بقلم الإعلامي : أسامة كامل
اسمحوا لي أن أغير وجهتي في الكتابة من الآن فصاعدا، وأحكي لكم قصة في ورقة، وهو عمل أدبي شرعت فيه منذ سنوات وعرضته على الأستاذ نجيب محفوظ، زميلي في الأهرام وصديقي الذي علمني الشيشة التمباك في مقهي سفنكس بشارع سليمان باشا، ولم أكن أنوي ذكره على سبيل الاتجار بمعرفته وخاصة أنني التقيت في بداياتي مع قمم الثقافة والأدب والصحافة في الأهرام العريق، وقد أعجب النجيب محفوظ بالصورة التي كتبتها والشكل الفني الذي عالجت من خلاله القصة، بل إنه كتب (أحلام فترة النقاهة) على هدي قصة في ورقة في مجلة (نصف الدنيا) في أقل من صفحة أسبوعيا، وقد عاتبته فقال لي مبتسما: إنها استعارة وضحكنا.
إنها لحظات في حياة الكاتب تشمل حقائق ووقائع وخيالات وإضافات، والغريب أن خيال قصة في ورقة ظل يطن في رأسي طويلا ولا أستطيع الفكاك منه، وربما يأخذكم معي إلى أزمان أخري أو عوالم قريبة وغريبة، ولكنها جزء من أحداث مرت وعبرت في خيالي شابا يافعا في مسقط رأي بالمنزلة دقهلية.
ولقد حاولت في قصة في ورقة، أن أمزج القصة بالفن والأدب وأحيانا – قلة الأدب – وفي انتظار ردود القراء الذين ساهموا في تجرئي على هذا الباب الذي أخرج عشرات المبدعين وتجاهل آخرين أكثر إبداعا مني لأسباب طويلة ليس هذا وقتها.
ومن ثم فإن لو أن أحدا تعرف في تجربة قصة في ورقة على بعض الشخصيات الواردة إنما هو محض خيال ولا أقصد الإساءة بالطبع، وربما أقصد أحيانا على بيل الدعابة ولكن ليت متعمدًا، وحتي لو كنت متعمدا.. خليها في سرك!
نبوية ومحمد حافظ
وأبدأ أحداث قصة في ورقة لى النحو التالي: في بلد ريفي صغير قابع في أقصي شمال الدقهلية وعلى الطريق الزراعي تقف (نبوية) في صحن منزل أبوها ترتب الغسيل وتستعد لنشره في البلكونة بالدور الأول فوق الأرضي والمنزل من دورين، والشمس ساطعة بعد الفجر بقليل في صباح مفعم بالحيوية والنشاط، وكانت عادة الناس في هذا الزمان الصحو المبكر والاعتماد على نور ربنا، لم تكن وسائل الكهرباء والإضاءة حاضرة بما نراه الآن.. هى ماكينة تعمل بالكيروسين ملك الحاج عتمان وتشمل عددًا محدودا من البيوت لبعض المستورين، ومعامل الجبن ومشتقاته الحاج العزبي.
الحكاية في قصة في ورقة، تنطلق حينما أشرقت الشمس طلعت (نبوية) بشعرها وجداوله الذهبية وبشرتها الحمراء وجسمها المشدود الممشوق وملامحها البارزة، و(نبوية) بحسب القصة لم تستكمل الإعدادية وخرطها خراط البنات مبكرا كعادة هذا الزمن.
جمال طبيعي جدا
إذن (نبوية) صغيرة غير مرائية وأنف دقيق وشفتان ناضجتان في غير موعدها وحبتان رومان يقيظتان وخلفية جامدة ساخنة، وساقان ممدودين بكامل الاستقامة وكفين بيضوين صغيرين وقدمين بأصابع طويلة وأظافر عاجية.
طبعا لم أتحدث عن عينيها وهذا هو السر الذي أحتفظ به، لم يعطى الله الإنسان كل حاجة، ورغم هذه القطعة الفنية المرسومة بمنتهي المهارة يشاء المولي أن تصاب عينيها ببعض الحول والحور وهو أمر نادر طبيعيا، وإذا ابتعدت عنها قليلا ربما تلحظ هذا الحور الجميل وإذا اقتربت ربما يزعجك هذا الحول الغريب، وهو أمر لا يعيبها ولا يشوبها، ولكن خلق لديها خلل نفسي وعدم ثقة وتردد وخوف وريبة وشك وقلق لا تمحوه نظرات التعاطف والأسي والشفقة.
ولقد حاول العديد من شباب القرية ترتيبا على قصة في ورقة: أن يقترب لمجرد الإعجاب والممازحة الثقيلة وعلاقات هيام بلا هدف ولا معني فكان مصيره السب والشتم والخزلان، حتى بعض المتقدمين من خارج القرية وحينما يحدث اللقاء وتنصب مائدة الغداء فعند الاستقبال تشعر بغريزتها الحساسة أنها موضع للأسئلة أو للأسف يكون رفضها مشمولا بالطرد والاستبعاد وأبوها لا يرفض لها طلب، هى وحيدته بعد سنوات من الشقاء والحرمان.
