بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
لم تكن (روزاليوسف) مجرد امرأة.. إنما كتلة متحركة من الإرادة المعاكسة لاتجاه كل أمواج البحر الهادر في غضب.. تقاوم مبتلة كل أذرع الغرق الممتدة إليها من أعماقه السحيقة.. تضرب الماء المالح في قوة وإصرار على الوصل إلى سفينة عابرة في البعيد الأزرق لترتقيها مهاجرة حيث أرض الحرية والإنسانية والعدالة.
ولدت (فاطمة محمد محى الدين اليوسف) التي عرفت بـ (روزاليوسف) في طرابلس بلبنان عام 1888 م لأب هو تاجر تركى الأصل.. توفيت أمها عقب ولادتها بأيام قليلة.
خرج الأب إلى تجارته الموزعة بين تركيا وسوريا و إيران تاركا ابنته الوحيدة (فاطمة) و مربيتها في كنف أسرة مسيحية صديقة استمر الأب يرسل إليهم شهريا مصاريف الطفلة و مربيتها.
نشأت (فاطمة) بين أفراد الأسرة المسيحية كإبنة لهم وسط أخواتها.. أخفوا عنها حقيقة أمها الحقيقية وحتى كونها في الأصل مسلمة وليست مسيحية.. وإمعانا في طمس هويتها الأصلية كانوا يطلقون عليها اسم (روز)، وألحقوها مع أولادهم بالمدرسة الابتدائية.
بعد ست سنوات تقريبا انقطعت فجأة أخبار الأب.. وانقطعت مع أخباره المصاريف الشهرية للطفة و مربيتها، وحينما يأست الأسرة ونفذ الصبر منهم تغيرت معاملتهم تماما للطفلة (روز) فأقيمت الحواجز بينها وبينهم.. وساءت لهجتهم معها من لهجة تخاطب فردا في الأسرة إلى لهجة تخاطب خادمة لهم.
بل ونقلوها من غرفة من كانت تعدهم أخوتها إلى الغرفة النائية الخاصة بمربيتها، كانت الطفلة تتابع هذه التغيرات المتلاحقة والصارمة في دهشة مشبعة بعلامات الاستفهام.. وما لبثت أن أخرجوها أيضا في سن الثامنة من مدرستها الابتدائية بينما استمر من تظنهم أخوتها في الذهاب إلى المدرسة.
(روز) تذهب إلى البرازيل
في إحدى هذه الأيام العصيبة على (روزاليوسف) حل على الأسرة صديق لها توجست منه خيفة.. وبينما هى تتسمع من خلف الستائر تيقنت من هواجسها.. فقد عرض الصديق على الأسرة أن يصطحب معه الطفلة (روز) معه في عودته إلى البرازيل لتخدمه وتخدم أسرته هناك.
وأن يرفع عنهم عبء تربيتها.. لتجد الأسرة في هذا العرض مخرجا لها من المأزق الذى تورطت فيه بخاصة بعد توقف الأب عن إرسال المصاريف.. بالفعل وافقت الأسرة على العرض لتصاب (روزليوسف) بالذهول متسائلة: (كيف لأسرتها التخلي عنها بهذه السهولة لهذا الرجل؟.. انطلقت بالسؤال إلى مربيتها التي حاولت مرارا التهرب من الإجابة حتى قبل سفرها بساعات لتكشف لها عن هويتها حتى لا تضيع إلى الأبد في طيات المجهول.
صارحتها بأنها ليست ابنة لهذه الأسرة فأمها قد ماتت وأبوها سافر وانقطعت أخباره.. وأنها ليست بمسيحية وإنما مسلمة.. وأن اسمها (فاطمة) و ليست (روز).
لم تتردد (فاطمة) في اصطحاب الرجل بعد اكتشاف حقيقتها.. خاصة أنها بالفعل قد فكرت من قبل في الهروب مرات عدة بعد تحول الأسرة في معاملتها إلى بالغ السوء وتعنتهم معها.
أعدت لها المربية حقيبتها الصغيرة.. ركبت (روزليوسف) من الميناء الباخرة المتجهة إلى البرازيل.. تتماوج على ظهرها وهى تتنسم اتساع الأفق ولانهائيته.
تكسرت بداخلها جدران غرفة المربية الضيقة والتي كانت تزداد ضيقا بهذا الصلف والقسوة لهذه الأسرة.. لكنها حينما تلتفت إلى الأفق تجده ملبدا بغيوم المجهول.
فهى لا تدرك حدود أو أنواع القسوة التي تنتظرها في خدمة هذا الرجل وأسرته هناك في بلاد بعيدة لا تملك حينها خيارا للعودة حتى لو كان هذا المكان الجديد هو قعر الجحيم ذاته.
