(ناصر المزداوي).. رائد الأغنية الليبية الحديثة، (الغربة) أوصلته للعالمية (1/2)
* والده حرص على تعليمه خمس لغات وكون فرقة (النسور) فى سن المرهقة
* تأثر بعبدالحليم حافظ، ومحمد فوزي، والبيتلز، والفيس بريسلي، وسيناترا
* استوحى أغنيات ألبومه الأول من تجربته الشخصية
* أصغر مطرب عربي يحصل على الأسطوانة البلاتينة، والقذافي حرق آلاته الموسيقية وشرده
كتب: أحمد السماحي
تأثر المطرب والملحن الليبي الشاب (ناصر المزداوي)، بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، الذي أحدثت وفاته صدمة كبيرة لدى الشباب المصري والعربي، خاصة أن كثير منهم كانوا يعتبرونه مطربهم المفضل.
والذى صنع نقلة نوعية مؤثرة في فن الغناء المصري، إذ نقل الأداء من حالة الطرب الصعب، والألحان الثقيلة، والآهات والليالي الطويلة إلى حالة جديدة غير مألوفة على الأذن الموسيقية العربية.
وقد نجح في أدائه نجاحا باهرا فاستقطب الشباب، لهذا كانت صدمة وفاته شديدة عليهم، فابتعد كثير منهم خاصة شباب الجامعات عن الاستماع إلى الغناء المصري.
وذلك بعد انتشار الأغنية الطويلة التى كان يتنافس عليها (ورده، وفايزة أحمد، ونجاة، وشادية، وشهرزاد، وعليا، محرم فؤاد، وهاني شاكر) واتجه هؤلاء الشباب إلى الغناء الغربي واللبناني.
وبدأت تظهر بوادر فرق موسيقية وغنائية، مكونة من بعض الهواة المتمردين مثل (عزت أبوعوف، ومودي وحسين الإمام، وعمر خيرت، وهاني شنودة) يقدمون فنهم لرواد الفنادق.
المزداوي و(شنطة سفر)
في هذه الفترة تسلل بقوة إلى آذان الشباب المصري صوت ودود وبسيط، حسن التدريب لمطرب ليبي جديد اسمه (ناصر المزداوي) يغني بصحبة جيتاره قائلا:
مسافر وحامل في إيدي شنطة سفر
مسافر وحامل فى قلبي حكاية عمر
الغربة طريقي، ورفيقي
وأغلى أصحابي ضي القمر..
كانت الأغنية شجية ومعبرة عن حال كثير من الشباب فى هذا الوقت لهذا تسللت بسرعة إلى قلوبهم خاصة أن كثير منهم كان يحلم بالهجرة، وكانت الأغنية إحدى أغنيات ألبوم (ناصر المزداوي) الغنائي الأول أو تجربته الموسيقية والغنائية الأولى (فى الغربة)، التى جعلت اسمه كالنار في الهشيم.
المزداوي والعالمية مبكرا
بدأت أغنيات (ناصر المزداوي) في ألبوم (في الغربة) الذي كان يتضمن 8 أغنيات هى (مشينا، شنطة سفر، سافر لبعيد، زي الليلة، عيون عربيات، ولا من يسأل عني، يا أمي بعد سلامي، مرات)، تتردد بقوة بين الشباب.
خاصة أن الموسيقى المستخدمة في هذه الأغنيات كانت متطورة جدا تقوم على المزج الواعي بين الموسيقى الشرقية والغربية، كانت الموسيقى جديدة وغريبة على آذن الشباب المصري.
ذلك الشباب الذى تعود لقرون طويلة على الاستماع إلى الموسيقى والألحان التقليدية، ونظرا لحداثة فكرة الكاسيت آنذاك، كان الشباب ينسخون الألبوم الجديد للمطرب ويتناقلوه فيما بينهم.
واستطاعت أغنيات الألبوم أن تصل للعالمية، وتحقق نجاحا فنيا وتجاريا كبيرا جعل (ناصر المزداوي) يحصل على الاسطوانة البلاتينية عن أغنيات هذا الألبوم.
