بقلم: محمد حبوشة
انتهى موسم (الدراما) الرمضانية، واتضحت صورة أغلب الأعمال التي وصلت للنهاية، فالحقيقة هناك أعمال جيدة وهى قلة، وأعمال ضعيفة، وأخرى ضعيفة جدا حتى يكمن وصفها دون المستوى.
وها هو حصادنا الدرامي المر الذي قدمته (الشركة المتحدة) لموسم رمضان 2024، والذي كان ينبغي أن تزدهر أوراقه وزهوره، لكنها على مدار شهر كامل ظلت تتحفنا بغثاء السيل – إلا قليلا – من خلال أعمال ترسخ للعنف والخيانة والأخوة الأعداء، وبدلا أن ترسم البسمة على شفاه ظمأى للفرحة، اغرورقت الدموع في عيون رقت لحال الدراما المصرية، التي كثيرا ماكانت تأسر القلوب عبر ماضيها العريق.
وبقراءة متأنية لمشهد الدراما التلفزيونية في رمضان 2024، يتضح لنا أن أولى أسباب الضعف تكمن في النص الدرامي الرديئ (الورق)، فالنص هو أساس العمل الدرامي، فبلا نص لا وجود لدراما.
ومن هنا فإن المؤلفين صاروا في آخر اهتمامات منتجي (الدراما) العربية الذين روج أغلبهم لنجومية الممثلين ذوي الحضور الجمالي الشكلي خاصة، وهمشوا كتاب السيناريو، معتمدين على ورشات كتابة أو غيرها من المسميات التي تضمن تكلفة إنتاجية أقل، لكنها في النهاية لاتنجح في تحقيق عمل متوازن وجيد.
سقى الله الزمان الذي كان فيه المتفرج العربي يقبل على العمل الفني أو يدبر عنه لمجرد قراءة اسم المؤلف على البوستر السينمائي والمسرحي أو الشارة التلفزيونية أو حتى الاستماع إلى الجينيريك الإذاعي.
تعثرت (الدراما) وذهبت إلى عوالم الفوضى والعنف والبلطجة، والأشكن الساذج، والكوميديا التافهة، وبلغت ذروتها في موسم رمضان 2024، وذلك بعدما بدأت نجومية المؤلف في الدراما العربية بالأفول إلى حد التلاشي.
ليخلفها فريق إعداد بقيادة المخرج وتكليف من شركة الإنتاج لتلقي نجومية الممثل بثقلها إلى حد الإطلالة برأسه كنجم أول في الإنتاج التلفزيوني والسينمائي على وجه التحديد.
وبدأ الكاتب يأخذ دورا ثانويا تاركا مكانه للممثل والمخرج وشركات الربح والتسويق التي تكتفي بالإعداد شبه الجماعي كيفما اتفق، ووفق وصفة جاهزة تعتمد النسج على منوال نسخة جاهزة ومسبوقة وناجحة جماهيريا.
الكل هنا يشارك في قتل المؤلف بل ويمشي في جنازته منتحبا وباكيا على غيابه بمن فيهم المؤلف ذاته، الذي يشتكي بدوره، من غياب المنافس والمثل والقدوة.
(موت المؤلف) الدرامي
(موت المؤلف) هنا ليس بالنموذج الذي طرحه النقاد البنيويون والتفكيكيون الفرنسيون من أمثال (جاك دريدا وميشيل فوكو)، بل شركات الإنتاج والربح الكسول والسريع من تلك المستهترة بذائقة المتلقي.
بعدما ذهبت نجومية المؤلف في (الدراما) العربية إلى حد الأفول، بل إلى حد التلاشي ليخلفها فريق إعداد بقيادة المخرج وتكليف من المنتج.
ولعل الذي يقف وراء غزارة الإنتاج وضحالة المستوى الفني هو غياب كاتب (الدراما) الحقيقية، الذي ترك مكانه للذي يدعي القيام بدوره بدلا عنه أو حتى يشركه في الكتابة حسب الطلب واستجابة لإرادة شركات الإنتاج التي تقرأ أوراقا في العقود بدل أوراق السيناريو.
المشكلة إذن، ربما تكون مادية تجارية بحتة، لذلك أقدم عديمو الموهبة على الكتابة الدرامية وأحجم عنها المبدعون الحقيقيون، والذين هم بطبيعتهم، كسالى ونادرون أمام هذه الماكينة الضخمة والنهمة في الإنتاج والتسويق الفضائي.