وتصور قصة في ورقة المكان والزمان في تلخيص مؤداه: أمام المنزل وفي الساحة يجلس شاب أسمر، ملامحه رجولة وجدعنة وابن بلد وفلاح أصيل يرتدي جلباب أزرق يشبه زرقة السماء الصافية وطاقية صوف معمولة عمولة عند السرجاني، الذي يشغل هذه الطواقي بالطلب والمقاس وتستغرق ما لا يقل عن شهر، وحتي العمدة وشيخ البلد وكبار البلد لايستطيعون كسر هذه القواعد، وثمنها لايقل عن جنيه بحاله النص مقدم والباقي عن الاستلام.
محمد حافظ والجندية
و(محمد حافظ)، كما ورد في قصة في ورقة، ليس من البلد في حال الأصل ولكن قدمت أسرته منذ زمن ليس ببعيد أو قريب من الصعيد، والبعض يقول من الأسكندرية وهذا لا يشغل أحدا اليوم، وقد حصل (محمد حافظ) على إعفاء من الجندية وهو أمر نادر وخاصة بعد هزيمة 1967، ويقال أن صولا قريبه في التجنيد قد توسط لإعفائه وقبض العربون، ولكنها تظل شائعة لا مصدر لها غير الحقد والحسد للمعلم محمد حافظ، والغريب أن هذا المعلم ليس له أرض ولا يعمل بالفلاحة دونا عن شباب البلد، ولكنه ابتدي بحصان وعربية كارو معمولة مخصوص في المركز واستغرق دهانها شهر بحاله وبلغت تكلفتها عشرة جنيهات عند حجاج العجيري أشهر صناع هذه العربات حتي المنصورة.
وتحكي قصة في ورقة أن (محمد حافظ) قد عمل علي العربة بنفسه في أول الأمر، وكانت أجرته هى الأعلي في المركز كله، نظرا لدقته واستقامته وأمانته والحرص على البضاعة والتزاما بالوقت مهما كانت الصعوبات، وبعد فترة أصبح لديه عربة أخري يعمل عليها (البرعي) شقيقه الأصغر في إجازاته من الجيش و(سلامة النجار) مساعد المعلم محمد حافظ في حالة غيابه علي الجبهة.
وكان (البرعي) يفتخر بالبدلة العسكرية ويمشي في البلد طولا وعرضا ويسرح إلى مصنع البصل الذي كان يعمل به فتيات من البلد وأخريات من قرى أخرى، وفي حالة العمل يترك لبس العسكرية ويرتدي جلباب الشغل الغامق ولا أحد يعرف لون الجلباب، هل هو غامق من الوساخة أم أن هذا لونه الحقيقي.
و كان (محمد حافظ) على حد رواية قصة في ورقة، حريصا علي عمله وعماله وخيله الذي يراعي بنفسه ويشرف عليهم ويخصص لهم البرسيم المعتبر ومياه الحنفية العمومية بجانب سوق السمك، ويدفع مبالغ أكبر من كل الفلاحين ويحتفظ بالتبن والرجيع من عند مسعد البدري.
نصحي أبو عبد العال (البيطار)
وحينما يصل المعلم (نصحي أبو عبد العال) البيطار الشهير كل يوم كان أحدا ينتظره من الفجر بالخيل ويقوم البيطار بالكشف ومعالجة الخيل بالمقويات والفيتامين، ويخلع نعليها الحديد المدولبة ويقوم بالتنظيف والتقشير والتلميع والصنفرة، وإلصاق الحديد الجديد الذي كان معمولا عمولة عند التملي الحداد.
وتحكي قصة في ورقة: أن هذا السوق كان ينصب يوم الأحد من كل أسبوع يشمل كل منتجات الريف والخضروات والفواكه والحلويات البسيطة بالسمن البلدي من (أبو عجينة) والبيض والجبن والفراخ والطيور والبلح والغلال، وربما أحيانا بعض المنتجات الخشبية والصناعية والأفران الحديثة من الصلب بدلا من الأفران المنزلية المعمولة من الجبس التي استمرت مئات السنين.
وفي هذا السوق كل ما يمكن أن تتخيله أو لا تتخيله.. سجاد و ملابس وأحذية بسيطة.. سوق يمتد من الفجر حتي المغرب ولا مانع من بعض المعاكسات والاحتكاكات والغراميات والمشاهدات بدون مشاكل ولا مشاغبات، والناس عارفة بعضها.. قصص حب كثيرة ابتدت في هذا السوق وانتهت عند المأذون، وظل (محمد حافظ) يعمل ويجتهد حتي حدث حدثا غريبا وفوجئ الناس أن (محمد حافظ) استطاع أن يجلب عربة ثالثة يجرها جوز خيل معتبر.
وإلى لقاء في حلقة قادمة نستمكل فيها الحكاية المستمدة من قصة في ورقة…
روعة