وكان ثاني عربي بعد المطرب المغربي الكبير (عبدالهادي بلخياط) الذى حصل عام 1973 على الاسطوانة البلاتينية عن ألبومه (القمر الأحمر)، لكن كان الفرق بين بلخياط و(ناصر المزداوي) أن الأخير حصل على الاسطوانة وهو فى سن السابعة والعشرين.
وبهذا يكون أصغر مطرب عربي حتى الآن يحصل على هذه الاسطوانة التى حصل عليها أيضا الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب عام 1978، وأخيرا عمرو دياب.
البداية مع النسور
ولد (ناصر المزداوي) في الخامس من سبتمبر عام 1950 فى طربلس لعائلة ثرية تنتمي إلى بلدة (مزدة) فى الغرب الليبي، وهى مصدر نسبه واسم شهرته (المزداوي).
وقد حرص والده على الاهتمام به وتعليمه أكثر من لغة، وفى مراحل طفولته الأولى لفت نظر العائلة عشقه للغناء، حيث كان يصمت عن الكلام عند استماعه إلى أي أغنية تنطلق من الراديو.
وعندما بدأ مرحلة الصبا التحق بمعهد (جمال الدين الميلادي) للموسيقي العربية فى طربلس، وتدرب على غناء الأشكال الغنائية العربية مثل الموشح، والدور، والمألوف.
وتدرب على يد (الشيخ قنيص، ورجب كريمة، وسالم تنكو، ومهدي بلوزة)، وغيرهم من أساتذة الموسيقى في ليبيا، وبدأ ينهل من نبع الموروث الشعبي الليبي.
وعشق عبدالحليم حافظ (موضة العصر)، لكن هذا العشق لم يمنعه من الاستماع إلى كل مطربين الخمسينات والستينات فى معظم العالم نظرا لإجادته خمس لغات أجنبية هي (الإنجليزية، والفرنسية والإيطالية، واليوغوسلافية).
من هؤلاء المطربيين (محمد فوزي، محمد قنديل، فريد الأطرش)، ومن ليبيا (محمد حسن، سلام قدري، خالد سعيد، محمد رشيد، محمود كريم، عادل عبدالمجيد، مصطفى حمزة).
كما تأثر (ناصر المزداوي) بكلا من (الفيس بريسلي، فرنك سيناترا، توم جونز، ستيفن واندر، وخوليو، وجاني موراندي)، وفرقة (البيتلز).
وقد ساعده هذا الشغف بالموسيقى والغناء فى العالم على تكوين فرقته الموسيقية (النسور)، وكان عمره لا يزيد عن السابعة عشر من العمر.
وقد اختار من أبناء مدينته أفضل العازفين الذين يقاربونه في العمر، فكان هناك من يعزف على الجيتار، والدرامز، والساكسفون، والطبلة، والأورج، والعود من الآلات الشرقية.
وقد نجح فى أن يحقق شعبية كبيرة لدى الشباب الليبي، وطاف بفرقته هذه كل مدن وأرجاء ليبيا مثل (بنغازي، وطربلس، وطبرق) وغيرها من المدن الليبية، كان ما يفعله هذا الشاب (المعجون) بالموسيقى والغناء جديدا على الليبيين
الأغنية الليبية وروادها
فقد كانت الأغنية الليبية في هذا الوقت – الستينات – تستمد إبداعها من أغنيات تراثية محفوظة ومعروفة بالنسبة للمستمع.
وبرز العديد من الملحنين اللذين تطلعوا إلى الرقي بمستوى الأغنية إلى نظيراتها في الأقطار الأخرى، خاصة أن معظمهم درسوا الموسيقا العربية في المعاهد الموسيقية الموجودة في هذه الأقطار مثل مصر ولبنان.
