بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
كلنا يعلم أن هناك أزمة اقتصادية طاحنة تمر بها مصرنا، تهدد بأكل الأخضر واليابس، هذه (الأزمة) ممتدة منذ سنوات، بداية من جائحة كورونا ثم حرب روسيا و أوكرانيا الى حرب غزة التي امتدت آثارها الى الملاحة في البحر الأحمر فانخفضت إيرادات قناة السويس مايقرب من 40 %.
بعد أن كانت موردا هاما من موارد موازنة الدولة، إلى جانب انخفاض عائدات السياحة نتيجة للظروف السياسية غير المستقرة في منطقة الشرق الأوسط بكاملها، والحروب المحيطة بنا من كل جانب .
إضافة إلى المضاربات على العملة الأجنبية التي خلقت (الأزمة) في سوق موازية يقترب سعر الدولار فيها من ضعف السعر الرسمي مما أثر على تحويلات المصريين بالخارج التي كانت مصدرا هاما من مصادر موازنة الدولة .
ثلاث مصادر لدخلنا القومى تأثرت بظروف العالم المضطربة وانعكاساتها على (الأزمة) الاقتصادية، ولم يبق للحكومة سوى المصدر الرابع وهو الضرائب التي زادت في السنوات الأخيرة بما يزيد عن 250 %.
كما تسعى الحكومة للقضاء على الاقتصاد الأسود (الاقتصاد الموازى لاقتصاد الدولة والذى لا يتم تحصيل ضرائب او رسوم عليه)، والذى يقدر حجمه بحوالى 2 تريليون جنيه.
إقرأ أيضا : عصام السيد يكتب : يا … ضرائب المبدعين !
وتقدر الضرائب المستحقة عنه بأكثر من 330 مليار جنيه تضيع بين مصانع بير السلم والأسواق العشوائية والباعة الجائلين والمهربين، وصفحات البيع على وسائل التواصل الاجتماعى.
ومن أجل عبور هذه (الأزمة) تفعل الحكومة كل ما تستطيع، ولكنها خلال جهودها تقوم بإجراءات غريبة وعجيبة تدخل تحت بند (عجائب الزمان)، أو هى جديرة بالنشر تحت عنوان (صدق أو لا تصدق).
من ضمن تلك الإجراءات أنها أصدرت عقدا موحدا تتعامل به مع جميع الأنشطة ومنها الأنشطة الفنية، والحقيقة أن من وضع العقد – والذى وافق عليه مجلس الوزراء في فبراير من العام الماضى – لا يعرف طبيعة العمل الفني.
لأنه تم وضعه وفقا لأحكام القانون 182 لعام 2018 والمتعلق بالممارسات والمناقصات العامة والمحدودة.. إلخ لكافة الوزارات يتساوى في هذا النشاط الصناعى و التجاري، وللأسف الفني.
العقد الذي يصنع (الأزمة)
ولكى نفهم طبيعة ذلك العقد التي تسعى الحكومة لتطبيقه علينا أن نعرف أنه يفترض أن المتعاقد قد وافقت عليه (لجنة البت في المناقصات) التي من واجبها اختيار الأقل سعرا والأفضل شروطا، وفقا لما تضمنته كراسة الشروط !!
فهل معنى هذا أن كل دور مسرحى أو تليفزيونى في عمل تنتجه الدولة ستطرح له كراسة شروط، وعلي ممثلي مصر التقدم بعطاءاتهم لتختار اللجنة الأقل سعرا والأفضل شروطا؟
لست هنا أسخر أو أدعى فالعقد ينص حرفيا على إلتزام الطرف الثانى (الفنان) بتنفيذ العقد وفقا للممارسات الجيدة وأفضل المعايير المتفق عليها، وطبقا للمواصفات التي تنص عليها كراسة الشروط.
و بالطبع – وفقا لهذا العقد – علينا استبعاد (حسين فهمى ويحيى الفخرانى وسميحة أيوب) وأمثالهم من النجوم من أعمالنا المسرحية في مسرح الدولة، فهم لن يكونوا الأقل سعرا ولا الأفضل شروطا.. و لن أعلق .
أما الأعجب و الأغرب أن العقد الذي يمثل (الأزمة) ينص في بنده السابع على أن الطرف الثانى (الفنان سواء كان ممثلا أو مخرجا أو مغنيا أو عازفا أو مؤلفا.. إلخ) يسدد نسبة 5 % من اجمالى ما سيتقاضاه كتأمين نهائي ويظل هذا التأمين ساريا طوال مدة العقد.
