* علاقتي بأمي خاصة جدا، وحميمية جدا، وقد تعلقت بصدرها فاستمرت ترضعني حتى سن السابعة!
* يوجد أستاذ في علم النفس وهو ناقد أيضا بدأ يطبق علم النفس على شعري فقال: (إن سر استعمال نزار قباني لكلمة النهد هو سر استمرار فترة رضاعته إلى سن السبع سنوات!)
* منزل أهلي مليئ بالألوان والخضرة ساعد لغتي كثيرا لدرجة إنني قلت بأنني أكتب بلغة مائية، لغة الماء، هذه الطراوة وهذا المدى في شعري قد يكون عائدا لهذا البيت.
* كنت على وشك أن أتحول إلى رسام ولكني كنت سأكون رساما متوسطا وأنا طموحي أن أكون الأول في كل شئ!
بقلم الإعلامية الكبيرة: أمينة صبري
حول الحوار
في عام 1987 كان الشاعر الراحل (نزار قباني) في زيارة للقاهرة، أعتقد لكني لست متأكدة أنه كان ضيفا لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، ويومها كلمته تليفونيا بدون سابق معرفة بيننا لإجراء حوار لبرنامج (حديث الذكريات) الذى يذاع عبر أثير إذاعة (صوت العرب).
والحقيقة إنه كان لطيفا وودودا جدا، ورحب باللقاء، وفي الموعد المحدد الذى حدده، كنت هناك، وبدأنا الحوار، وبعد المقدمة التى قلتها عنه في بداية البرنامج طلب أن يتوقف التسجيل!
فاندهشت جدا وسألته لماذا طلبت توقف التسجيل؟!، فقال بهدوء وحب وعرفان: لأنك يا سيدتي فجائتيني بالمقدمة التى تحدثتي فيها عني، هذه المقدمة لا أستطيع أنا نفسي أن أقولها!
وبعد انتهاء الحوار قال لي (نزار قباني): (فى حياتي لم يناقشني أحد في شعري وأعمالي حتى الآن كما حدث معك)، وأهداني أعماله الكاملة وكتب لي عليها: (إلى الصديقة الراقية العزيزة أمينة صبري، إعجابا برقتها وشاعريتها وحضارتها فى طرح الأسئلة).
وهذا الجزء الأول من نص حواري مع الشاعر السوري الكبير (نزار قباني) الذي نحيي هذه الأيام الذكرى الـ 26 لرحيله.
مقدمة الحوار
إنه عازف الموسيقى في شعرنا العربي الحديث، المدافع عن قضية الجمال والحب في شعرنا الحديث، هو الشاعر الذي يمشي دائما على حد الخنجر، شاعر الدهشة والمصادفة، هو الوردة حينما يتحدث عن الحب والجمال.
وهو السيف عندما يتحدث عن النضال، وهو الفنان المتمرد والمتصادم عندما يحارب الجمود والتقليدية، هو أكثر شعراء العربية الذي واجه حروبا شرسة في عصرنا الحديث.
اختلفت فيه الآراء ما بين معجب إلى حد الموت، والآخر رافضا إلى حد الموت أيضا.
* وأنا أقابل شاعرنا الكبير نزار قباني وأنا أتناول مجموعات شعره وحياته، فلابد لي من الخوض في بداية تكوينه كشاعر وكإنسان، فإذا تطرقت معه إلى الطفولة، وإذا تصورنا إنني الآن في لقاء مع السيدة والدتك فماذا ستقول والدتك عن (نزار قباني) الطفل؟
** نزار قباني: علاقتي مع أمي علاقة طريفة جدا، كنت طفلها المدلل، وكنت الطفل ذي الحظوة من بين كل أخواتي، كنت صاحب الامتيازات بالمنزل، هى كانت تخبئ لي أطيب وأشهى الأطعمة، تخصني عن بقية أخواتي حتى أحصل على نصيب أكبر من نصيب أخواتي.
علاقتي بأمي علاقة خطيرة، فأنا أمي أرضعتني حتى سن السابعة، وقد تعلقت بها، وتعلقت بصدرها فاستمرت ترضعني حتى سن السابعة، وهو سن مغالى في طفولة، ثم كانت تطعمني حتى سن الثالثة عشر بيدها.
وهذه العلاقة جعلتني مرتبطا بها جدا، ومرتبطا بذكرياتي معها، حتى إنهم قالوا عني إنني لدي عقدة أوديب!، فأنا عاشق لأمي وكذلك أمي عاشقة لي.
وسوف أبوح لك بسر، يوجد أستاذ عالم في علم النفس وهو ناقد أيضا بدأ يطبق علم النفس على شعري فقال: (إن سر استعمال نزار قباني لكلمة النهد هو سر استمرار فترة رضاعته إلى سن السبع سنوات).
وأنا بدأت أفكر في هذا الموضوع وقلت إنه ربما يكون ما يقوله صحيح.
* ولكن السؤال هنا لماذا ميزتك الوالدة عن باقي إخوتك؟ ماذا وجدت فيك مختلفا جعلها تخصك بكل هذا الحنان؟
** نزار قباني: لا أدري.. لا أدري..، ولكن كل ما أعرفه إنه كان هناك سر بيني وبينها، علاقة حميمة جدا، واستمرت حتى بعد أن تخرجت من الجامعة، وعملت بالسلك الدبلوماسي.
وعندما ذهبت إلى لندن كانت ترسل لي طرودا من الطعام الشامي، مثل الكبيبة الشامي، رغم اعتراض أبي ومحاولة إفهامها أن لندن مليئة بالأطعمة.
