بقلم : د. مدحت الكاشف*
كانت العروض المسرحية منذ بداياتها قبل أربعة آلاف عام تقام على هيئة مسابقات تنافسية، تستمر لعدة أيام وفقا للمناسبة الدينية التي يقام من أجلها الاحتفال، وكان ذهاب مواطني أثينا إلى المسرح بمثابة واجب ديني واجتماعي، فضلا عن جانب المتعة والتسلية والخروج بقيم اجتماعية أو ربما تمس عقيدته وعلاقته بالآلهة، فيغير من نفسه حتى لا يكون مصيره كمصير البطل الذي خرج عن تعاليم الآلهة فناله العقاب والمصير المحتوم الذي يصل إلى حد الفناء، وكان الجمهور يعبر عن إعجابه بالعرض بالصياح والتهليل، أو بالاستهجان في حالة عدم إعجابه بالعرض، وغالبا ما يكون استهجانه بالدب على أرض المدرجات الحجرية التي يجلس عليها أثناء مشاهدة العرض.
ومن جانب آخر كانت هناك لجنة لتحكيم عروض المسرح والنصوص المقدمة والخروج بنتائج يتم إعلانها غالبا لأفضل نص أو لأفضل عرض، وكثيرا ما كانت النتائج غير مرضية لهوى المتفرجين، فيعلن عن غضبه واستهجانه، وهو نوع من الديمقراطية التي كانت تغلف المجتمع اليوناني القديم في حياته وفي ممارساته اليومية وبالطبع في أنشطته الإبداعية، ويعني ذلك أن فكرة التسابق ظهرت مع ظهور المسرح وانتشاره في العصر الإغريقي، ومع تطور المسارح في شتى أنحاء المعمورة تطورت طرق وأساليب التحكيم للعروض المسرحية، وفي جميع الحالات قديما وحديثا نجد إن المكسب الحقيقي ليس في نتائج الفعاليات المسرحية عبر العصور بقدر ما كان الحراك المسرحي الذي يعتمل في المجتمع ويؤثر فيه هو الأهم والأجدى والأنفع.
إقرأ أيضا : د. مدحت الكاشف يكتب : الفنون والقيم الاجتماعية
ولا شك أن مهمة تحكيم مجموعة من عروض المسرح للخروج بنتائج موضوعية هى مهمة شاقة ومسئولية عظيمة، ومن خلال تجاربي في المشاركة في لجان التحكيم أو ترأسها أحيانا كنت وزملائي نتحسس أقلامنا قبل التوقيع على ما أفرزته قناعاتنا المشتركة في أفضلية عرض أو عنصر من عناصره على مثيله في بقية العروض، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هناك معايير ثابتة، ولو اجتمعت لجنة ما لوضع معايير لمهرجان ما فهي معايير اتفقت عليها هذه اللجنة فقط، ولو تغيرت اللجنة لنفس المهرجان لأصبحت هناك معايير أخرى وتلك إشكالية.
شروط محددة لمهرجان المسرح
وفي الطبيعي يكون الأمر هينا سلسا عندما تكون لمهرجان المسرح شروط محددة ومواصفات معينة يتسابق عليها الجميع، ومن يخرج عن الشروط الموضوعة مهما كان مستواه تجد اللجنة لزاما عليها منح الجائزة لآخر قد انطبقت عليه الشروط، وتزداد الاشكالية عندما يكون التسابق لعروض مختلفة النوعية يصعب معها تقييم أو تقويم عناصرها ، فالهواة غير المحترفين، ومسارح الدولة التي رصدت لها الميزانيات في مواجهة عروض المستقلين والهواة الذين يدفعون من جيوبهم الخاصة لإتمام العرض في أضيق الحدود، ويصبح الهاوي في مواجهة المحترف، وأحيانا ترى لجنة ما منح جائزة أفضل ممثل لأحد الشباب الواعدين تشجيعا له، وتحرم ممثل كبير من نفس الجائزة ، بينما ترى لجنة أخرى العكس أن تعطي الممثل الكبير الجائزة ترسيخا وتأكيدا على إبداعه ومشواره، بحجة أن الشاب أمامه فرص عديدة قادمة!!!.
وعليه فليست هناك معايير ثابتة أو سابقة التجهيز حتى لعروض المسرح المتشابهة، وغالبا تضع اللجنة معاييرها بعد مشاهدة كل العروض، ليصبح لكل مهرجان معاييره، النابعة من طبيعته ومستوى العروض المقدمة فيه، كأن تقوم لجنة ما بتحكيم عروض لمهرجان يتسم بالتجريب المسرحي في عناصره، وقد تكون اللجنة لها مفاهيمها الخاصة حول التجريب، أو قد يكون أحد عروض هذا المهرجان خالي من التجريب رغم ارتفاع مستواه الإبداعي، وهكذا على سبيل المثال.
