بقلم: المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
منذ أيام قليلة تم عقد المؤتمر الصحفى للإعلان عن وقائع الدورة الثلاثين لمهرجان القاهرة الدولى لـ المسرح التجريبى، والذى ستبدأ وقائعه في الأول من سبتمبر برئاسة المؤلف والمنظر المسرحى الكبير الأستاذ الدكتور سامح مهران رئيس أكاديمية الفنون السابق، وتعاونه لجنة عليا للمهرجان مشكلة من قامات مسرحية كبيرة كالدكتور أيمن الشيوى عميد المعهد العالى للفنون المسرحية والدكتورة دينا أمين الأستاذة بالجامعة الامريكية مديرين للمهرجان، والدكتور محمد الشافعى منسقا عاما.
وتضم لجنة مهرجان المسرح التجريبي: الدكتور أحمد مجاهد رئيس قسم النقد المسرحى بجامعة عين شمس والدكتورة أسماء يحيي الطاهر والدكتور سمير الخطيب والمخرج المتميز أحمد البوهى، وقد أُعلن في هذا المؤتمر عن لجنة تحكيم هذه الدورة من مهرجان المسرح التجريبي، التي شرفتنى اللجنة العليا باختيارى لرئاستها، مما أثار في عقلى ذكريات كثيرة و أثار في قلبى شجونا متعددة صاحبتنى طوال رحلتى مع هذا المهرجان منذ قدمت في دورته الأولى عرض (حكايات صوفية) إنتاج المسرح القومى، ضمن 31 عرضا مصريا شارك في المهرجان الذى كان بلا تسابق ومعهم 8 عروض عربية و13 عرضا أجنبيا إلى أن شرفنى أستاذى الدكتور فوزى فهمى رئيس المهرجان، باختيارى العضو المصرى بلجنة تحكيمه في 2007 والتي كانت تضم 10 قامات مسرحية من جنسيات متعددة عربية و أجنبية.
إقرأ أيضا : افتتاح مبهر للدورة الـ 29 من مهرجان المسرح التجريبي يؤكد عظمة وجمال مصر
وكان هذا الاختيار تكريم في حد ذاته، فقد جرى العرف – في ذلك الوقت – على اختيار شخصية مصرية واحدة كل عام لعضوية لجنة مهرجان المسرح التجريبي، ليس بالضرورة من المسرحيين و إنما من كبار الفنانين أو المثقفين ، ففي أحد الدورات وقع الاختيار على شاعرنا الكبير أحمد عبد المعطى حجازى وفي دورة أخرى كان الفنان التشكيلى الكبير أحمد فؤاد سليم.
عودة المهرجان التجريبى 2014
عندما عاد المهرجان التجريبى في 2014 بعد توقف لمدة ست سنوات تحت رئاسة الدكتور سامح مهران اختارني عضوا باللجنة العليا، و بعدها أصبحت المنسق العام للمهرجان لثلاث دورات انتهت في 2019، و في عصر رئاسة الدكتور جمال ياقوت للمهرجان شَرُفت بتكريمى في 2021 ، ثم تم اختيارى رئيسا للجنة مشاهدة العروض الأجنبية في 2022، كل تلك الرحلة مرت في خاطرى و أنا أستقبل خبر رئاستى للجنة تحكيم المهرجان.
والحقيقة أن لا أحد من جيلى أو الأجيال التالية يستطيع أن ينكر أثر هذا المهرجان عليه سواء اعترف بهذا أو أنكر أو قال أن الأثر كان سلبيا، فلقد ألقى المهرجان التجريبى بحجر في بحيرة الحركة المسرحية المصرية والعربية، بنقله لنا أحدث التجارب المسرحية العربية و العالمية.
ولكى ندرك أن المهرجان التجريبي كان علامة فارقة في تاريخ المسرح المصرى علينا أن نرجع الى الظروف التي صاحبت إنشائه في عام 1988 الذى أقيمت فيه الدورة الأولى بمبادرة من المثقف الكبير محمد سلماوى والمخرج القدير فهمى الخولى وأستاذ النقد الدكتور حمدى الجابرى تقدموا بها لوزير الثقافة الفنان فاروق حسنى الذى وافق عليها وتحمس لها.
إقرأ أيضا : مهرجان المسرح التجريبي يكرم الكبار في دورته الـ 27
كانت مصر في منتصف السبعينات قد خرجت منهكة بعد سنوات طوال انتظرت أن تزيل فيها آثار العدوان، و لم تكن تلك الآثار سياسية واجتماعية واقتصادية فقط، بل انعكست أيضا على الفنون، فجرى تقليص عدد الفرق المسرحية الحكومية، وتوقفت البعثات الفنية للخارج أو انحسرت في أضيق الحدود، بالإضافة إلى هجرة جيل كامل من كبار المسرحيين إلى خارج مصر نتيجة للتضييق الأمني والرقابى الذى صاحب انقلاب النظام على الأفكار الاشتراكية.
وبرغم الانفتاح الاقتصادى (المزعوم) ضاقت مساحة الإنتاج المسرحى الحكومى لتخلو الساحة للمسرح التجارى والترفيهى، فعلى سبيل المثال كان موسم 74 / 75 المسرحى يضم عروضا قليلة لأربع فرق للقطاع العام تتعثر في إنتاجها، في مقابل 16 فرقة للقطاع الخاص تمتلئ بالنجوم وبكافة المشهيات التي تغازل السائح العربى ولا تلتفت للمتفرج المصرى الذى لا يقدر على ثمن تذكرتها، ولا ننكر بالطبع جهود قلة من المسرحيين حاولت المواءمة ولكن التيار كان أعتى منها.