والذي زاد من (وحشية الإنتاج الدرامي) ورداءته هو ظهور منصات البث الإلكتروني الرقمي والتهامها لكل أنواع الكتابة حسب الطلب: (تراجيديا، كوميديا، حروب، مطاردات، خيال علمي، ألغاز بوليسية، مسلسلات تاريخية.. إلخ.. إلخ).
وبالعودة إلى أزمة النص في الدراما العربية والمصرية منها على وجه التحديد، فإن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة بطبيعة الحال، وذلك في غياب معايير نقدية صريحة وصارمة أي وبالمختصر المفيد: (اختلط الحابل بالنابل ولم نعد نعرف الغث من السمين).
ويبدو ملحوظا أن كل شركات الإنتاج تنفر من الصعب والمعقد والتجريبي بما في ذلك الممثلون والفنيون والجهات التي تسعى للبث دون شوشرة أو مساءلة ثم إن الكتاب الجيدين هم قليلون في كل زمان ومكان.
وفوق كل ذلك، يجب ألا ننسى نسبة التهافت على كتابة (الدراما) لدى جيل من الشباب عديمي الخبرة، لما توفره من ربح سريع دون جهود مضنية في التجربة الحياتية والثقافة الموسوعية التي هى شرط أساسي في الكتابة الدرامية.. القاعدة تقول: إن كل مجال يكثر فيه الاستسهال، تكثر فيه الرداءة والركاكة.
لنأخذ المجال الكوميدي في الإنتاج التلفزيوني، على وجه الدقة والتحديد، باعتباره الأكثر طلبا لدى الجمهور العريض، فإنه أشد الأجناس الدرامية بؤسا، وذلك لصعوبته في الكتابة اليومية التي تتطلب جهدا مضاعفا وموهبة استثنائية.
الدراما الاجتماعية تجنح للجريمة
أما الدراما الاجتماعية فإن لم تجنح نحو الجريمة والمطاردات، فإنها لم تستفد من الانفتاح الرقابي، ولم تغنم سوى ببعض اللقطات المثيرات لحسناوات دون موهبة ودون قصة، والسبب واضح دائما: غياب النص الوازن.
نلف ندور، نذهب يمينا وشمالا، والأزمة تبقى حبيسة الورق الذي منه تبنى أعمدة (الدراما) مهما أوغلنا في التجريب وملء الثغرات على مستوى الحكاية التي تمثل ذريعة كل شيء.
ويبدو أن تعدد منصات البث لن يحل الأزمة بل سيصعبها أكثر لأن الكثرة تشجع على الرداءة وفق ثنائية العرض والطلب، لذلك نعود لنتحسر على الماضي الذي كان فيه الإنتاج قليلا والجودة موجودة.
لا نلوم الإمكانات المادية فهي متوفرة بل العقلية الجشعة والذهنية المتخلفة هى السبب في إقصاء الكاتب الجيد الذي من دونه لا نصنع عملا جيدا.
أما الذين يتشدقون بعصر الصورة على حساب الكلمة فهم يشنقون (الدراما) بأمعاء آخر كاتب، وذلك وفق الاستعارة الماركسية حول الإقطاع ورجال الكنيسة.
مما لاشك فيه أن الجيل الحالي من كتاب (الدراما) في مصر ليس في جودة وكفاءة الجيل السابق، ويرجع ذلك إلى عوامل عديدة، على رأسها رغبة المنتجين في تحقيق الربح المادي فقط دون القيمة الفنية، والاستسهال والاستعجال وعدم الدأب والمثابرة من الكتاب أنفسهم.
كان كتاب (الدراما) من الجيل السابق يتأرجحون بين الحرفية في التعامل مع الأحداث ونسجها بانضباط في سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي، لكن ما تشهده الساحة الفنية حاليا من أقلام شابة أغلبيتها تظهر كنتاج للورش الجماعية في الكتابة.
وهذه الورش تفرض المقارنة بين جيلين من الكتاب، ولا يوجد بينهما جيل وسط، أحدهما فتش عن الهوية المصرية بكامل تفاصيلها، والآخر أغرق المشاهدين في الحالات المجتمعية المعاصرة، لكن من خلال التهميش والتسطيح في الغالب.
ومع ذلك فلا شك في أن بعض أعمال الدراما المصرية شهدت تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة، وظهرت فيها أقلام شابة واعدة، بعضها شق طريقه بمفرده وآخرون لمعوا من خلال ورش تجمع أكثر من موهبة شابة تحت إشراف كاتب من الذين باتوا أكثر شهرة وانتشارا في السنوات الأخيرة، مثل تامر حبيب ومريم نعوم وغيرهما.
