بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
(دواعي السفر)، مسلسل عرضته منصة (ووتش إت) مؤخراً، وهو رحلة درامية في أعماق النفس البشرية، شخصيات كئيبة وأحداث مؤلمة، ولكنها في النهاية تنشر الأمل والفرح بأن الحياة ممكنة والوجع له علاج.
وأن الإنسان الذي خلقه الله كائناً اجتماعياً لا ينبغي أن يستسلم للوحدة وعليه أن يناهض وساوس نفسه التي هى أسوأ من وساوس الشيطان.
لن يستطيع الغث من الفن طرد الثمين في مصر والسيطرة على الساحة وحيداً، وسيظل لكليهما وجود، فالمفسدون من البشر لن يبعدوا المصلحين، وصناع الفن الفاسد مهما نالوا من دعم ودعاية ومديح أجوف سيظل يقف لهم بالمرصاد صناع الفن الهادف والإعلام الصادق.
الأرض منذ أخرج الله آدم من الجنة وهى موطن لأهل الخير وأهل الشر، كانت البداية لقابيل وهابيل، وتوالت فصول الصراع بين الخير والشر عبر التاريخ الإنساني والذي لا يختلف عنه الصراع بين الفن الهادف والفن الفاجر.
واليوم نعيش وسط من يفسدون ويهدمون ويسفكون الدماء ويشعلون الحروب ويشوهون الجمال ويبتذلون في الفن وينشرون القيم الهدامة، وبين من يصلحون وينقذون ويعمرون ويناهضون الحروب ويجملون القبح ويرتقون بالفن وينشرون القيم البناءة.
تابعنا خلال الفترة الماضية العديد من الأعمال الفنية الناشرة لقيم البلطجة والعنف والترهيب والإسفاف الفكري، وآخرها الفيلم المحبوك الصنعة الفاسد القيمة (ولاد رزق3.. القاضية).
كما تابعنا أعمالاً صنعت خصيصاً لتنجيم بطلاتها المحدودات الموهبة وما أكثرها وما أكثرهن، ولكن هذا لا ينفي أننا تابعنا أعمالاً متميزة الصنعة والفكرة والإبداع، شارك فيها فنانون حقيقيون يرون الفن رسالة وقيمة.
المبدع (محمد ناير)
وكان آخر هذه الأعمال مسلسل (دواعي السفر) الذي كتبه وأخرجه المبدع (محمد ناير)، في أول تجاربه الإخراجية، وقد عرفنا هذا المبدع كاتباً من خلال أعمال ترك بعضها بصماته الايجابية على وجدان مشاهديه ومنح الأبطال مساحة واسعة للتعبير عن مواهبهم.
ومن هذه الأعمال لا ننسى (المواطن إكس، ريفو بجزأيه، فيرتيجو، أبواب الشك، الكاهن، الطاووس) وغيرها.
(دواعي السفر)، مسلسل يغوص به مؤلفه في أعماق النفس البشرية، يكشف بعضاً من غموضها، صراعاتها، وساوسها، انحرافاتها، انعزالها، وحدتها، قيادتها لصاحبها إلى طريق الاكتئاب، تحميلها له ما يفوق قدراته العقلية والوجدانية.
مسلسل البطل الأول فيه هو الحوار بين أبطاله، والحوار مع النفس، استطاع أن يمس كل من شاهده، أحس كل متابع له أنه يخاطبه، وأن هناك رابط بشكل أو بآخر بين ما يشاهده وما يسمعه وبين ما يعيشه.
داخل كل إنسان بعض من وساوس (علي/ أمير عيد)، مخرج الإعلانات الناجح، الذي هرب من حياته ومن أصدقائه ليتقوقع داخل ذاته ندماً على وفاة والده وهو غاضب منه.
وانتقاماً من ترك والدته له ولوالده مبكراً، هرب من الأهل والأصدقاء ليعيش مع والده المتوفي، يزوره في قبره، ومعه قهوة لكل منهما ليحتسياها سوياً، يجلس على كرسي أمام القبر يحدثه ويستشيره ويستسمحه ويعاتبه.
