كتب: محمد حبوشة
ظني أن مسلسل العربجي على الرغم من بعض مآخذي عليه إلا أنه يبدو لي مميزا ضمن أعمال رمضان 2023، ومن ثم يصبح جديرا بالمشاهدة، على مستوى القصة والسيناريو والحوار والموسيقى التصويرية وأجواء الحارة الشامية المشغولة بدقة متناهية لاتشبه مثيلاتها في مسلسلات البيئة الشامية السورية، وهو ماجعلني أبحث عن الأسماء الكبيرة في المسلسل لإيماني الشديد أنهم لا يؤدون الأدوارا رائعة مثل القدير سلوم حداد، والموهوب كثيرا باسم ياخور، وعملاقة الأداء الصعب مثل نادين خوري، فضلا عن أسماء أخرى برعت في لوحة الدراما السورية.
من الواضح أن كاتبي العربجي (عثمان جحا ومؤيد النابلسي) قد اجتهدا كثيرا بخلطة ناجحة وتحملا عناء صناعة مهام وأشكال أبطال عدة قصص عالمية مترجمين الأشكال للهجة وللبيئة السورية واللاسورية معا، وهذا أمر ليس سهلا أن تترجم أشكال أبطال قصص عالمية للعربية ما جعل البيوت والثياب والوجوه وجدران الشوارع والقبعات المضحكة أحيانا مزيجا من شخصيات المسلسلات التركية والفرنسية والروسية والسورية التراثية.
العربجي وبؤساء فيكتور هوجو
لا أعرف كمشاهد بسيط ذلك الربط الوثيق بين العربجي ومسلسل (البؤساء) الذي أخرجه باسم نصر، ولعب بطولته أنطوان كرباج وفيليب عقيقي عام 1974، ربما شكل الثياب أو الأحياء السكنية أو البؤس القديم المتجدد، تشبه إلى حد ما فيلمي (البؤساء – 1943) لعباس فارس، وأمينة رزق من إخراج كمال سليم، والآخر بنفس العنوان (البؤساء – 1978)، بطولة الفنانين الكبار فريد شوقي، عادل أدهم، يوسف وهبي) ومن إخراج عاطف سالم، هذه الأعمال يذكرك بها وجه باسم ياخور بلحيته السوداء وبشعره الطويل وبكنزته نفسها خلال كل الحلقات الموصولة برباطات تكشف عن صدره الرجولي، ربما يبدو باسم ياخور أيضا في العربجي بطل فيلم (آلام المسيح – 2004) جيم كافزيل، فهو لا يشبه لا السوريين ولا العرب ولا الأتراك ولا حتى الروس والفرنسيين، إنه أشبه بممثلي هوليود العالميين الذين نجد فيهم بصمات قليلة من كل شعوب العالم، ولو أنه في واقع الأمر يحمل ملامح إسبانية غجرية إلى حد كبير، لم يضحك العربجي ولو للحظة حتى نهاية الحلقات ربما المؤلف والمخرج قررا أن يضحكاه في الحلقة الأخيرة وفق الأسلوب الهندي.
إقرأ أيضا : الدراما العربية تتفوق على المصرية بـ (وأخيرا، خريف عمر، زقاق الجن، مربى العز، السرايا) 2/2
صحيح أن المسلسل خال من الرقصات ومن الأغنيات الهندية، إلا أنه مكثف العقد، ناهيك عن الربط المثير الجيد لإلزام المشاهد أن يبقى في مكانه ليعرف ما الذي سيحصل في كل دقيقة بعد دقيقة، وهذا نجاح في استلاب بصر وعقل وقلب المشاهد، كما يبدو ملحوظات في لوحات العربجي إدخال الدراويش على شاكلة بؤساء صوفيين إلى مشهد إعدام (عبده) ولو أنه جميل إلا أنه جاء ببساطة في معالجة مأزق المؤلف لانقاذ العربجي من المشنقة.
