(زكي أمين).. رسام كاريكاتير في خدمة المشروع الصهيوني!
بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
حمل غلاف العدد السابع من مجلة (الكليم) الصادر في مايو من عام 1945 رسمًا مهديًا من رسام كاريكاتير مصري يهودي شاب وهو (زكي أمين) الذى عبّر فيه عن طموح الخلاص والتحرر اليهودي من جحيم النازية.
يذكر أنه في الثاني عشر من شهر أغسطس من عام 1901 بزغت شمس صحافة طائفة اليهود القرائين في مصر، بصدور العدد الاول من صحيفة (التهذيب) لمحررها المحامى ذائع الصيت (مراد أفندى فرج).
كانت صحيفة دينية أدبية يهودية صماء لا تحمل معها من فنون الصحافة شيء يذكر، أعمدة متقابلة ومتتابعة هى الأقرب معها للصحافة المدرسية الجوفاء، تخلو من أى فن أو ذوق أو حس، واستمرت في الظهور خمس سنوات متتابعات بلا توقف أو غياب.
ومن ثم تبعها صدور نشرة بعنوان (إظهار الحق) لمحررها (موسى فرج شماس)، ولم يكتب لها البقاء طويلا، ثم صحيفة (الإرشاد) في مايو من عام 1908 وحررها (فرج سليم ليشع)، وصدرت هى الأخرى لأشهر معدودات لتختفي في مارس 1909.
(هيرتزل) صورة غلاف
في أبريل من عام 1924 كان ظهور صحيفة (الاتحاد الإسرائيلي) إحدى بواكير الصحافة الصهيونية في مصر.
وكان محررها (يوسف فرج صالح)، وعبرت عن توجهها الصهيونى صراحة بنشر عددها الثالث حاملا معه صورة الزعيم الصهيوني (تيودور هيرتزل)، بعدما حمل العددان الأول والثاني صورا (الملك فؤاد والزعيم سعد زغلول).
وراحت (الاتحاد) تروج لأحلام الوطن اليهودى فوق أرض فلسطين معتمدة في ذلك على مساحة الحرية التي أتاحها الاحتلال الإنجليزى لأبناء الطوائف والأقليات في مصر مع تضييق وخناق طال الصحافة الوطنية المصرية في ذاك الحين.
حاولت صحيفة (الاتحاد الإسرائيلي) في حينه الأخذ بفنون الصحافة الحديثة وأساليبها المتنوعة كالصور والرسومات والكاريكاتير في محاولة منها لمضاهاة الصحافة المصورة في مصر والدول المحيطة، واستمرت في الظهور خمس سنوات حتى توقفت عام 1929.
الاقتراب من الصهيونية
لم تتوقف رغبة الطائفة عن امتلاك أداة تمكنها من التعبير عنها وعن طموحات أبنائها في التماهي مع المشروع الصهيوني الذى راح هو الآخر يبحث بشتى السبل عن أدوات تمكنه من تحقيق طموحاته وتجسيدها.
وعليه جاء صدور مجلة (الشبان القرائين) عام 1937 لمحررها (يوسف عبد الواحد) واستمرت حتى عام 1945 ليتم اتخاذ قرار في حينه باستبدالها بمجلة أخرى تحمل اسم (الكليم) وحررها (يوسف كمال).
صدر العدد الأول منها في السادس عشر من شهر فبراير 1945 يحمل على غلافه (مليك الوطن المحبوب فاروق، مع تقديم التهاني والتبريكات بمناسبة عيد ميلاده السعيد).
حملت (الكليم) منذ بداية صدورها هموم الطائفة والتعبير عنها، مع محاولة تقريب أبنائها من أحلام المشروع الصهيوني عبر نشر أخبار الاستيطان اليهودي في فلسطين وتكاتف اليهود حول العالم في مواجهة ما لحق بهم على يد الزعيم النازي (أودلف هتلر).
فضلا عن نشرها إعلانات لتنظيم رحلات لشباب الطائفة لفلسطين للتعرف عن قرب على ما يجري هناك على أرض الواقع.
ومن ثم حمل غلاف العدد السابع من (الكليم) الصادر في مايو من عام 1945 رسمًا مهديًا من رسام كاريكاتير مصري يهودي شاب وهو (زكي أمين)، الذى عبّر فيه عن طموح الخلاص والتحرر اليهودي من جحيم النازية.
وربما كان هذا الرسم (الصهيوني بامتياز) النافذة التي مكنت معها (زكي أمين) من الولوج نحو عالم الصحافة اليهودية في مصر، ومكنه هذا الرسم من دخولها ربما بعدما لاقى قبولاً وارتياحًا لدى قيادات الطائفة.
ليشرع بعدها (زكي أمين)، في تقديم مجموعة من الرسومات التي عبرت معها عن مشاكل الطائفة وأزماتها وما يعانيه أفرادها خاصة الفقراء منهم. كما جسدت معها ما اعتبره (زكي أمين) حالة التيه التي يعيشها أبناء الطائفة القرائية وسط طوفان الحياة العصرية في مصر بذاك الوقت.
