بقلم الكاتب والأديب : محمد عبد الواحد
الخيال هو أفق الأمة، وحدود الخيال هى حدود هذا الأفق، والخيال الفني – بالأخص الخيال الدرامى – هو أهم أسرار الهوة الحضارية بيننا وبين دول العالم الأول، والخيال الفني أمانة: ما يمس تطور الخيال لدى هذه الدول تعد جرائما، بينما ترسخت لدينا هذه الممارسات في حق الخيال حتى أصبحت نظاما راسخا إلى الدرجة التي لم يبق لنا من رصيد الخيال ما يمكن ان نتخيل به لنا مخرجا.
بـ الخيال الفني يتم تربية خيال مهندس يصمم، لتعلو وجوهنا دهشة حينما نمر تحت بناياتهم بتصميماتهم الرشيقة الثرية بالخيال، وبالخيال الدرامى قفزوا إلى مراحل أن امتلكت الآلات ذكاءا اصطناعيا بلغ حد الإرادة المستقلة للآلة، وكان الواقع دائما تابعا مطيعا للخيال الفني في السينما والدراما بكل فروعها، يلتقط ما يتساقط منه من أفكار وتصورات.
إقرأ أيضا : حنان أبو الضياء تكتب: (توم هانكس) الذى أعاد النظام بالخيال (13)
والدراما المصرية بكل فروعها شريك رئيسى في جريمة انتهاك الخيال الجمعى من جهة، وعدم تطويره وفتح الآفاق له من جهة أخرى، وما أعنيه في الخيال الدرامى هنا هو الخيال العلمى والفانتازى.
عندما نقارن بين الخيال في السينما الغربية والخيال لدينا يخرج لنا السؤال رأسه: هل هذه الهوة السحيقة بين خيالنا وخيالهم سببها فقر الخيال في الكتابة والتقنيات الفنية، أم هو المتاح لنا من خيال الفقر.. فقر الإنتاج العام و الخاص؟
إذا تصفحنا تاريخ الخيال في الدراما المصرية فسيدهشنا عدد وقوة الروابط بين ضعف الخيال و ضعفنا.
ما قبل دخول الكهرباء إلى الريف المصرى انتشرت في السينما المصرية أفلام العفاريت، ومازال تفاعلنا معها عند عرضها إلى الان يؤكد على أن أفقنا مازالت بعض جوانبه تحدها حقبة ما قبل دخول الكهرباء.
الخيال ما افتقده الواقع
من الحرمان المنتشر في كل ربوع الريف المصرى في هذا الوقت ومن خليط الفقر و الأمنيات المكبوتة خرجت سلسلة أفلام تحقق لنا فى الخيال ما افتقده الواقع، فنشاهد فيلم عفريتة هانم (فريد الأطرش/ ساميه جمال)، حيث يعثر المطرب (عصفور) على مصباح سحرى تخرج منه عفريتة تحقق كل رغباته بدْءا من إسكانه في قصر هائل (للخروج بالخيال من الأكواخ و البيوت الطينية) وانتهاء بأفخم الملابس (بدلا من الجلباب الرخيص الذى لا يتم تغيره على مدار العام، وكأنه طبقة خارجية من الجلد)، وتقديم أشهى الموائد لعصفور (بدلا من البصل و المش و اللفت المخلل)، فعصفور هنا وبـ الخيال ولمدة ساعة ونصف يأكل بدلا منك ويلبس و يسكن، بل ويحب بتوكيل عام منك هو تذكرة السينما.