نادين خوري والعربجي
إصرار مؤلفي العربجي (عثمان حجا، ومؤيد النابلسي) على جمع شخصيتي الخير والشر والاستبداد والرقة والعطف والتجبر على المساكين في شخصية واحدة، تؤديها القديرة نادين خوري ليس أمرا بسيطا وعابرا، فالمؤلفان ربما احتارا لهذا الدور بين رجل وبين امرأة، فقررا جمع الوجه الجميل لنادين مع عصا ليست بحاجة لها لتتكىء عليها عند المشي بقدر ما قرر للعصا وللمسبحة الطويلة جمع القوة والسلطة مع الإيمان وفق حاجات العيش.
وكان ضروريا جدا وجود ميول فلسفية في طيات العربجي لكسب رضا المثقفين وأصحاب النخب، وهو ما تجسد جليا في (ديما قندلفت/ بدور)، وقد قدر لها بثيابها الأوروبية التراثية العتيقة والمساحيق الواضحة والمقصودة على وجهها وبطريقة مشيها الاستعراضية وبأسلوب مخاطبتها وحديثها، تظنها لبرهة أنها ستكمل المشهد برقصة تحد تليق بها كغجرية إسبانية رافعة يديها إلى الاعلى ومطقطقة بخشب نعل حذائها ورافعة طرف ذيل ثوبها إلى الأعلى صارخة: هولللي!
إقرأ أيضا : غياب المنافسة يهدد صناعة الدراما المصرية (1)
جاءت قصة العربجي بخلطة سخية من وقائع مأساوية سورية غارقة في التراجيديا الإنسانية، وغير صحيح أنها كما جاءت في المقدمة أنها من خيال، فالمؤلفان – على مايبدو لي – احتالا على النص مما تيسر من أعمال عالمية وحتى سورية سابقة وعربية، ومن ثم دمجا شخصيات عدة لخلق شخصية جديدة فكرة رائعة إنما محفوفة بالمخاطر، لكنهما نجحا في تجاوز كافة المآزق التي يمكن أن تؤخد على العمل في شكله النهائي، وقد ظهرت هنا براعة المخرج (سيف الدين سبيعي) في التحكم في كافة العناصر الفنية التي تؤكد قوله بصوته في مقدمة الحلقات: (هذه الحكاية من وحي الخيال، لم تحدث في أي زمان ومكان، ولكنها قد تحدث في كل زمان ومكان).
سلوم حداد وتحدي العربجي
صحيح أن رواد مواقع التواصل الاجتماعي هاجموا صناع العربجي؛ لما يحتويه بشكل خاص على إهانة للمرأة وتصويرها على أنها أداة لجلب الذل والعار لأهلها، فيما انتقد آخرون دور الداية (بدور) الذي تقوم به الممثلة ديمة قندلفت، إذ تقدم شهادة زور، مفادها أن ابنة عبده العربجي ليست بكرا، وذلك بهدف (إلحاق العار) بالعربجي، وعلق رواد مواقع التواصل الاجتماعي بأن الداية كانت تؤتمن على أسرار نساء وبيوت الحارة، وكانت الدايات بالغالب نساء كبيرات بالسن يتسمن بالحكمة والرزانة، أما الدور الذي قدمته قندلفت في العربجي فكان مختلفا تماما، إذ أدت دور داية شابة (لعوب) لا تشبه من قريب أو بعيد، ما يعرفه أهالي الشام عن الدايات، لكنه دور يحسب لها في مسيرتها الفنية المرصعة بألماس الموهبة الأسرة.
حتى الديكورات التي اعتمدها المخرج سيف الدين سبيعي لم تسلم هى الأخرى من الانتقادات، فقد اتهمه المتابعون بالتأثر بـ (الريف الأوروبي) معلقين أن الديكورات التي يشاهدونها في (العربجي) لا تعكس طبيعة الأثاث العريق المميز للبيئة الشامية، لكني أري في هذا ظلما فادحا لتوظيف عناصر الديكور التي عبرت عن البيئة الشامية داخل البيوت وخارجها من حيث الطرقات والساحات التي تتسق تماما مع ملامح البيئة الشامية القديمة والعتيقة إلى حد كبير، وهو ما نجح في اختياره المخرج سيف الدين سبيعي بعين واعية تماما لوقع الأحداث على مأساويتها وعنفها وجبروتها الغالب في كل المشاهد.