إن المقارنة بين جيل المبدعين الكبار من الأحياء والراحلين وبين الأجيال الشابة، ربما تكون قاسية وتكشف عن فجوة كبيرة أفصح عنها انحدار المستوى الذي وصلت إليه الدراما المصرية في الوقت الحالي.
وهنا نشير إلى الثقافة الواسعة التي كان يتمتع بها جيل الكبار، ودأبهم ومثابرتهم، وما امتلكوه من وجود مشروع حقيقي لدى كل منهم، واستحالة وجود مثل هذه النماذج في الوقت الراهن بالرغم مما تموج به الساحة حاليا من أقلام جديدة.
الفوضى التي نعيشها حاليا
الكتاب الكبار لم تكن لديهم الفوضى التي نعيشها حاليا، لأن البعض من الكتاب الآن صاروا يكتبون المشاهد (على الهواء) أثناء التصوير، أما الجيل الماضي فكان العمل الواحد من الممكن أن يستغرق منهم عاما أو أكثر في كتابته، بالإضافة إلى ظواهر أخرى أضعفت جودة الدراما، مثل إرسالها عبر أجهزة الهواتف المحمولة.
وبالتالي يطلع عليها أكثر من فرد، أو أن يظل تصوير المسلسل مستمرا حتى آخر يوم في شهر رمضان، أو ظاهرة أن الجميع يحاربون بعضهم بعضا من أجل نزول عملهم في موسم واحد.
في جيل الكبار لم نسمع عن أن الممثل النجم كان يتدخل في كتابة البعض من أجزاء المسلسل بنفسه، كما لم تكن هناك ظاهرة مسلسل النجم الأوحد، أو أن يطالب النجم بجعل عدد الحلقات 45 بدلا من 30.
بينما كتاب الجيل الحالي يستجيبون لكل تلك الأمور ما يدلل على ضعفهم في اتخاذ القرار، ونتذكر أنه في وقت من الأوقات أعلن كبار الكتاب عن ثورتهم على المنتجين في تسعينات القرن الماضي ضد شروط المنتجين المجحفة، (وهو ما لم نسمعه من كُتاب هذه الأيام).
بالنسبة لمسألة ورش السيناريو التي سيطرت على الدراما مؤخرا، نؤكد أن فكرة الورش كانت موجودة في السينما منذ سنوات بعيدة، لكن استخدامها في التلفزيون لم يفرز في السنوات الأخيرة إلا تجارب قليلة ناجحة، مثل مسلسلات (موجة حارة، وسجن النسا) للكاتبة مريم نعوم.
(الدراما).. والمسؤولية الأخلاقية
وغالبا ما يتم اللجوء إلى الورش كحل للإنجاز السريع من أجل اللحاق بالعرض الرمضاني وإنهاء الحلقات.
الاقتباس من الأعمال الأجنبية يكشف قلة المواهب، وهو ما يشير إلى أن صناعة الدراما التلفزيونية ستنهار مثلما انهارت السينما إذا استمرت على وضعها الحالي، خصوصا مع إصرار النجوم على الدخول في تفاصيل أعمالهم، وارتفاع نسبة السطحية الثقافية.
بالإضافة إلى اللجوء إلى مصادر الثقافة الأجنبية في صياغة الأحداث، وذلك في الوقت الذي تلتزم فيه الدراما الخليجية على سبيل المثال بالعناية بتفاصيل أعمالها والسير على نهج الأعمال المصرية القديمة.
وفي النهاية لابد من الانتباه إلى أن (الدراما) تعتبر إحدى أهم الأدوات التي تمتلكها الشعوب والمجتمعات، والتي عادة ما يشتبك عبرها المجتمع مع أزماته اشتباكا تراكميا طويل الأمد، والاشتباك الدرامي الهادف إنما ينطلق من موقف معياري أخلاقي تجاه الموضوع أو الظاهرة.
كما أنه يعكس تصورا عقلانيا نقديا، إذ تلتزم (الدراما) بمسؤولية أخلاقية في الانحياز الكامل لقضايا وحقوق البشر والدفاع عنها، هذا الموقف يقارب بين أرباب تلك الصناعة والعلماء والمثقفين حين ينحازوا لقضايا وهموم أمتهم ومجتمعاتهم فلا يتعالون عليها، أو ينحازوا لأرباب السلطة والقوة.
و(الدراما) حين تتخذ موقفا وتشتبك، فإنها تخاطب جمهورا عريضا شديد التنوع والاختلاف، لذا يعول عليها كثيرا سواء في عمليات التربية والتعليم والتثقيف، أو حتى الحشد والتوجيه، ومن ثم لزم الانتباه إلى ضرورة الاهتمام بالدراما كصناعة تصب في وعي المجتمع.