روز في ميناء الإسكندرية
في ميناء الإسكندرية توقفت السفينة ليلا للتزود باحتياجاتها من وقود ومؤن.. تأملت فاطمة المدينة أمامها تتلألأ أنوارها وتضج بالحياة بينما إذا التفتت للخلف داهمتها ظلمة البحر و المجهول.
في سرعة خاطفة اتخذت (فاطمة) قرارها.. تسللت من السفينة إلى شوارع الإسكندرية تحمل حقيبتها.. تتبع خطواتها عن غير مقصد.. تطالع ليل شوارعها.. فاترينات المحلات.. حركة التورماي.
وعندما بلغ بها التعب مداه جلست إلى جانب بوابة فيللا ضخمة تستريح وتطالع نوافذه المضاءة.. خرج لها حارس الفيللا يسألها عن سر جلستها هذه في هذا الوقت لتحكى له قصتها.. و حاجتها إلى عمل.
اخبرها الحارس أن الفيلا لأسرة يونانية.. ولو أدخلها لهم ستعمل لديهم أيضا كخادمة.. وقد يكون مصيرها القادم معهم أسوأ من المصير الذى تحاول الآن الهروب منه.
وحينما انخرطت في بكاء التيه والخوف أخرج لها الحارس كل ما يملك في جيبه.. جنيهين.. نصحها أن تركب القطار إلى القاهرة.. و حينما تصل إلى محطة مصر عليها أن تسير في الشارع المقابل لتجد بعض البانسيونات الصغيرة المتجاورة هناك فتحاول السكن في إحداها والعمل بها.
و أن تبحث لنفسها هناك عن أي عمل تتعايش منه.. بالفعل استمرت (فاطمة) تسير في الشارع على غير هدى حتى وصلت إلى العتبة ومنها مرقت إلى شارع محمد على.. تأملت في الشارع ورش صناعة الآلات الموسيقية بدءا من المزمار وانتهاءا بالعود.
تأملت المقاهى تغص بملتقيات المطربين والفنانين ومتعهدي الأفراح.. بالفعل كان يطلق على هذا الشارع (شارع الفن).. و قد خرج منه أشهر فرقة موسيقية – فرقة حسب الله – لمؤسسها محمد حسب الله الذى كان احد أفراد فرقة السوارى في عهد الخديوي عباس حلمى.
كان (حسب الله) موسيقارا مبدعا حتى أنه حصل على الباشوية بمنطوق من الخديوى إسماعيل.. كان الفن حينها مصدرا للثراء، حتى أن حسب الله أصبح من الأثرياء لدرجة أن حذاءه كان مصنوعا من الجلد المرصع بالذهب.
كانت أيضا (شفيقة القبطية) الراقصة والمطربة الشهيرة قد بلغت من الثراء حدا أنها أصبحت تسقى خيولها الشمبانيا.. تتابع من شارع محمد على خروج راقصات ومطربات مثل (أمينه شخلع، بمبة كشر، سنيه حسن) التي كانت الصورة المصغرة لأم كلثوم، وغيرهم.
زور و(إسكندر فرح)
على إحدى هذه المقاهى – و قد بلغ بها التعب منتهاه – جلست الطفلة (فاطمة) على إحدى المقاعد تستريح.. بجلستها المحطمة وطفولتها لفتت أنظار رجل جالس هو (إسكندر فرح).
ولأنه لبنانى الأصل فقد كان قادرا على التواصل مع هذه الفتاة اللبنانية بسهولة.. هاجر (إسكندر فرح) إلى مصر للعمل بالمسرح، وأسس فرقا مسرحية عديدة.. بنى لنفسه مسرحا في العتبة.. (ضم الى فرقته العديد من الممثلين الجدد مثل نجيب الريحانى، ومنسى فهمى) وغيرهم.
طلب إسكندر للطفلة (فاطمة) وجبة طعام و بعض المشروبات الساخنة والباردة بعد ما أفضت له بقصتها ورغبتها في أي عمل تتكسب منه رزقها..عرض عليها (إسكندر) أن تعيش مع بناته في بيته.. وأن تعمل معه في المسرح لبيسة للممثلات.
فلم تكن قد ظهرت على (فاطمة) حتى هذه اللحظة ما ينبئ عن مواهبها المتفجرة.. وافقت (فاطمة) وصاحبته إلى بيته لتبدا مرحلة جديدة في حياتها..
في الحلقة القادمة نسرد حقائق وأسرار في حياة (روزاليوسف).