حقق العمل نسبا عالية من المشاهدات وأثار تفاعلا كبيرا لدى الجمهور كون الكثيرين رأوا فيه لوحة تجسد تناقضات الخير والشر، فضلا عن أحداثه ومشاهده التي صدمت المشاهدين بجرأتها وقسوتها في بعض الأحيان، ومن أكثر المشاهد إثارة للتفاعل عند جمهور العمل كان المشهد الذي انحنى فيه الممثل باسم ياخور لتقبيل قدم الممثل (أبو حمزة/ سلوم حداد)، وكذلك المشهد الذي أداه الفنان وائل زيدان بدور (أبو سليم)، والذي ظهر فيه الأخير مكبلا وقد لفّ لجام حول رأسه وفمه، إذ رأى البعض أن في المشهد إذلالا للشخصية فيما اعتبر آخرون أن الامر كان عقابا عادلا لشخصية سرقت أموال الفقراء.
ديما قنلفت دلالة العربجي
ربما أحداث الحلقة الأخيرة فاقت كل توقعات المشاهدين، حيث اعتبرها البعض (نهاية فاشلة)، بينما وصفها آخرون وأنا منهم بأنها (مقدمة مشوقة) لجزء ثان من العربجي، فقد تمنوا أن تكون نهاية فعاليات العربجي تجنح نحو عودة القيادة إلى حسن النشواتي، ثم يتزوج ابنة عبده (حسنية) بعد موافقة درية خانم/ نادين خوري) على هذا الزواج، بالإضافة إلى العديد من الأحداث التي توقعوا أن تنتهي غير تلك التي ظهرت في الحلقة الأخيرة من المسلسل، وبالمثل وصفوا نهاية المسلسل بـ (الغامض)، ولم يرض عددا كبيرا من المشاهدين، حيث كان المتابعون ينتظرون عبده ليأخذ حقه من كل من ظلمه وأصابه بالألم والألم والحزن طوال أحداث المسلسل، لكن الأحداث اختلفت، حيث اكتفى عبده بقتل حمزة ، ثم عاد إلى الحياة الجبلية.
على أية حال ورغم اختلاف وجهات النظر حول النهاية غير المنطقية إلا أن العربجي حظي بنسبة مشاهدة عالية، وحقق العمل أرقاما قياسية على جميع المستويات، حيث اقتربت وجهات نظرها حول تطبيق Tik Tokمن نصف مليار مشاهدة، كما استطاع العمل أن يحتل المرتبة الأولى في قائمة المسلسلات السورية واللبنانية على محرك بحث جوجل، بحسب مؤشرات جوجل، كما أشاد الجمهور بأدوار الممثلين في المسلسل، وأبدوا إعجابهم الشديد بها، حيث تصدرت مقاطعهم قائمة الأكثر تداولاً على منصة (تويتر) بعد عرض الحلقة التاسعة عشر منه، وبدأ المشاهدون بتداول المقاط لكل من (عبده ودرية خانم وأبو حمزة والدلالة بدور) بكثافة على منصات التواصل الاجتماعي.
ولي بعض الملاحظات النقدية على العربجي ومنها: رغم أن نادين خوري وديمة قندلفت وميلاد يوسف والراحل محمد قنوع ووائل زيدان وشادي الصفدي وطارق مرعشلي وحسام الشاه وروعة ياسين وروبين عيسى وعبد الرحمن قويدر، ومجموع طاقم الممثلين لعبوا أدوارهم بنجاح إلا أن شخصية العربجي أعطت بعدا آخر في الأداء تمكن باسم من أدائها ببراعة تستحق الثناء، فهو في هذا الدور يأخذنا إلى تاريخ السينما العربية في ذاكرة أفلام أيام زمان والأدوار الفذة لفريد شوقي ومحمود المليجي ورشدي أباظة، أقول ذلك لأن شخصية العربجي، وتقديمها في هذا السياق، أخذت تلقائيا دور البطل الشعبي في نص درامي، واستكملها (الكبير) سلوم حداد فاعطاها ماتحتاجه المعركة بين هذين القطبين، وظلت شخصية (درية الجوخدار/ نادين خوري) أضعف من هاتين الشخصيتين، أو أنها وصلت إلى خاتمة لم تبشر بها المقدمات .
