بقلم : أ. د. مدحت الكاشف *
إن الفنون ليست فقط حاملة لقيم مجتمعية لمجتمع ما فحسب، بل إنها تقوم بدور فعال ومؤثر في قيم ذلك المجتمع، ويدلنا على ذلك لفظة (قوّم) التي هى أصل لمصطلح “القيمة” أو “القيم”، فمن الناحية اللغوية ﹸيقال: (قوّم) الشئ يعني وزنه وقدره وأعطاه ثمناﹰ معيناﹰ، كما يأتي بمعنى صوبه وعدله أو وجهه نحو الصواب، وﹸيقال: قومت الشئ أى (عدلته)، كما ﹸيقال (قويم) أى (مستقيم)، أما القيمة بالكسر فمعناها (ثمن الشئ بالتقويم)، كما ﹸيقال: (تقوم الشئ) أى (تعدّل واستوى وتبينت قيمته)، و(قيمة الشئ) قدرة وقيمة المتاع ثمنه ومن الإنسان طوله.. وهكذا..، ولمفهوم القيم في جميع اللغات دلالات على الشجاعة، والبسالة، والصلابة، والقوة، وهى معانى تتضمن فكرة المقاومة والصلابة والتأثير والفعالية وترك بصمات على الأشياء وهي الصفات التي تتسم بها الفنون ضمنياﹰ.
إقرأ أيضا : عصام السيد يكتب : مبادرة إحياء المسرح المدرسى
فالمعاجم اللغوية العربية وغير العربية أشارت إلى معنى الثبات والدوام في بعض مشتقات لفظة (قوّم)، والتي حملت في ذات الوقت معنى السياسة والقيادة، وذلك على اعتبار أن القيم هي التي توجه سلوك الناس وتقودهم إلى الغايات التي ينشدون الوصول إليها، كما ﹸتشير تلك المعاجم إلى أن تلك اللفظة تحمل أيضاﹰ معنى المحافظة والإصلاح والاستقامة، وهو الدور الأساس الذي ينبغي أن تسعى الفنون إلى تحقيقه.
وقد حاولت الكثير من الدراسات الفلسفية والنفسية والتربوية والاجتماعية التعرض للمفهوم الاصطلاحي للفظة (قيمة)، حيث نجد أن القيم ﹸتعد إحدى أهم القضايا التي تناولها الكثير من الفلاسفة قديماﹰ وحديثاﹰ حول الفنون، والذين اختلفوا حولها أيما اختلاف، وهو ما أكده الفيلسوف الأمريكي الحديث (جون ديوي) John Dewey بقوله: (إن الآراء حول موضوع القيم تتفاوت بين الاعتقاد من ناحية بأن ما يسمى (قيماﹰ) ليس في الواقع سوى إشارات انفعالية أوتعبيرات صوتية، وبين الاعتقاد في الطرف المقابل بأن المعايير القبلية العقلية ضرورية، ويقوم على أساسها كل من الفنون والعلم والأخلاق، ومن هنا انضوت تحت تلك المفاهيم الفلسفية كافة المعاني المرتبطة بمسالك الإنسان في حياته الواعية، مثل: الإدراك والسلوك والوجدان، فالإدراك يفترض فيه أن يكون إدراكاﹰ صحيحاﹰ لا ﹸمضللاﹰ ولا مغلوطاﹰ حتى يجئ السلوك على أساس سليم، وهنا تبدو قيمة الحق، فالإنسان بفطرته ينشد الحق وعليه يبني علومه.
الفنون والمجتمع
أما السلوك فيقيس الإنسان صوابه بمقياس الخير الذي هو قيمة عنده، ليس له عنها غنى، حتى وهو يقترف الإثم ويفعل الشر، هاتان قيمتان ﹸتمليهما على الإنسان فطرته، قيمة الحق فيما يعلمه ويدركه، وقيمة الخير فيما ينشط في سبيله، أما القيمة الثالثة فهي حلقة ﹸوسطى تقع بين الإدراك من ناحية وبين السلوك من ناحية أخرى، وهى ما ﹸيطلقون عليها (النشوة الجمالية) أو الحالة الوجدانية، وبغية المرء أن تجئ هذه الحالة بما يشيع فيه الطمأنينة والرضى، وقد اختلف الفلاسفة حول ما إذا كانت قيم الأشياء ﹸتحدد بمعزل عن خبرة الناس بها في الحياة الواقعية، أم أن قيمة الأشياء في حياة الناس ﹸتشتق من خبراتهم بها، فبينما ترى الفلسفة المثالية العقلية استقلال القيم وانعزالها عن الخبرة الإنسانية، فإن الفلسفة الطبيعية أوالمادية ترى أن القيم جزء لا يتجزأ من الواقع الموضوعي للحياة والخبرة الإنسانية، كما ترى أن قيم الأشياء هي من نتاج اتصالنا بها، وتفاعلنا معها، وسعينا إليها، وتكوين رغباتنا وإتجاهاتنا نحوها، أو بمعنى آخر، فالقيم هى نتاج عادات فكرية كونّاها حول الموضوعات أو الأشياء التي ترتبط بتلك القيم، وهى التي تشكل قاعدة تنطلق منها الفنون في سعيها إلى التأثير في المجتمع وقيمه .