لنفس الأسباب انتشرت أنواع العفاريت المختلفة بين ذكر وأنثى فى أفلام هذه الفترة لأداء نفس الوظيفة، فنشاهد عفريتة إسماعيل ياسين و أيضا فيلم عفريت عم عبده (إسماعيل ياسين/ شكرى سرحان)، والفانوس السحرى (إسماعيل ياسين/ عبد السلام النابلسى)، حيث يعيش بدلا منا الشاب مصطفى بينما يحقق لنا من خلاله (عفركوش بن برتكوش) كل ما نغوص فيه من أنواع الحرمان، و بدلا من أن يقوم الشعب بحركة سخط أو تغير فانه يعود بظهره فى مقعد المتفرج مؤثرا السلامة ..منتظرا عفركوش بن برتكوش …
بعد أن تم استهلاك الفانوس والمصباح كمصادر للعفاريت في الخيال السينمائي، تم استبدالهم بخاتم سليمان في فيلم يحمل نفس الاسم (يحيى شاهين / ليلى مراد )، حيث يحقق لنا العفريت في الخيال ما يستحيل للواقع ان يحققه لنا فنعيش بالخيال مع (المعلم بيومي) الذي يعثر على خاتم سليمان ليظهر له المارد الذي سيحقق أمنياته، فيطلب منه المعلم الزواج من ليلى الفتاة التي يحبها.
وحينما استهلكت هذه التيمة تجاريا في الخيال، فكر المنتج المصرى بفهلوته المعهودة في تيمة موازية، فاستبدل عفريت الفانوس والمصباح بتيمة التخفى.
سينما الخيال والتخفى
كانت بداية هذه السلسلة فيلم طاقية الإخفاء (بشارة واكيم/ تحية كاريوكا)، حيث نعيش بالخيال مع المعلم (عباس السمكري) الذى يحلم بالثراء، يعثر (عباس) على طاقية الإخفاء ويستخدمها لسداد ديونه ومتابعة كل من حوله دون أن يراه أحد، لكن الطاقية تقع في أيدي لصوص، فيسيئوا استخدامها.
ليأتي بعده بأشهر أفلام هذه السلسلة فيلم سر طاقية الاخفاء (عبد المنعم إبراهيم/ توفيق الدقن)، حيث يلهو الطفل (فصيح) في معمل والده العطار، فيتسبب في ظهور عفريت، يحترق العفريت مخلفًا بودرة تخفي ما تقع عليه، تتعرض طاقية لهذه البودرة وتصبح لديها القدرة الفورية على إخفاء من يرتديها، ليكتشف (عصفور) قدرات الطاقية، فيقوم باستعمالها، لكن يكتشف عدوه السر، ويبدأ باستخدام الطاقية ضده – لا أدرى لماذا تكرر اسم (عصفور) في هذه السلسلة – وقد قامت الطاقية هنا بدور فتحة التنفيس التي قام بها العفريت من قبل، فالطاقية هنا ستهبك القدرات لتحقيق أحلامك المدفونة في طبقات غضبك، وتجعل من المستحيل ممكنا تراه وتعيشه ولو في الخيال، ويتم أحيانا استبدال طاقية الإخفاء بمشروب أو حبوب لتقوم بدورها في إخفاء الشخص وتهبه هذه القدرات الخارقة التي يحتاجها للخروج من جاذبية الواقع المرير.
إقرأ أيضا : جزيرة غمام .. واقع بين الرمز والخيال
وحينما استهلكت تيمة الإخفاء كان لابد من بديل، حل ما يثرى خيالك وأحاسيسك بأن هناك ثقب ما في الواقع قد يمر منه شعاع الضوء المنتظر، قدرة فوقية خارقة تهب لك في الحال كل أحلامك في الخيال،
كان البديل هذه المرة هو الشيطان نفسه.
سينما الخيال وإبليس
يأتى على رأس سينما الخيال فيلم (سفير جهنم) المأخوذ عن قصة (فاوست) لجوته، و فيه نتوحد مع الأستاذ عبد الخلاق (فؤاد شفيق) الذى تجبره صعوبة الحياة إلى كثرة الشكوى وتضعضع وازعه الدينى ليلتقطه الشيطان (يوسف وهبى)، ويقدم له نفسه بديلا عن العفريت وعن طاقية الإخفاء بقدرته هو أيضا على تغير الواقع المرير وتحقيق أحلام عبد الخلاق و أسرته حتى لو كان الثمن في النهاية هو تحطيمه و تشتيت سرته كلها.