وتوصلوا إلى ضرورة التلحين وفق قاعدة علمية صحيحة، وبما يكفل للأغنية المحلية، أن تنهض وتنتشر عربيا، مع الاحتفاظ على هوية الكلمة والعمل الجاد على إعداد ألحان تأتي وفق المقامات العربية.
فضلا عن التعامل مع الشعراء الذين كان لهم الهاجس نفسه، وانتقاء الأصوات التي تجيد الغناء العربي على أحسن وجه.
ونظرا لجهودهم المخلصة، لكسر الجمود الذي كان يكتنف الأغنية آنذاك بأطره التقليدية، بلغت الأغنية ذروة نجاحها في فترة قصيرة، وقياسية جداً، بالمقارنة مع العديد من التجارب المماثلة لها في أقطار أخرى.
فقد أصبح لها كيان خاص على أيدي مجموعة من الملحنين منهم (على ماهر، ومحمد مرشان، وإبراهيم فهمي، وعطية محمد، وعبدالحميد شادي، وهاشم الهوني).
ومن الشعراء (أحمد الحريري، وعبدالسلام زقلام، ومسعود القبلاوي، وفرج المذبل)، فقدموا بأصوات كل من (محمد السليني وعادل عبدالمجيد، وخالد سعيد، ومحمود كريم)، درراً وروائع كثيرة.
مثل: (يا بيت العيلة، وزي الذهب، ويا سلام ع النسمة، وبلد الطيوب) وغيرها، وبلغ نجاح هذه التجربة منتهاه، بعد ظهور الفنانين (أحمد فكرون)، و(ناصر المزداوي)، فقفزت الأغنية الليبية قفزة كبيرة، إذ أنهما أوصلاها إلى العالمية .
الثورة الثقافية وحرق الآلآت الموسيقية
مع بداية السبعينات وتحديدا مع إندلاع (الثورة الثقافية) في ليبيا عام 1973، كان مجموعة من شباب المطربين الليبيين يعيشون حالة من التمرد على قوالب الغناء المتعارف عليها.
كانوا يريدون أن يكون هناك خطابا جديدا يستطيع أن يعبر عن تلك الفترة، ويحتوي كل طاقاتها التى فجرتها هذه الأحداث بدافع أن الفنان والغناء تحديدا ليس بمعزل عن ما يحدث.
وبالفعل حاول اثنين من المطربيين الليبيين المساهمة في تحويل الخطاب عن طريق التأصيل لأفكار وأطر مختلفة، وتقديم الأغنية القصيرة المتطورة التى أطلق عليها عندنا فى مصر بعد ذلك فى بداية التسعينات الأغنية الشبابيه.
كان يقود هذا التيار من الغناء الليبي المتطور، المطربان (أحمد فكرون) و(ناصر المزداوي)، كانا هذين الشابين بدعة منذ ظهورهما في بداية السبعينات.
وانضم إليهم بعد ذلك (خالد العايب، ونجيب الهوش، والحسناوي)، مما حرك النقد باتجاههم وتم تجاهلهم، والتعتيم على ما يقدمونه، رغم إنهم كانوا رائعيين حينها.
ويبشرون بمستقبل غنائي رائع، كان عيبهم فقط أنهم ليبين وفي بلد لايسمح حاكمه لأي نجم أن يشع إلا نجمه، ثم هولاء الشباب يستعملون الآلآت الغربية فتحول الفن الي تهمة!
فهولاء – حسب وثيقة إتهام النظام – يخدمون مصالح الغزو الثقافي، وتم حرق الآلآت الموسيقية التى يعزف عليها (ناصر المزداوي) في محرقة عظيمة بميدان الشهداء.
تماما كما فعل بأمهات الكتب، وألقى الرئيس (معمر القذافي) خطابا على إثره أودع مئات من خريجي الجامعات والكتاب والمفكرين والإعلاميين والمثقفين السجن لمجرد مناهضتهم لأطروحاته.
الأسبوع القادم نستكمل رحلة مشوار ناصر المزداوي مع الأغنية الليبية والعربية.