ومن جانب آخر اهتم علماء النفس، خاصة في ميدان علم النفس التربوي وعلم النفس الاجتماعي وعلم النفس الإكلينيكي، بمفهوم القيم حيث وضع الباحثون النفسيون التربويون عدداﹰ من التعريفات للقيم أكدت (أن القيم أحكام ﹸيصدرها الفرد على العالم الإنساني والاجتماعي والمادي الذي ﹸيحيط به)، بل إننا يمكن أن نختزل معظم هذه التعريفات في مفهوم واحد يرى أن القيم (عبارة عن تنظيمات معقدة لأحكام عقلية وانفعالية معممة نحو الأشخاص أو الأشياء أو المعاني سواء كان التفضيل الناشئ عن هذه التقديرات المتفاوتة صريحاﹰ أو ضمنياﹰ، وأن من الممكن أن نتصور هذه التقديرات على أساس أنها امتداد يبدأ بالتقبل ويمر بالتوقف وينتهي بالرفض)، وبنظرة أكثر تحديداﹰ يمكن أن نعتبر القيم بمثابة مجموعة من القوانين والمقاييس أو المعايير ﹸتستخدم للحكم على الأعمال والأفعال والتصرفات والسلوكيات، فضلا عن الأنشطة الإبداعية المختلفة في الفنون، وبناءﹰ على ذلك فإن هذه القيم هى بمثابة موجهات السلوك وضابطة له في آن واحد.
معنى الفنون
وهو ما نتلمسه في الدراسات الاجتماعية التي نجد فيها اهتماماﹰ ملحوظاﹰ بمفهوم القيم سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات لما لها من آثار مهمة تنعكس على السلوك الإنساني من كل جوانبه، فيرى بعض علماء الاجتماع أن مفهوم القيم يتعلق (بأى معنى ينطوي على مضمون واقعي وتقبله جماعة اجتماعية معينة، كما أن الفنون لها معنى محدداﹰ حيث تصبح بضوئه موضوعاﹰ معيناﹰ أو نشاطاﹰ خاصاﹰ).
وانطلاقاﹰ من تلك الرؤية طرح باحثو علم الاجتماع عدداﹰ من التعريفات المتعلقة بمفهوم القيم، جميعها اعتبرت القيم حقائق أساسية في البناء الاجتماعي، ﹸتشتق من التفاعل الاجتماعي، فبعض هذه التعريفات تنظر إلى القيم بوصفها “الحكم الذي ﹸيصدره الإنسان على شئ ما ﹸمهتدياﹰ بمجموعة المبادئ والمعايير التي وضعها المجتمع الذي يعيش فيه، والذي يحدد المرغوب فيه والمرغوب عنه من السلوك)، كما يذهب علم الاجتماع بشكلٍ عام إلى أن القيم غالباﹰ ما تكون مرتبطة بطبيعتنا البيولوجية والاجتماعية والنفسية.
ومن هنا كانت الفنون بوصفها نشاطاﹰ اجتماعياﹰ يمارسه المجتمع المتمثل في المؤدين والمتفرجين، تنهض على القيم الاجتماعية التي ﹸتعد المرتكز الأساسي له، فالقيم الاجتماعية هى مجموعة الخصائص أوالصفات أوالسمات المرغوب فيها من الجماعة والتي تحددها الثقافة القائمة، كما أن هذه القيم بمثابة آلية اجتماعية أومجتمعية للحفاظ على النظام الاجتماعي والاستقرار بالمجتمع، فهي التي توجه سلوكيات أفراد المجتمع، وهى المهمة الأساسية التي أخذتها الفنون على عاتقها.
* عميد المعهد العالي للفنون المسرحية