عبد الرحيم منصور.. أنيق الكلمة والمظهر ولو كره الفاشلون (1/2)
بقلم الكاتبة والشاعرة : مي منصور
ما أكتبه في سطوري القادمة ليس دفاعاً على الإطلاق لشخص الشاعر الكبير عبد الرحيم منصور، لأنه لا يحتاج مني ولا من غيري هذا، تاريخه الطويل الملئ بالنجاحات والعلامات والأغنيات التي نرددها ليل نهار، ومواقفه الإنسانية مع كل من حوله، مع من يعرفه ومن لا يعرفه تشهد وتتحدث عنه إلى قيام الساعة.
ربما شيئا ما داخلي دفعني لعدم السكوت، وعدم التغاضي عما ذكره (أحدهم) شيئ يشبه مسؤولية الأم من أبنائها، وغيرتها عليهم، عبد الرحيم منصور وحمدي منصور هم أبنائي ومسؤوليتي وأنا صوتهم الذي يظل ولا ينتهي إلا بموتي.
في موقع (شهريار النجوم) منذ فترة ليست بالطويلة، ذكر أحدهم موقف وقال بعض الكلمات التي لا داعي لذكرها لأنها ليس بكلام ذات قيمة تماماً مثل صاحبها (أحدهم)، الذي وددت لحظتها أن أسأله عن انتاجه الفني قبل أن يذكر اسم عبد الرحيم منصور على لسانه!
لا أود أن أطيل في الحديث عن هذا الشخص، ولكني سأستطرد في سيرة عبد الرحيم منصور..
الحب كان الملهم الأعظم لعبد الرحيم منصور حيث كان يجد نفسه فيه، كان محباً لكل شئ، وكل شخصاً حوله ومعطاءً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لا يبخل أن يعطي هذا لقب (ابني) أو ذاك لقب (ولد عمي) كما ينطقها بلهجته الصعيدية التي تعتصر طيبة وحنان.. كان دائماً على موعد مع بنت جميلة لم تأت بعد ودائماً على عجلة.
إذا ذهبت لتجلس معه في المقهى وتتبادل أطراف الحديث ربما يتركك فجأة ليمتطي أول قطار متجهاً إلى الصعيد وينزل في محطة محافظة المنيا ينتظر حبيبته التي لم تأت ولكن هكذا صور له خياله.. ويعود وهو منشكحاً تراه وحيداً ولكنه عاد وألف قصيدة حب ملأت قلبه..
ميلاد عبد الرحيم منصور
ولد الشاعر عبد الرحيم منصورفى 15 يونيو 1941، بمحافظة قنا، وعانى فقد الأب فى طفولته المبكرة فصارت علاقته بالأم التى تحفظ كل تراث الجنوب الشعبى شديدة الخصوصية فهى الوطن والأم وتعلم منها جزء كبير من ذلك الموروث ويحمل الفتى الصغير هذا الإرث الهائل وتخطفه مدينته القاسيه بلا عودة، وكأن والدته أعطته جواز سفره وهي ترتجل الأشعار أمام ابنها، حيث قال عنها (أمى هى الجذور الشعرية التى أمسكت بها، فعندما كنت صغيرا كنت أجلس بجوارها أمام الفرن وهى تجهز رغيف الخبز على نيران خشب السنط .. وكانت تغنى أمام النار فأشعر بغنائها مثل النقوش والرسومات الملونة المحفورة على جدران معابد الفراعنة).
إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان يكتب: أنا ومحمد منير.. واحد ومات (6)
لم تكن علاقة الشاعر عبد الرحيم منصور بإخواته علاقة أخوة فحسب إنما كانت تشمل على العديد من المعانى الإنسانيه أو كل المعانى الإنسانيه الجميله التى ندرت من عالمنا تلك الأيام أو بالمعنى الأدق والأشمل اختفت تماما فعبد الرحيم منصور شخص ودود بطبعه، أما عن علاقته بتوأم روحه الشاعر (حمدى منصور) فهي كانت علاقه خاصه جدا، كانت تجمعهمها أشياء عديده مثل الصدق والإخلاص وجنيِّة الشعر التى كانت تحتضنهم دون تفرقه عند سؤال الشاعر (حمدى منصور) عن علاقته بـ عبد الرحيم منصور لا يجيب الا بعد صمت لحظات عديده وشرود بعيدا بعينيه الدامعتين، ليقول كلمتين لا ثالث لهما: (عبد الرحيم أنا)، أوقف الشاعر حمدى منصور عقارب الزمن على لحظة رحيل الشاعر عبد الرحيم منصور توأم روحه حتى رحل للقائه في 22يناير 2022.
عبد الرحيم منصور ومجلة صباح الخير
بدأت الرحلة باجتماع تحرير في مجلة (صباح الخير) التي كان يرأسها الكاتب الصحفي الكبير فتحي غانم في ذلك الوقت، حيث كان يحضر الاجتماع الصحفي الشاب لويس جريس، الذي أقترح على رئيس التحرير رحلة للبحث عن المواهب الشابة وتقديمها بمجلة (صباح الخير)، ولما وافق فتحي غانم ورحب بالفكرة كثيراً، انطلق جريس لوجه قبلي، كما انطلق الكاتب الكبير عبد الله الطوخي لوجه بحري، حيث اكتشاف المواهب في جميع أنحاء الجمهورية.