أغلق أبوابه أمام أقرب الناس إليه وترك عمله ليتفرغ لهواجسه النفسية التي دفعته لاتخاذ قرار الانتحار، وكلما اقترب من التنفيذ عطله طارئ، حتى التقى بجاره، (القبطان إبراهيم/ كامل الباشا)، الذي حرض ابنته الوحيدة على الهجرة إلى أستراليا، وجلس وحيداً في منزله ينتظر الموت!
هو مثل (علي)، هارب من الحياة ومن الناس، متقوقع داخل ذاته، وحتى لا يثير قلق ابنته عليه يختلق لها الأكاذيب مدعياً أنه يعيش مستمتعاً بعلاقاته مع الأصدقاء، وأنه يعيش قصة حب مع طبيبة نفسية معروفة.
والسبب رفضه لأن تعود ابنته إلى مصر وتراه يموت أمام عينيها، يرفض العلاج ولا ينتظم في تناول الدواء، ينتحر هو الآخر ولكن بصورة مختلفة.
(أمير عيد) و(كمال الباشا)
(أمير عيد) فنان بسيط، يجرب في الحياة بتواضع ويقدّر جمهوره، وأصدق تعبير عن ذلك البوست الذي نشره على صفحته بأحد مواقع التواصل تعبيراً عن امتنانه للمعجبين بالمسلسل.
حيث قال: (عايز أشكركم كمان بقى بما أني برغي النهارده على كلامكم الحلو عن مسلسل – دواعي السفر – مكنتش أتصور إن ممكن حد يشكر في تمثيلي سواء نقاد أو جمهور، وعارف إني لسه محتاج أتعلم أكتر لو حبيت أمثل تاني..
وعارف انكم كنتوا بتعدّولي حاجات عشان بتحبوني أو بتحبوا أغانيّه وكده.. كان نفسي أقولكم والله دي شخصيتي الحقيقية، ولا لأ في المسلسل بس أنا مش عارف شخصيتي الحقيقية أوي، أنا كل يوم بشخصية).
لقاء (علي) و(القبطان إبراهيم) يغير لكل منهما حياته، ليدآن سوياً التعامل بشكل أكثر واقعية مع الحياة، (علي) يساعد إبراهيم لتصبح أكاذيبه حقائق، وهواجس (علي) يساعده (إبراهيم) على تجاوزها.
تتحول حياتهما من الفقر الاجتماعي إلى الثراء، يتجاوز كل منهما وحدته، يجمعان حولهما العديد ممن يعانون الوحدة مثلهما، يعودان ليعانق كل منهما السعادة ويتجاوز وساوس النفس البشرية.
كلاهما يعيش الحب، ويعيش الصدق مع الذات، ويتحول من مريض نفسي إلى دواء لنفوس مأزومة، حتى يرحل (القبطان) إبراهيم عن الحياة آمناً مطمئناً على ابنته، ويرحل (علي) عن الاكتئاب مستمتعاً بالحب والحياة مستعيداً نجاحه الموؤود.
(محمد ناير) كتب بلغة عميقة، وأخرج بلغة بسيطة، والمطرب (أمير عيد) جسد شخصية علي بحرفية عالية، عبّر عن غضبه وألمه وخوفه وتردده وإحباطه ويأسه، غاص في أعماقه وأثبت بعد تجربته في (ريفو)، وفي (دواعي السفر).
أنه فنان مختلف، لا يتعامل مع الفن على أنه وسيلة لتحقيق الشهرة وجمع المال ولكنه رسالة وقيمة وهدف وأفضل وسيلة للتعبير عن الناس والتأثير فيهم، يعي أن الفن يمكن أن يصلح ويمكن أن يفسد.
وبعد تجربتيه نقول أنه اختار الفن الذي يصلح، انحاز للقيم البناءة غير عابئ بمن اختاروا الانحياز للمكاسب الشخصية، ولو كان بالانحياز للقيم الهدامة.
أمام (أمير عيد) فنان فلسطيني كبير هو (كامل الباشا)، نجح في الخروج من دائرة النار التي أشعلها الكيان الصهيوني في كل بقعة فلسطينية، وجاء إلى مصر ليشارك في هذا العمل المتميز مجسداً شخصية (القبطان إبراهيم ) بلهجة مصرية سليمة.
فضلا عن أداء متميز عبّر عن شخصية الأب الذي يفعل ما لا يؤمن به حتى يحمي ابنته من وجع محتمل بعد أن وجعه رحيل والدتها.