عندما يكون العمل الدرامي قادرا على تحقيق نسبة عالية من المشاهدة (كالعربجي)، فإن من الضروري التدقيق جديا في صناعة أحداثه، فقد أرهقت التفاصيل الصراع الدرامي، رغم النجاح في تقديم مكاسرة مبررة ومشروعة بين الظلم والقسوة والوحشية من طرف وبين الاستكانة والرفض والتمرد من طرف آخر، وهما قطبا الصراع، والصراع كما أقر أحد كاتبي المسلسل (عثمان جحا) كان عبارة عن قصة المهمشين في معاناتها مع القهر، في هذه القصة، ثمة عقد في الصراع كانت تحتاج إلى تفكيك، لتدفع الأحداث إلى الأمام كي نقتنع بحركة الشخصيات وسلوكها، لكن التعاطي فيها لم يكن موفقا، وراح النص يهبط في كثير من المنعطفات باحثا عن تفاصيل وتبريرات تسد الثغرات التي وقعت بها عملية إطالة الصراع لإتمام حلقاته الثلاثين .
ديكور العربجي مناسب جدا
اتجه النص إلى القولبة والفبركة أحيانا، وكان يتطلب من كاتبي النص إجراء عملية استبدال مقنعة، ويلاحظ ذلك بتراخي أطراف الصراع في المعركة فيما بينهم التي اشتدت ووهنت في أكثر من منعطف من دون رشاقة في تبرير تأجيل الحسم، ففقد هذا التراخي السبب دراميا أكثر من مرة، واستعيض عنه بمشاهد مصطنعة للإطالة، كما اعتمد السيناريو على مفاتيح لحلول درامية (كلاسيكية) وضعيفة في عملية التصعيد والذروة، وكانت في أغلبها تنحدر سريعا بأسباب واهية كقصة تقبيل قدم أبو حمزة، (تنازل إلى أقصى الحدود، ثم عودة إلى أقصى الصراع من دون عقبات سلوكية)، وكأن شيئا لم يكن ، يظهر ذلك في قضية صمت الشهود الذين أنقذوا العربجي عند مقتل (شومان/ الفنان الراحل محمد قنوع)، فهل يقبل أبو حمزة أن تضيع هذه الفرصة، ويعود بخفي حنين وهو يتحين فرص القضاء على خصمه ومع السلطات كلها؟
وكذلك في قصة استعادة الخاتم من قبل القابلة (بدور) ومعرفة قاتل زوجة العربجي، وضعف رد فعل زوجة النشواتي عند طلاقها، وآلاعيب غير مقنعة من القابلة، ووجود شخصية يمكن حذفها هى مرافقة القابلة رغم إسناد الدور إلى ممثلة جيدة (روبين عيسى)، ثم جاءت منافسة الأب والابن على الفتاة ومقتل الابن لتسرع الأحداث وتتجه بها إلى منحى آخر، ولم يكن الصراع يحتاج إليها.
ومع كل الملاحظات النقدية التي تحدثت عنها، إلا أنني في النهاية أستطيع القول: أن العربجي مسلسل جميل وجدير بالمشاهدة، وليس غريبا عن الدراما السورية وعن عمالقتها أن يشعرونا بالفخر وبالاعتزاز بعروبتنا التي تجمعنا على السراء والضراء، لا على توحيد مساري البؤس كما هو واضحا جليا في (لبنان وسوريا، والعراق وفلسطين وليبيا واليمن وحتى السودان)، والتي جميعها تعيش صنوفا من البؤس والعذاب الذي يتشابه مع ما تعرض له عبده العربجي من قهر وعذاب من جانب أبو حمزة، والذي لايختلف كثيرا عن قادة وساسة هذه الدول بأفعالهم المشينة بالبلاد والعباد.