تعرف على اللحن الذي حير (سيد درويش) وولد من فم أحد السقايين!
كتب : أحمد السماحي
كان الشيخ (سيد درويش) يحب بلده وأهل بلده وأولاد بلده، ويسعى دائما إلى إسعادهم وإلى ترضيتهم بألحانه التى عبر بها عن مشاعرهم، وعن رغباتهم وآمالهم، فأحبوها وغنوها، ووجدت هذه الألحان طريقها إلى قلوبهم فحفظوها.
وظلت هذه الأغاني تفرض نفسها بين الحين والحين، وعبرت السنين الطوال حتى عادت إلى أسماعنا ليتذوقها أجيال جديدة لم تعاصر (سيد درويش).
من الأغنيات التى لها قصة طريفة للغاية أغنية (السقايين) التى قدمت في مسرحية (ولو) تأليف بديع خيري، وبطولة نجيب الريحاني، الذي كتب قصة تعارفه بالشيخ (سيد درويش)، كما كتب أيضا قصة هذه الأغنية في مذكراته.
تعارف الريحاني بسيد درويش
تعالوا بنا نعود إلى الماضي النقي، ونعرف الحكاية يقول الريحاني عن قصة تعارفه بالشيخ (سيد درويش): كان الفضل في معرفتي بالشيخ (سيد درويش) لصديق إيطالي اسمه (أمبرتوبياتشي)، وهو من أكبر هواة الموسيقى في مصر والعالم.
وكان مع الأسف الشديد له رأي في الملحنيين الشرقيين لا يسر أحد!، فكنت باعتباري مصريا صميما أعارضه في فكرته، وأتهم ذوقه بأنه متشبع بالروح الأفرنجية.
إقرأ أيضا : سر رفض (سيد درويش) الذهاب إلى صوته المفضل (سلامة حجازي)!
في ليلة من ليالي سنة 1918 قابلت صديقي (أمبرتو) يسير في الطريق، وهو في ذهول شديد فسألته عن سر ذهوله فقال لي: اسمع يا نجيب بكلمك دلوقتي وأنا فايق، إنما حاسس كأني طول الليل بأشرب خمرة غريبة!.
فقلت له: إزاي بقي؟ فرد : (مافيش إزاي أنت بكره لازم تروح تياترو جورج أبيض، وتقضي سهرة هناك، وتسمع بودنك ألحان رواية (فيروز شاه) وحيكون ذهولك هو نفس ذهولي دلوقتي.
وأضاف أمبرتو: وأشهد مقدما أني تنازلت عن فكرتي القديمة، وأعترف مقدما بأن الشرق فيه ملحن ما يقلش عن اللي في أوروبا.
الريحاني يشاهد (فيروز شاه)
يستكمل الريحاني ذكرياته فيقول: أدهشني جدا هذا الأعتراف من إيطالي متعصب لرأيه أشد التعصب، وفي الليلة التالية شاهدت رواية (فيروز شاه) فأحسست وأنا أسمع ألحانها أنني في عالم من السحر والخيال والشعر والأحلام.
وما انتهت الرواية حتى كنت في نفس الذهول الذي كان فيه صديقي (أمبرتو) أمس، وصممت على ألا أذهب إلى منزلي حتى أقابل الملحن العظيم (سيد درويش)، وأتعرف عليه، وحدث بيننا تجاوب سريع وكانت هذه أول ليلة قضيتها مع (سيد درويش) هي أسعد ليالي حياتي.
أغنية السقايين لـ (سيد درويش)
يتذكر الريحاني أيضا في مذكراته قصة أغنية (السقايين) فيقول: بعد تعارفي بالشيخ (سيد درويش)، قررت أن يكون ملحن كل أعمالي الجديدة!
وفي أحد الأيام أعددنا رواية أطلقنا عليها إسم (ولو) تأليف بديع خيري، وكان أول زجل فيها عبارة عن شكوى يتقدم بها جماعة (السقايين) يشرحون للجمهورآلامهم ومتاعبهم ومطلع هذا الزجل يقول :
يهون الله، يعوض الله، ع السقايين
دول شقيانين متعفرتين م الكوبانية
خواجاتها جونا، حايطفشونا
ليه بيرازونا دي صنعة أبونا
ماتعبرونا ياخلايق
إقرأ أيضا : علي الحجار يتألق في مئوية (سيد درويش) بنقابة الصحافيين
سلمنا الزجل للشيخ (سيد درويش)، وقد كانت ميزته رحمه الله أنه يضع لكل كلام ما يوافقه من موسيقى، وأقصد بهذه الموافقة التعبير الصادق للمعنى العام، بل ولكل لفظ من ألفاظ الكلام، حتى كان المرء يدرك من أول وهلة ما يرمي إليه هذا الكلام عند سماع الأنغام.
تسلم الشيخ (سيد درويش) كلمات زجل (السقايين) ولكنه لم يعد إلينا في الموعد المضروب، بل ولا في اليوم التالي، حتى إذا كان اليوم الثالث أرسلت له أحد الأصدقاء المشترك بيننا، فسهر معه الليل بطولة.
وسأل صديقنا في نهاية الليل: عملت إيه يا شيخ سيد في لحن السقايين؟! فقال له: أن قريحته منذ تسلم الكلام وهى متحجرة، وأنه قضى الأيام الثلاثة الماضية يقدح زناد الفكر عله يصل إلى النغم الموافق للكلمات دون جدوى!
ظهر السقا فولد اللحن
فيما هما يتحدثان، كانت أضواء النهار في تلك اللحظة تطارد جيوش الظلام، صادفهما أحد (السقايين) وكان يحمل قربة الماء على ظهره ويجوب الحواري، وكان يسير إذ ذاك في حي المنشية بالقلعة.
وسمعاه ينادي بأعلى صوته، وبنغمته التقليدية الخاصة قائلا (يعوض الله) فتنبه الشيخ (سيد درويش) لهذا النداء، وأمسك بذراع صديقه، وهتف كما هتف (أرشميدس) الفيلسوف اليوناني من قبل حين وفق إلى نظرية الثقل النوعي في أثناء استحمامه، فخرج عاريا يجري في الشوارع ويصيح (أوريكا أوريكا) أي وجدتها، وجدتها.
هكذا فعل الشيخ (سيد درويش) حين سمع نداء السقا، فقال لصديقه: خلاص يا صديقي، بلغ نجيب الريحاني اللحن سيكون عنده اليوم).
وبالفعل سلم (سيد درويش) في المساء لحن (السقايين) الذي كان يردده الجمهور فور خروجه من مسرحية (ولو) وحقق ومازال نجاحا كبيرا.