(يعقوب أفندي) اليهودي المصري
في ذاك الوقت كانت الصحف والمجلات المصرية ولعل أشهرها (اللطائف المصورة، الكشكول، خيال الظل، روزاليوسف)، وغيرها تعج برسومات ساخرة لفنانين أجانب مثل (جوان سنتيس، برنار) وغيرهم من الذين وفدوا لمصر.
وكذلك لرواد مدرسة فن الكاريكاتير المصرية، ومنهم (ألكسندر صاروخان) الأرمانى الاصل، و(محمد عبد المنعم رخا، وعلى رفقى) وغيرهم الكثير.
وسط هذا الصخب والثراء الفني الصحفي أدرك الفنان (زكي أمين) سريعا أن الطريق نحو الشهرة وبلوغ الصيت والسير في ركب المشاهير، يجب أن يكون من خلال الاشتباك مع الواقع المصرى وعدم الاكتفاء أو الانكفاء على تجسيد واقع وهموم الطائفة.
ليقرر في حينه المضي قدما نحو اختلاق شخصية مصرية يهودية بدت ملامحها الأولى ونواتها في العدد رقم 19 من مجلة (الكليم) الصادر في 16 نوفمبر من عام 1945 بغلاف يحمل رسم له.
ويظهر فيه شخصان أحدهما يهودى يرتدى بدلة ويحمل في يده مسبحة بجواره مواطن مصري هو أقرب في هيئته وملابسه لأبناء الطبقة المتوسطة في ذاك الوقت وتتشابك أيدهما، وفي أعلى يسار الرسم طائران يتعنقان وفي أسفلها طريق مفروش بالزهور والورود، مذيلة بعبارة (ابناء العم).
اختلاق شخصية مصرية يهودية
وفي الصفحة التالية افتتاحية المجلة التي خطها محررها (يوسف كمال) عن التعايش بين أبناء الوطن الواحد في مصر.
لم يكتف (زكي أمين) بذاك بل ذهب بعيدا داخل وجدان أبناء طائفته محاولا من جديد اختلاق شخصية كاركاتيرية ساخرة تبدو إذا ما جرى تجسيدها في المجلة بريشته، وكأنها تمصير لشخصية ابن الطائفة وأكثر قربا معها للواقع المصرى.
وهو ما جرى بالفعل بعد نحو شهر كامل من رسم (أبناء العم)، كان ذلك تحديدا في ديسمبر من عام 1945 في العدد رقم 21 ليبشر (زكي أمين) جمهور القراء بعزمه البدء في تقديم شخصية (يعقوب أفندي) ابن طائفة القرائين والناطق بلسانها والمعبر عن آرائها.
ذاك اليهودى المتفاخر بدينه وشريعته ورجل الدنيا الذى لا ينسى نصيبه منها. والخادم الأمين لمصر والمصريين.
شرع (زكي أمين) في تقديم شخصية (يعقوب أفندي) برسم في يناير 1946 عن مشاكل الطائفة مع محاولة التماس مع الواقع المصري عبر اقتباس تعليق هو (لازمة شهيرة) من اغنية لموسيقار الأجيال الفنان (محمد عبد الوهاب)، وهى (ما اعرفشي)، محاولا الاقتراب أكثر من هذا الواقع.
لم يتخل الفنان (زكي أمين) في طريقه عن هموم البسطاء والعوام من أبناء الطائفة بل سعى قدر استطاعته نحو حثهم على الاقتراب من مشاريعها التي حاولت من خلالها إيجاد رابطة طائفية تجمعهم وتضويهم تحت لوائها ومنها مشروع مدرسة القرائين.
وهو ما عبر عنه برسم في أغسطس من العام ذاته حث فيه أبناء القرائين على الالتحاق بالمدرسة، تبعها بسلسة رسومات لحث القرائين على تثبيت اركان طائفتهم داخل المجتمع المصري.
كذلك لم يخف (زكي أمين) في رسوماته طموحات اليهود، بل سعى وبقوة للاقتراب منها والتعبير عنها دون مواربة تمامًا، كما فعل في يناير 1947 برسمه (أبو يعقوب) متطلعا للوصول لجبل (صهيون)، مجسدا حالة الخلاص اليهودى وبلوغ أمل الوطن القومي في فلسطين.
حرب فلسطين نقطة الحسم
مع اندلاع حرب فلسطين في مايو 1948 أعاد (زكي أمين) رسمه (أبناء العم)، مذيَلا هذه المرة بعبارة (المصري أفندي وأبو يعقوب جسدان وقلب واحد).
شيئا فشيئا ومع احتدام الموقف الداخلي في مصر وقلق أبناء الطائفة من المساس بهم وبممتلكاتهم جراء الحرب وما تمخضت عنه توارت رسومات شخصية (يعقوب).
