بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
ظلت (الست بديعة)، تتزعم المسرح الاستعراضي حدود الـ 30 عاما.. حينما كانت الكازينوهات والملاهى بديلا عن التليفزيون والسينما.
فلا غناء ولا دراما إلا في الملاهى و الكازينوهات، حتى الإذاعة لم تدخل مصر سوى عام 1925 بإذاعات محدودة البث مثل (راديو إذاعة القاهرة وراديو فؤاد وراديو الأميرة فوزية و راديو أبو الهول).
تأسس كازينو (الست بديعة) عام 1929، وكان بمثابة أكاديمية الفنون التي تخرج منها كبار نجوم المسرح و السينما المصرية فيما بعد (فريد الأطرش، محمد فوزى، بشارة واكيم، سامية جمال، عبد الفتاح القصرى، شرفنطح، تحية كاريوكا، زينات صدقى، إسماعيل ياسين، محمد الكحلاوى، محمد عبد المطلب) و غيرهم.
ولدت (بديعة مصابنى) في دمشق، تعرضت في طفولتها للاغتصاب من رجل هو صديق لأخيها الأكبر، تقرر والدتها التشهير بالمغتصب فتسوقه الى المحكمة التي لم تحكم عليه إلا بعقوبة خفيفة لتنال (الست بديعة) من آلام الفضيحة أكثر مما نال الجانى من ألم العقاب.
حتى أنها أصبحت عارا في بلدتها لتسوقها أمها في سفر إلى بيروت تحت ضرب و إهانات أمام المسافرين في الطرق سيرا على الأقدام، و على متن الباخرة تشق (الست بديعة) عباب الموج بحمولتها الثقيلة من أحزان الطفلة بديعة.
في لبنان بدأت (الست بديعة) في الغناء في الأفراح.
ومنها إلى الكازينوهات ليستمع إليها (نجيب الريحانى) في إحدى سفرياته هناك فيعجب بصوتها من ناحية، وبها كامرأة من جهة أخرى ليدعوها إلى زيارة مصر مع وعد بأن يفتح لها طريق عملها بالفن هناك.
تبدأ (الست بديعة) بمنولوجات واسكتشات خفيفة ومنها:
يا نواعم يا تفاح.. يا حاجة حلوة كويسة
و اللى بتبيعك أمورة.. و بيضا و100 ميسا
أنا أبيع للأفندية..
اللى بيتمحكوا فيا..
واحد يروح يجينى مية..
الريحانى.. و(الست بديعة)
أشركها الريحانى (الست بديعة) معه في بعض أعماله ليتزوجها بعد ذلك في الكنيسة عام 1934 وتنطلق معه في شراكة فنية ناجحة، انتهى هذا الزواج بعد سنوات طويلة بالطلاق نتيجة الغيرة الفائقة والمستمرة (للريحانى)عليها.
لم تكن (الست بديعة) بصاحبة الفكر الذى يؤدى الى ما انتهت إليه صالاتها من عروض وفنانين، ولم يكن للمسرح المصرى حينها مكانته، لكنها صادفت كاتبا هائل القدرات كما وإبداعا لتصبح هى ومن حولها، تجسيدا وإطارا فنيا من تمثيل وغناء و استعراضات لهذا الفكر، فكر (أبو السعود الابياري).
وقع اختيار (الست بديعة) على جزء من الكوبرى الإنجليزي بالجيزة – حاليا فندق شيراتون القاهرة – ليصبح هذا المكان هو كازينو بديعة.
وإلى جانب عروض الرقص المستمرة كان لابد من تجديد البروجرامات لعدم الملل.
تبدأ (الست بديعة) في إدخال ما يشبه المشاهد المسرحية القصيرة لتكون مجالا لإلقاء مجموعة من النكات.
وقد كان كاتبها الأول في هذه الفترة (بديع خيرى) ليضمنها مواقفا وكلمات لشخصيات ذات ألقاب فكهة مثل (شعليلة – نجفة – زلط – حلاوة).
ينضم إليها فيما بعد كتابا آخرين مثل (أمين صدقى وحسين رشدى) و غيرهما، لكن التميز الفعلى لمسرح (الست بديعة) بل و للمسرح المصرى بشكل عام بدأ بعد انضمام ماكينة الابداع الجبارة (أبو السعود الإبيارى بغزارة انتاجه وتنوعه.