وجاء عقد الثمانينات ومصر تعانى من مقاطعة عربية امتدت لعشر سنوات بسبب اتفاقية كامب ديفيد)، فتنغلق على نفسها ولا تعرف عن أشقائها وجيرانها إلا القليل، ولكن بداية من 1986 حاولت مصر بقيادة مبارك أن ترمم ما انكسر في عصر السادات، وأن تخرج من تلك العزلة التي فرضتها الأحداث الخارجية والداخلية التي تمثلت في إرهاب لم تُقطع أذرعه تماما، لذا كان واقع مصر الثقافي – والسياسى بالطبع – في تلك السنوات يحتاج الى حراك قوى، و أتي المهرجان التجريبى – الذى لا مثيل له على الساحة العربية – في 1988 ليعيد مصر إلى المشهد الثقافي العربى.
فوزى فهمي والمهرجان التجريبي
وبفضل جهود ضخمة من الأستاذ الدكتور فوزى فهمى الذى تولى رئاسة المهرجان من الدورة الثانية بزغ المهرجان الوليد ليصبح من أهم الفاعليات العربية ليقف على قدم المساواة مع مهرجانات عربية أقدم منه، واستطاع الدكتور فوزى أن يصنع من المهرجان صرحا عملاقا يتمنى الجميع المشاركة فيه و لو بالمشاهدة، ولم يقف الأمر عند العروض فقط، بل خلق المهرجان حراكا تنظيريا مدهشا بندواته الفكرية التي عقدها – و التي أتمنى أن يتاح طباعتها و تداولها ذات يوم – وأيضا بمطبوعاته التي استكملت نقصا ضخما في المعارف المسرحية في جميع المجالات، حتى صارت إصدارات المهرجان التجريبى مرجعا لدراسات كثيرة سواء كانت أكاديمية أو صحفية على امتداد الوطن العربى.
واستمر المهرجان التجريبي في تصاعد بسرعة شديدة حتى أصبح قبلة لكل المسرحيين، وذاعت شهرته عالميا ليصبح أحد المهرجانات الهامة على خريطة المهرجانات المسرحية الدولية، واهتمت الفرق المسرحية العالمية بالمشاركة حتى وصل عدد العروض الأجنبية في دورته الثانية والعشرين التي عقدت عام 2010 إلى 35 عرضا أجنبيا، كما شارك 13 عرضا عربيا، و23 عرضا مصريا، كما أصدر المهرجان في تلك الدورة 24 كتابا في فنون المسرح المختلفة ليصبح مجموع ما أصدره 327 كتابا كانت الغالبية فيها للكتب المترجمة عن أحدث ما صدر في فنون المسرح.
البعض هاجم المهرجان التجريبي
وبرغم نجاح المهرجان التجريبي، كان البعض يهاجمه لأسباب مختلفة، فالبعض هاجمه من منظور أخلاقى منغلق تحت دعوى أن عروضه لاتتوافق مع المجتمع العربى وتتعارض مع عاداتنا وتقاليدنا!، والبعض هاجمه من منظور فنى لأن المهرجان انتصر للعروض الحركية مُزلزلاً المقولة الشائعة أن (المسرح كلمة) فإذا بالمسرح يمكن أن يكون صورة دون حوار منطوق وهذا لم يقبله البعض، وفي الدورات الأخيرة قال البعض أن الكم انتصر على الكيف فرأينا عروضا مدرسية وأخرى متحفية تشارك في المهرجان دون اعتبار لطبيعته وفلسفته، وكان السر في طريقة اختيار العروض.
فلقد كانت إدارة المهرجان ترسل إلى الدول التي ترتبط مع مصر باتفاقيات تبادل ثقافى لترشح كل دولة عرضين منها، وتتحمل تلك الدول تذاكر سفر وشحن ديكورات وبدلات الأفراد المشاركين في تلك العروض، وتتحمل مصر الإقامة و توفير المسارح والمتطلبات التقنية فقط، لذا كانت إدارة المهرجان لا تملك أن ترفض اختيارات الدول، ولكنها كانت تحدد ما هو صالح لدخول المسابقة وما هو يندرج تحت بند عروض على الهامش من خلال لجنة مشاهدة دولية.
ولكن العامل الأكبر في خفوت وهج المهرجان التجريبى – من وجهة نظرى – هو أن دهشة البدايات قد تقلصت وأن الصدمة الحضارية التي أصابت البعض من مشاهدة عروض تختلف عما ألفناه قد زالت، و لم يعد التجريب تجريبا (إذا كان التجريب هو البحث عن الجديد والمختلف)، يضاف إلى هذا أن بعد عدة دورات قليلة حاول البعض تقليد ما شاهدوه في المهرجان من عروض حركية ومشاهد غرائبية دون إمكانات بشرية أو تقنية لإتقانها، فظهرت بعض عروض هى مسوخ مشوهة من عروض أجنبية في حين أن فلسفة المهرجان هى الانفتاح على التجارب العالمية الجديدة وليس تقليدها أو اعتبارها النوع الأفضل للمسرح، ولكن البعض صرخ أن مسرحنا المصرى ينهار، وأن المهرجان التجريبى قد صار (المهرجان التخريبى)!
و للحديث بقية…