وتزداد حدة المشكلة عندما يكون مهرجان المسرح قد وضع شروطا شكلية تتعلق بالزمن سواء زمن العرض أو توقيت عرضه، مثلا كأن يشترط دخول التسابق للعروض التي عرضت خلال العام الماضي بدءا من شهر كذا إلى شهر كذا، وهى شروط تنطبق على عروض كثيرة مختلفة النوعية والمستوى، وقد تكون إحدى شروط المشاركة أن يكون العرض قد حصل على مركز متقدم في مهرجانات سابقة كعروض الجامعة مثلا ، أو أن يتم تشكيل لجان لكل نوعية من العروض تختار عددا للمشاركة وتستبعد عددا آخر، أو أن تكون لبعض الجهات كوته تختار فيما بينها.
ويختلط الهاوي مع المحترف، والتجريبي مع الكلاسيكي، واللغة العربية مع العامية، قصور الثقافة مع نوادي المسرح، مسارح الدولة مع المستقلين، عروض الجامعة مع الأكاديميين أو المتخصصين، وفي جميع الحالات الجميع غير راض عن لجان المشاهدة التي اختارت العروض التي يحق لها المشاركة ، لتبدأ اعتراضات أخرى على لجنة التحكيم الرئيسة التي ستتولى تحديد الجوائز وسط هذا الركام المتنوع من العروض المسرحية، وربما يتم الاعتراض قبل وأثناء المهرجان وتتوج تلك الاعتراضات وصب اللعنات على اللجنة بعد إعلان النتائج سواء من قبل المشاركين أو المناؤين لهم أو المسئولين، وربما يصل الأمر إلى الادعاء بتصفية الحسابات قديمة بين أعضاء اللجنة وبعض المخرجين أو المسئولين.
المقاعد الحجرية في المسرح الإغريقي
وتبقى هناك قلة قليلة من السعداء وأصحاب الحظ من الفائزين الذين يرفعون شعار (لجنة محترمة وبتفهم) في مواجهة شعارات أخرى تتهم اللجنة بالفساد والجهل وربما بالعمالة والرشوة أو على أفضل تقدير بالمجاملة، وما إلى ذلك من لعنات تفوق الدب على المقاعد الحجرية في المسرح الإغريقي، وتظل الحالة المسرحية لبضعة أشهر تعاني من الغليان والالتهاب حتى يأتي أو يقترب موعد الدورة التالية لذات نفس المهرجان، وكأننا نسينا ما حدث، لنبدأ بتعبئة طاقاتنا من جديد استعدادا لمعركة نتائج الدورة القادمة من المهرجان، وأصبح هم المسرحيين طوال العام صناعة عرض من أجل المشاركة به في المهرجان، ويهتم صناع العرض بدعوة زملائهم وأصدقائهم وتصويرهم بالفيديو وهم يشيدون ويجاملون بالعرض لتصبح تلك الفيديوهات قرينة فيما بعد ضد أعضاء اللجنة ، وهو الأمر الذي يجعل من المأساة مشهدا ساخرا ممجوجا.
أين جمهور المسرح الحقيقي من كل هذا السخف من الصراع البذيء بين المسرحيين بعضهم البعض، الجمهور الحقيقي ربما لا يجد لنفسه مقعدا في صالة المشاهدين المكتظة بالزملاء والأصدقاء والنقاد والصحفيين الالكترونيين منهم والورقيين، لتشتعل وسائل التواصل الاجتماعي بنتائج المهرجان وجوائزه التي ذهبت إلى مبدعين لا يعترف بهم زملائهم المبدعون، وعليه فمن الأفضل البحث عن شكل لاحتفال مسرحي على مدى شهر أو أكثر لعرض حصاد العام المنصرم من العروض المسرحية على مستوى الجمهورية، باختلاف أنواعها ودرجاتها دون تنافس ليس له أى جدوى، نحن نحتاج أن يصل فن المسرح إلى مستحقيه من المتفرجين وليس فقط المسرحيين الذين يرتادون العروض تشجيعا لزملائهم ليس إلا.
وتكون تلك الفعالية بشكل برنامج للعروض وآخر لحركة نقدية تحليلية مصاحبة لعروض المسرح، ليقوم النقاد بدورهم الإبداعي كوسطاء بين صناع العرض ومتلقيهم، تحت تغطية حقيقية لوسائل الإعلام باختلاف أشكالها ليصل الحدث برمته إلى أكبر قاعدة من الجمهور أو المجتمع الذي يشكل الحلقة المفقودة في الصراع الدائر بين المسرحيين بعضهم البعض على الجوائز وعلى صب اللعنات أو كيل الاتهامات أو تقديم باقات الشكر والعرفان.. وفي النهاية يذهب الإبداع المسرحي أدراج الرياح وسط مناخ فاسد ليس فيه متنفس يدخل منه المتفرج الحقيقي لكي يستمتع بفن مسرحي حقيقي.
* عميد المعهد العالي للفنون المرحية