مع اكتفاء (زكي أمين) بنشر العشرات من الرسومات الساخرة، في محاولة منه للتخفيف عن أبناء الطائفة من وطأة الضغط الذى تمخضت عنه الحرب.
مع اكتفاء المجلة في ذاك الوقت بنشر رسومات على صدر صفحتها الأولى تعبر عن الوجدان اليهودي، وبعضها إن لم يكن جميعها مستوحى من (قصص التوراة).
وكذلك نشر صور قيادات الطائفة ومشاهيرها من رجال الصناعة والمال والتجار مع زيادة وتيرة نشر صور (الملك فاروق) تارة، وصورة الزعماء الوطنيين كمصطفي النحاس تارة أخرى، كمحاولة للتودد للمجتمع المصري وعدم الانفصال عنه بل والاندماج بداخله.
بداية من عام 1949 ومرورا بعام 1950 ووصولا لعام 1951 زادت وتيرة محاولات التودد للقصر الملكي بنشر صور (الملك فاروق والملكة نريمان)، ربما سعيًا من الطائفة وإدارة المجلة والقائمون على تحريرها في الحفاظ على انفسهم.
والابتعاد عن أى مشاكل قد تحدث إذا ما كانت هناك محاولات لإظهار أن هناك رابط ما يجمعهم مع الصهيونية التي تمكنت من إقامة دولتها فوق تراب فلسطين.
خاصة أن بعض الصحف اليهودية الصادرة في مصر عن الطائفة الربانية بلغات اخرى كالإنجليزية والفرنسية طالها الملاحقة، ومن ثم إغلاقها بسبب التماهى الفج مع الصهيونية والتعبير عنها بل والارتماء في أحضانها ضاربة بعرض الحائط المجتمع المصري وثوابته ومواقفه الواضحة من فلسطين.
اليهود الناصريون
المثير بل اللافت هو أنه ومع اندلاع ثورة 23 يوليو 1952، ومن ثم نجاح الضباط الاحرار في الاطاحة بالملك (فاروق)، وجدت المجلة أنه من الأجدر بها في حينه أن تولي وجهها شطر العهد الجديد لتقوم بنشر صور اللواء محمد نجيب ومن بعده صور الرئيس جمال عبد الناصر.
في محاولة لدرء أي شبهات عنها والادعاء أن ولاءها وولاء قادة الطائفة للوطن المصري وليس للوطن اليهودي.
لكن المثير حقا هو أن عددها الصادر بتاريخ فبراير 1953 أعاد (زكي أمين) نشر رسمه (ابناء العم) مذيلا مرة أخرى بعبارة (المصري أفندى، وأبو يعقوب جسدان وقلب واحد).
ربما كطوق نجاة للطائفة بعدما غرق بعض من أبناءها في وحل الصهيونية واللحاق بركبها والهجرة للوطن الموعود.
أما عددها الصادر مطلع نوفمبر من عام 1954 فقد بلغت معه مجلة (الكليم) بقيادة (زكي أمين) أوج تملقها للعهد الجمهوري الجديد.
إذ حملت افتتاحيتها رسما لشخصية (أبو يعقوب)، مخاطبا الرئيس جمال عبد الناصر بمناسبة نجاته من واقعة الاغتيال في المنشية، وناقلا رسالة من طائفة القرائين له ضجت معها بخطاب ناصري – قومي – عروبي عن جلاء الإنجليز، ونير الاستعمار الغاشم.
وكيف عملت يد المحتل على تفريق كلمة الأمة والدس بين عناصرها، واقتران الاحتفال بعيد الجلاء بعيد نجاة الرئيس من الحادث الآثم، مع اقتباس بعض الأقوال الماثورة عن الرئيس (جمال)، بدت معه وكان من خطها واحدا من رجالات العهد الناصرى.
التواري والاحتجاب
ليتوارى من بعدها تماما الفنان (زكي أمين) ء نشر فيها نحو 60 رسمًا كاريكاتيريا، وسط غياب تام لأي معلومات عن أسباب غيابه أو انتقاله للعمل في صحيفة أخرى.
وربما رحيله من مصر مهاجرا كغيره لفلسطين أو غيرها من الدول تماما كما فعل شباب وشبان الطائفة وعائلاتهم، ولتختفي من بعده (الكليم) بعددها الاخير الذي حمل رقم 220 والصادر أول فبراير 1955.
لتنهى حالة قد تكون هى المُتفردة في الصحافة من محاولة الاقتراب اليهودى للمجتمع المصري وعهود السلطة المتعاقبة.
ولتكشف معها كذلك عن مسعى التلون مع الواقع والتشكل بالصورة التي وجد فيها ابناء الطائفة وقادتها انها قد تكون هى الأمثل بل الأقرب لخدمة أهدافهم وتحقيقا لطموحاتهم وولاءاتهم الحقيقية.
وربما يكون هذا المقال، بداية بحث عن حالات مماثلة نشطت في الصحافة اليهودية المصرية بذاك الوقت، ولم يتم تسليط الضوء عليها من ذي قبل.