أبو السعود الإبياري.. و(الست بديعة)
في عام 1932 كتب (أبو السعود الإبياري) لمسرح (الست بديعة) مسرحيات تلخص عناوينها موضوعاتها و جوها الفكاهى مثل مسرحيات: (حمد الله ع السلامة، ايه الحكايه؟، بتنجان الفن، حرامى بالأجرة)، إلى جانب استعراضات مثل (البلاج المودر، الزفة، متحف الشمع).
عام 1936 قدم (أبو السعود الإبيارى) لفرقتها العديد من الاسكتشات منها (الدنيا بتلف، تمثيل بديعة مصابنى، والمونولجست الأشهر)، أشرنا اليه في المقال السابق – سيد سليمان).
وأيضا اسكتش (دنيا تجنن ) لـ (الست بديعة) وعبد الفتاح القصري إلى جانب اسكتشات (الجوز الأمريكاني، وآخر زمن).
كانت كتابات (أبو السعود الإبياري) نقلة هائلة سواء على مستوى الموضوعات أو صنع حبكات كوميدية مع إنتاج كوميديا تعتمد على قواعد تتوازى مع القواعد التي لخصها (بيرجسون) وغيره عن علم الفكاهة وهندستها.
ولو تناولنا مسرحية (آخر زمن) كمثال فسنتابع حتحوت بك – يظهر هنا في الأسماء تأثير (بديع خيري) وهو الأستاذ الأول للإبياري).
و(حتحوت بك) يتحدث مع زوجته عن المخترعات الحديثة في أوربا مثل التليفزيون الذى يديره أمامها ليعرض برنامج كازينو (الست بديعة) الذى يعرض بدوره مسرحية (أوتيل أكلان هاوس).
حيث تتوالى في الأوتيل مواقف كوميدية مهد لها (أبو السعود الإبياري) بشخصية (الخادم الغبى) الذى غير كل الأرقام الموجود على حجرات الفندق لتتوالى المواقف والمفارقات للنزلاء اللذين يدخلون ويخرجون من غرف غير غرفهم.
ولو تناولنا كنموذج آخر مسرحية (بيجامة البيه) نتابع الزوج العصبى (زنهار بك)، العائد من سفر طويل.
وفي الوقت الذى تستعد فيه الزوجة لترتيب البيت و استقباله تعتذر الخادمة لأنها تحتاج إجازة وتنيب عنها في هذه الفترة زوجها (حنطور) – نتابع هنا التمهيد للكوميديا القادمة.
وتفكر الزوجة في أن تفصل لزوجها بيجامة عند الخياطة – تمهيد ثان – وقبل وصول الزوج تذهب مع الخادم (حنطور) إلى الخياطة لإحضار البيجامة – تمهيد ثالث.
وعند وصول الزوج يكون البيت خاليا – تمهيد آخر – حيث يلاحظ في غرفة النوم حركة غريبة، وعند دخوله الغرفة يلمح ظهر رجل يقفز من النافذة الى الشارع.
تساور (زنهار بك) الشكوك في زوجته – اسم (زنهار) تلخيص لدوافع الشخصية – بعد فترة و أثناء اختباء (زنهار) لمتابعة ما يحدث في بيته يصل الخادم حنطور فيما يوحى بكونه عاشق ثان لزوجته.
وأثناء اختبائه يعثر (زنهار) على خطاب غرامى من امرأة إلى رجل لتتضاعف شكوكه، وحين وصول زوجته وظهوره لها تقدم له البيجامة فيلبسها ليجدها قصيرة جدا.
فتتأكد لديه الشكوك بوجود عشيق ثالث لكن الحبكة و عقدها تبدا في التفكك حينما نكتشف أن من قفز من الغرفة كان لصا سرق بعض المقتنيات، وأن الخطاب الغرامى كان من الخادمة لزوجها حنطور تعبيرا عن تقديرا لموقفه بالعمل نيابة عنها، وأن البيجامة جاءت قصيرة نتيجة خطأ الخياطة كونها لزبون آخر.