ولن يتقاضى الفنان جنيها واحدا ما لم يسدد التأمين فهو شرط لصرف مستحقاته، ولن أعلق..
ويحدد العقد برنامجا زمنيا للتنفيذ، فإذا كنت ملحنا مثلا فأنت مطالب بتقديم الألحان طبقا للجدول الزمنى المنصوص عليه في العقد بناء على خطة العمل المقررة في هذا الشأن!!
ليس هذا فقط بل يضمن الطرف الثانى (الفنان) بقاء جميع الأعمال سليمة خلال مدة الضمان فإذا ظهر بها أي خلل أو عيب أن يقوم بإصلاح الأعمال أو استبدالها على نفقته كما ينص البند الثالث عشر.
ويقر الطرف الثانى أنه يقبل تفويض الطرف الأول لمن يراه مناسبا لأعمال التفتيش دون إخطار الطرف الثانى بموعد التفتيش، ولا تعليق.
والحقيقة أن واضع العقد كان منصفا في أنه لم يضع كل المسئوليات على الطرف الثانى بل تعهد بتسديد ما يستحقه الطرف الثانى في مواعيد محددة، وإذا تأخر عن ذلك يلتزم بسداد غرامة تأخير (وفقا لسعر الإئتمان والخصم المعلن من البنك المركزى).
العقد وحقوق الملكية الفكرية
وتلك هي الحسنة الوحيدة في العقد، فدائما وأبدا ما تتأخر المستحقات في دولاب الحكومة و بين مكاتبها الكثيرة، فهل ستسدد الغرامات أم أننا سنلجأ إلى المحاكم؟
أما آخر ما اكتفى به من عجائب هذا العقد فهو البند السادس عشر الذى ينص على حق الطرف الثانى في الحصول على نسبة لا تزيد عن 15 % إذا عدّل الطرف الأول كميات أو حجم التعاقد.
وهذا يعنى أن إضافة مشهد للممثل في عمل ما، لم يأت ذكره في كراسة الشروط فمن حقه تقاضى أجر إضافى بشرط وجود الإعتماد المالى اللازم حسب العقد!!، ولن أعلق.
إقرأ أيضا : فاتورة للإبداع .. بيروقراطية سخيفة !
أما ما ينسف هذا العقد تماما ويشكك في دستوريته أنه يخالف قانون حقوق الملكية الفكرية، فالبند السابع عشر ينص على أن جميع ما ينتج عنه يصبح ملكا خالصا للطرف الأول بما في ذلك كافة الحقوق بأنواعها المختلفة دون تحديد المدة.
وهو ما يخالف القانون الذى يقول: إن إنتاج المبدع هو ملك له ولا يجوز التنازل عنه بالبيع وإنما يتقاضى حق استغلال لمصنفه لمدة محددة.
لم تتوقف الحكومة عند (العقد) الذي يمثل (الأزمة) فقط، فإذا نجوت من العقد فسوف تصدم بقواعد حظر الصرف التي تضمنت نفقات الدعاية، وهو نفس الخطأ الذى تقع فيه الحكومة في كل مرة تضع فيها قواعدا لترشيد الإنفاق.
فليس كل العمل في كل الوزارات متشابة، فالعمل في وزارة الثقافة يحتاج إلى الدعاية فأى عمل فنى بلا دعاية كالآذان فى مالطة أو كالبحث عن ابره فى كوم من القش، فلا فن بلا دعاية تخبر الجمهور وتحثه على المشاهدة و الاستمتاع والتعلم، و إلا صارت أعمالنا مجرد إهدار للمال العام .
والأجدى من العمل بلا دعاية أن يتم غلق المسارح إلى حين اقتناع الحكومة بأن الفنون حائط صد ضد الأفكار الظلامية والمتطرفة والفن المبتذل، وأن القوى الناعمة لها دور كبير وهام ومؤثر في المعركة القائمة.
إن إصرار وزارة المالية على تطبيق هذه العقد وتلك التعليمات على جهات الإنتاج الحكومية يجعلنا نتساءل: هل هي في وادٍ وما تسعى اليه القيادة السياسية من زيادة الوعى في وادٍ آخر؟
هل تدرك الحكومة خطورة توقف نشاط وزارة الثقافة بسبب تلك العراقيل؟، وكم تكلفنا الحرب على الإرهاب إذا توقف بناء الإنسان؟، وما هو الثمن الذى سندفعه إذا حطمنا قوانا الناعمة؟
وأترك التعليق لكل من يخشى على فنون مصر وفنانيها والأنشطة الفنية التابعة للدولة من مسرح وسينما وتليفزيون وثقافة جماهيرية في بر مصر المحروسة.