ولكنها تأبى إلا أن آكل من يديها هى، والغريب أنني من حبي لها تعلمت منها طريقة طهي الطعام، فكنت ألازمها كثيرا في المطبخ، وكان يحلو لي عندما كبرت أنا أدعو أصدقائي على طعام بمنزلي، بدلا من المطاعم.
وكنت كثيرا ما أنسى تفاصيل بعض الوجبات، فكنت ألجأ إليها لكي ترسل لي تفاصيل طهي الطعام.. الحقيقة إن علاقتي الحميمة بوالدتي ظلت فترة طويلة.
* شاعرنا الأستاذ نزار قباني، لابد وأن مكان نشأتك له تأثير عليك، وأقصد بذلك المنزل الذي نشأت به، وأنا أتصور من خلال معرفتي بشعرك بأنك نشأت في منزل دمشقي أصيل يمتلئ بالخضرة والياسمين والذي نراهما كثيرا في شعرك؟.
** نزار قباني: هذا سؤال هام جدا، فأنا نشأت كما استنتجت في منزل دمشقي أصيل.. فمنزل الأسرة كان في حي من أحياء دمشق القديمة يسمى (مأذنة الشحم) والبيوت الشامية القديمة من أجمل البيوت من حيث فن المعمار العربي.
فهو يتألف من طابقين، الطابق الأرضي عبارة عن باحة مكشوفة مصنوعة من الرخام والأعمدة الرخامية التي يتسلق عليها جميع أنواع الياسمين الأبيض، والورد الأحمر، وفيها شجر الليمون.
وبوسط الباحة توجد نافورة ماء نقي ليل نهار، في هذا الإطار نشأت فكنت كأنني أعيش في حديقة من حدائق الأزهار، وأمي كانت حرفتها أن تنبت الزهور، فكل هدفها في الحياة هو تربيتنا وتربي معنا الورد.
نشأنا على صداقة مع الزهوروالورد والرياحين، فكنت في طفولتي كأنني أنام على سجادة من العطر، هذا البيت حقق لي نوع من الاكتفاء الذاتي، فلم يكن يخطر ببالي أن أطلع خارج البيت لكي ألعب مع باقي الأطفال.
أعطاني هذا البيت المادة الأولية للشعر دون أن أدري، ما كنت أعرف وأنا طفل في الثالثة مثلا أنني أمشي بين الزروع، وأتسلق أدراج الياسمين، ما كان يخطر ببالي أن سيمفونية الخضرة هذه ستساعدني في المستقبل على الكتابة.
لأن الألوان الذي أعطاني إياها هذا المنزل ساعد لغتي كثيرا لدرجة إنني قلت بأنني أكتب بلغة مائية، لغة الماء هذه الطراوة وهذا المدى في شعري قد يكون عائدا لهذا البيت.
* هل بدأت ملكة الشعر عندك تظهر وسط هذه السيمفونية من الخضرة وهذه السجادة من العطر أي ف وسط هذا المنزل الدمشقي الجميل؟
** نزار قباني: لا، بدأت أشياء فنية أخرى مثل الرسم، الرسم كان أول مرحلة فنية لي، فكنت مولعا بشكل عنيف بالألوان، فكنت أصبغ الجدران بالألوان لدرجة أن أمي ضجت مني على محبتها الشديدة لي.
وخصصت لي حجرة لكي أفعل بها ما أشاء، ففترة اللون في حياتي كانت فترة هامة جدا، فصار لي لوحات وصرت أرسم، كنت على وشك أن أتحول إلى رسام، ولكني كنت سأكون رساما متوسطا، وأنا طموحي أن أكون الأول في كل شئ.
* الرسم والألوان و(نزار قباني) شئ طبيعي ومنطقي، ولكن في تصوري فإن الموسيقى يجب أن تكون لها دور كبير في تكوينك ووجدانك؟
** نزار قباني: معك كل الحق فأنا بعد اهتمامي بالرسم تعلقت تعلقا كبيرا بالموسيقى بعد أن أدركت إنني لن أكون رساما متميزا.
فقررت أن أجرب الموسيقى والتلحين، فأحضرت عودا وطلبت من أمي أن تأتي لي بأستاذ يعلمني العود والموسيقى، وفعلا بدأت آخذ دروسا في الموسيقى.
ولكن الأستاذ بدأ معي بتعلمي (السولفيج) أي النوتة الموسيقية، والنوتة الموسيقية هذه علم الرياضيات وأنا أكره الرياضيات، فشعرت بالملل الشديد من تعليم الموسيقى وأدركت بأنني موسيقى فاشل، وتركت الموسيقى.
في الحلقة القادمة
* في رحلة بحرية لروما كتبت لأول مرة الشعر، حيث جاءني فجأة بيت شعر، فشعرت بالخوف عليه من أن يقع مني في البحر وتلتهمه الأسماك، فكتبته!
*الكتابة عن المرأة هى قتال بالسلاح الأبيض، وأنا دافعت عن سجن النساء الكبير، وحطمت أقفال هذه السجون، لأني أعتبر أن الرجل يجب أن تقص أظافره لأنه إقطاعي كبير!
*ركزت هجومي على الرجل باعتباره أنه لا يمكن أن تتحرر المرأة إلا بتحرر الرجل أولا، لأن الرجل العبد لا يستطيع أن يعطي الحرية للمرأة، ولكن أعترف بأن المرأة خذلتني في هذه المعركة!