إقرأ أيضا : إبراهيم رضوان يكتب: أنا و منير.. أرسم ملامحك في عيوني (5)
انتهت رحلة لويس جريس ولم يجد سوى شاب أسمر يرتدي جلباب صعيدي فضفاض يصطحب الكاتب الصحفي إلى منزل الشاعر أمل دنقل فلم يجده، وإلى منزل القاص والروائي يحيى الطاهر عبد الله فلم يجده أيضاً، وكذلك منزل الشاعر عبد الرحمن الأبنودي ولم يجده هو الثالث، حيث سبقوه ثلاثتهم إلى القاهرة قبل مجيئه بأيام قليلة، فاستقل جريس القطار متجهاً للقاهرة مقرراً دعوتهم إلى مكتبه للكتابة عنهم، متخيلاً جريس أن الرحلة انتهت ولم يقابل أي مبدع وجهاً لوجه، لكن وبينما يتحرك القطار أعطى له عبد الرحيم منصور بضع ورقات كان قد كتبهم بخط الإيد، أخرجهم من جلبابه الصعيدي الفضفاض، وقال لجريس دي كلماتي وأتمنى أنهم يعجبوك، قرأ لويس الكلمات وأسرع على باب القطار وكان يتمنى أن يقفز منه ويعود لمنصور ليسأله كيف كان يخبئ عنه كل هذا الإبداع طوال الرحلة.
عبد الرحيم منصور ولويس جريس
كانت أول مقالات لويس جريس في مجلة (صباح الخير) بعنوان (المعذبون بالفن) عن شاعر كبير اصطحبه طوال رحلته في البحث عن الموهوبين ولا يقل عنهم موهبة بل يزيد، دعا عبد الرحيم للمجئ إلى القاهرة، وقال له أن مجلة (صباح الخير) تنتظره وتفتح له أحضانها، وفعلا سافر منصور إلى القاهرة ليبدأ من هنا من مجلة (صباح الخير).
فى عام 1967 نشر (منصور) ديوانه الشعرى الأول، وكان على نفقته الخاصه بعنوان (الرقص ع الحصى) وصدره بإهداء لأمه قال فيه (إلى أمى .. بنت الشيخ إسماعيل الخلاوي).
فى السبعينيات رشحه الشاعر صلاح عبد الصبور ليلقى أشعاره أمام الرئيس السادات فى أحد أعياد الفن فقدم أشعاره، وصفق له الجميع.
وبعد انتهاء الحفل لم يجد من يأخذه معه فى سيارته ليوصله إلى منزله، وبينما كان الجميع يركبون سيارتهم ، كان هو الوحيد الذى استقل قدميه وعاد حزينا قائلا: (موهبتنا مش بتأكلنا ولا بترحمنا من المشى على الأقدام).
لم يلق عبد الرحيم منصور شعره مرة دون أن يتأثر، دائماً يشعرك وكأنه لأول مرة يلقي هذه القصيدة دائماً يشعرك وكأنها أوحد قصائده وأعظم ما كتب وهكذا في كل قصيدة، حتى ترجوه بأن لا يكف عن الإلقاء في الجلسة، إلى يومنا هذا أصدقائه يحتفظون له بقصاصات من قصائده كان يدونوها خلفه وهو يقرأ، من كثرة تأثره ومن ثم تأثرهم بالكلمات كان يلقي كلماته بحب يزيد كل مرة عن التي تسبقها فيجعلك تطلب تكرارها مراراً ومراراً.
امتلك عبد الرحيم منصور روحا شعرية رحبه ومفردات شديدة العذوبة والطزاجة، جمعت عبق الجنوب وتفاصيل المدينة، واقتحم عالم كتابة الأغنيه فصار فى وقت قصير أحد أهم الأصوات ومن أكثركتابها تميزا وصدقا.
عبد الرحيم منصور وبليغ حمدي
شكل عبدالرحيم منصور مع الموسيقار بليغ حمدى ثنائيا فنيا حيث قررا التفرغ للمشاركة المقاومة بالغناء ورفع الروح المعنوية قبيل 1967، وعمل معسكر مستمر فى دار الإذاعة لكى يشارك الفن فى المعركة وكان من نصيب الشاعر عبد الرحيم منصور 225 نشيداً غنت له أغلب الأصوات.
كتب الكاتب الكبير توفيق الحكيم بعد نصر أكتوبر 1973 مقال بعنوان (عبرنا الهزيمة)، قرأ عبد الرحيم منصور المقال ثم كتب (عبرنا الهزيمة.. يا مصر يا عظيمة) التي شدت بها صوت مصر الحر شادية، اتصل بعدها توفيق الحكيم بعبد الرحيم منصور وطلب مقابلته، وعندما ذهب منصور للحكيم قال له الأخير إن المقال لم يقرأه الكثير ولكنك جعلت الملايين من المصريين يتغنو بعنوان المقال شكراً يا عبد الرحيم منصور، أنت شاعر تستحق الخلود كما خلدت عنوان المقال.
في الحلقة القادمة أتحدث عن عبد الرحيم منصور ومن عاصرهم من الشعراء والمطريبن الذي شدوا بكلماته الرقيقة.