بقلم الإعلامي : أسامة كامل
كلما شاهدت فيلما قديما (أبيض وأسود) أتذكر أمي بهيبتها وبهاء وجهها الندي الصبوح خيمة تظللنا بالحب، وكنت أغيب وأسافر وأرحل وأنسي ثم أعود لأجد أمي كما هى، أحاول أن أقترب منها وأدخل في أحضانها الدافئة أم أنظر إلى وجهها الذي أحفظ بصماته، ولكنها تشق بعينها ملامحي وتقرأ ما لايقرأ، ورغم أن أمي كانت سيدة بسيطة من ريف المنصورة لم تكمل تعليمها لأنها ببساطة تزوجت في الخامسة عشرة من عمرها، كما هى عادات هذه الأيام وأنجبت سبعة غير الذي سقط لعوامل الصحة والمرض وربما الجهل وعدم الوعي الطبي والصحي.
إقرأ أيضا : محمد عبد العزيز .. آخر عظماء سينما الأبيض والأسود
كانت أفلام الأربعينات والخمسينات والستينيات تجسد الحياة المصرية البسيطة الجميلة ومنها بالطبع حالة أمي، فضلا عن قصص الحب العفوي الصادق والصراع بين قوي الخير والشر تبث في أرواح البشر انتصار البساطة والتلقائية والانتماء للأرض والريف، كانت مصر تموج بالأفكار والتيارات ومظاهر الثقافة والعلوم والوعي، ويبدو أن الصراع السياسي والعسكري ينمي في الأرواح أحاسيس ومشاعر الانتماء والولاء والوطنية.
كنت طفلا صغيرا بعد هزيمة 67 وأراد أبي أن يصحبنا نحن وأمي كي نبعد عن القاهرة خوفا من المعارك والقذف، وكنا في بداية الصبا والشباب وربما خوفا من انفتاح القاهرة وظواهر الانحراف والخروج الأخلاقي أو ربما غلاء المعيشة والتكاليف رغم المقارنة مع ما يحدث اليوم.
كتب أثارت حفيظة أمي
ولقد طرأت في ذهني وأنا في بداية الثانوي فكرة الحرب الشعبية وأن يتم تجنيد شباب مصر وهم لا يقلون وقتها عن 5 ملايين طفل أو صبي أو شاب من أجل تحرير الأرض المقدسة المحتلة – آنذاك وحتى اليوم – أو الموت في سبيل الوطن والأرض التي اغتصبت منا، وهو ما أثار حفيظة أمي وأبي وناظر المدرسة وبعض المدرسين والكثير من الطلاب والطالبات وربما أيضا عوامل عاطفية ونرجسية، ولكن أذكر أنني كنت صادقا فيما أدعو إليه ووصل الأمر إلى أجهزة سيادية، ولكنها لم تأخذ الموضوع علي محمل الجد من طفل أو صبي شديد النحافة والحماس والصدق
في ظل تلك الإرهاصات كنت أعود إلى أمي أحكي لها وتنظر هى إلى غير مصدقة ما يحدث في دماغ ابنها الذي لا يشبه بقية أقرانه لا يلعب ولا ينزل الشارع إلا قليلا و دائما هو مستغرق في قراءة كتب غريبة وعجيبة و يكتب كلمات غير مفهومة ولا منضبطة في عرف تلك الأيام.
و كان أبي قليل الاحتكاك أو الاهتمام الدراسة أولا وأخير من أجل إنهاء مهام سبعة أولاد في رقابته والغريب أننا لم نكن نشعر بالحرمان أو النقص أو المقارنة مع الأصدقاء والزملاء بفضل وجود أمي في حياتنا.