في نفس الخيط من الخيال تتراص حبات السبحة، فيأتى فيلم موعد مع ابليس (زكى رستم/ محمود المليجى)، حيث يعانى طبيب من قلة الإيرادات في عيادته ليظهر له فجاة نبيل (النبيل) وهو الشيطان متنكرا ليساعده في علاج مرضاه بطرق فريدة، ليشتهر الطبيب ويثرى ليطالبه الشيطان في النهاية بأبهظ الأثمان، وعلى الرغم من النهاية القيمية التي تجعل للفيلم ظاهرا أخلاقيا إلا أن الفيلم يكون قد قام بدوره الحقيقى في ترطيب العقل الباطن من جفاف اليأس القاسى في تحقيق الأحلام.
ولم يخرج إبليس من دور الخيال في السينما طويلا إلا ليعود مجسدا في عادل أدهم حيث نتابع في فيلم (المرأة التي غلبت الشيطان) وبشفقة على (شفيقة) الخادمة الدميمة التي يعاملها الجميع بقسوة شديدة، وهى تقع في غرام الصحفي (محمود) الذي لا يشعر بها ويحب إحدى الممثلات، وهنا نتوحد مع شخصية حالت ظروف الواقع – الذي نعيشه جميعا معها – بينها وبين حبها، ولا يوجد في الواقع منطقا يقود إلى أى حل لحل المعادلة، تتفق شفيقة مع (أدهم) حفيد إبليس أن تعطيه روحها؛ لتكون ملكه بعد عشر سنوات مقابل أن يمنحها تحقيق كل ما تحلم به من حب وثراء، ليمثل الفيلم الجرعة الدورية لترطيب العقل الباطن..
سينما الخيال الصرف
وفى حقبة النشاط العارم للإسلام السياسى وتنوع الحركات الدينية وانتشارها كان لابد للطبخة من مذاق مغاير لإرضاء الزبون، فتحول العفريت إلى الجن، اختلف التعامل الودى من عفريت خادم إلى جن معادى، ويصبح الصراع هو طريقة التخلص من الجن بإخراجه والمعالجة بالقرآن وغيرها من ظلال هذا النشاط المنتشر في أرجاء البلاد، من بينها فيلم (الإنس و الجن) عام 1980 (عادل إمام/ يسرا) ليكون محوره هو الجن العاشق المتمثل في (جلال) العائد في نفس الطائرة مع الدكتورة (فاطمة) وهو يتابعها، ويتعرف إليها وينصب حبالها حوله ليكشف لها في النهاية عن عشقه لها ورغبته الزواج منها فتهرب لكنه يلاحقها في كل مكان حتى تصبح على شفا الجنون ليتدخل في النهاية خطيبها (عزت العلايلى) بآيات طرد الجن فيصرفه.
مسخ الخيال السينمائى
وفي نفس خيط المسبحة الجديدة تتراص أفلام مثل (التعويذه) لمحمود ياسين ويحكى صراع أسرة من أجل صرف جن من البيت، يليه فيلم (جالا جالا) لـ (جالا فهمى)، وهى أيضا عن علاقة واحدة من بنات الجن جاءت تصلح من شأن عائلة مصرية تقليدية، وكانت حبكة الفيلم هى الحصول على (الزئبق الأحمر) من أجل صرفها، لذلك نجد الدور الأساسى في الخيال الدرامى هنا أن يكون بديلا لحبوب الهلوسة.
هل توقف قصور ومسخ الخيال السينمائى في السينما المصرية عند هذا الحد؟، هذا ما سنواصل البحث عنه في الحلقة القادمة كسؤال فرعى من السؤال الأكبر وهو (هل هذا القصور والمسخ لدينا هو نتاج فقر الخيال؟، أم هو خيال الفقر؟!