو نفسه عبد يتساوى في العبودية للنظام الاجتماعى نفسه الخاضع له عبد الواحد الجنابني.
دعنى أتهمك وأتهم نفسي، مع كل الذين سخروا من طلب (الريس عبد الواحد) يد بنت (الأمير) كزوجة لابنه، بفساد الضمير الإنساني تبعاً لفساد الضمير الجمعي، فقد أغوتنا قصور الأمراء المنيفة وحدائقهم الغناء.
حتى أننا نسيناها، ولم نسأل عن حقهم في تملكها مع أنهم الأسرة الدخيلة التى لم يمض على دخول رأس عائلتهم (محمد علي) مصر سوى بضع سنين، حتى اختاره أجداد (الريس عبد الواحد)، حاكما لمصر وفرضوه فرصاً على الباب العالى، فما كان منه إلا أن وزع الأراضي على خاصته، وأبقى الفلاحين كعبيد وخدم لديه ولدى أبنائه.
نسي الساخرون الذين استكثروا على (الريس عبد الواحد)، أن يعيش في بيت ريفي، بينما رأوا قصر (الأمير) حقا طبيعياً له.
ولنختم بسؤال مهم جداً: لماذا لم تسخر الجماهير حتى بضع سنين مضت، مثلما يسخرون الآن من فيلم (رد قلبي) منذ بداية عرضه في دور السينما سنة 1957، ثم انتقاله إلى شاشات التلفزيون فيما بعد، ليصبح طقسا احتفاليا من طقوس ليالى العشر الأواخر من شهر يوليو؟!