إقرأ أيضا : هدى العجيمي تكتب : من عام لعام تحيا السينما المصرية
كانت الاهتمامات مختلفة ولا يستطيع أحد تصديق أن قضية الوطن هى الشغل الشاغل لشباب مصر الحالم، وحالة من السخط والغضب والكفر بالزعيم الخالد والشعارات والتنظيمات، كان الاتحاد الاشتراكي العربي هو الحزب الأوحد الذي يسيطر علي الحياة السياسية في مصر وعلى البرلمان وعلى الهامش كانت منظمة الشباب، ذلك الوعاء الذي يحتوي شباب مصر ويبث في عقولهم أفكار القومية والوطنية والاشتراكية الميثاق وكتب الثورة والثوار وحتى الفترات التي سبقت ثورة يوليو المشوهة والملك المخلوع والرأسمالية المتوحشة ومجتمع الـ 1%.
وتداعت كل تلك الذكريات حينما حضرت اجتماعات (الحوار الوطني) وشاهدت الدكتور علي الدين هلال يربو فوق الثمانين، وكان محاضرا بارعا في منظمة الشباب مع الدكتور رفعت المحجوب والدكتور أحمد كامل وغيرهم، واندهشت أنه لايزال علي الدين هلال متحمسًا متدفقا في كل العهود والعصور، وشاهدته في بعض الجلسات الأولي يحمل علي رجلين شديدين، وتعجبت كيف يستمر الرجل حتي قبل الموت بقليل.
مشاعر متقلبة تجاه مصر والملك
وأعود مرة أخرى إلى أمي، وحكايتي مع تلك المشاعر المتقلبة التي كانت تعلمها أمي تلك الفلاحة البسيطة الطبيعية، ففي هذا السن الصغيرة ارتبطت بفتاة ريفية من عائلة ثرية عينها سبحان المعبود وفمها مرسوما كالعنقود، وكان شعرها ذهبي كأمواج الشمس ونحيلة وصدرها يحمل نهدين يشقان الجسم المرمري وابتسامة تملأ الدنيا ضحكا وورودا، ولن تصدق فقد كانت تسكن بجوار بستان فواكه ورائحة الياسمين والفل والريحان تشق الطريق، حتى ظننت أنها تفرز هذه الروائح المنعشة كنوع من الترحيب بي.
لم أكن في تلك الأيام أملك من الدنيا غير نظرات حائرة زائغة، ولقد عشت دهرا أخاطب الناس بمزيد من اللغة العربية حتي يظن الناس أنني لست مثل بقية خلق الله، وكانت تلك الفتاة تنظر إلى مبتسمة وحين ننتهي من الدروس في مغربية هذه الأيام ولم تكن هناك إضاءة ولا أنوار ولا كهرباء إلا قليلا في ريف مصر الذي عصرته وعشته وأحببته كأنه فيلم من زمن سينما الـ أبيض وأسود بمقاييس هذه الأيام.
كنا ننفصل عن الجمع وتتعمد فتاتي أن تتاخر وتسير بجواري وتتحدث عن الدروس والمواد ومواعيد المذاكرة، ومع أنني لم أكن طالبًا متفوقًا ولا حريصا علي المذاكرة كانت تلك الفتاة بمثابة حوافز منشطة للالتهام هذه الدروس، فقد كنت أقول لها خلسة عيناك غريبة ومختلفة، فترد على في هدوء وثبات وثقة: خلقة ربنا وتنظر لي شذرا وكأني أوبخها، وحين أقول لها إن شعرك مثل سلاسل الذهب فترد ببراءة ودعة: أنا باغسله كل يوم، وعندما أتجرأ قليلا وألمس يديها فتتركها بتلقائية غير متعمدة حينا، أو متعمدة أحيانا خجلا وخوفا واضطرابا.
أفلام الستينيات عن الريف المصري
في أحد المرات قبلت يدها كما يحدث شاهدت ذلك في أفلام (شادية وعماد حمدي) التي كنت أعشقها، سحبت يدها وقالت في خوف: استغفر الله العظيم، ولكنها لم تمانع في قبلة طائرة من فاها، بل شكرتني، ومع ذلك سرعان ما انتهت تلك العلاقة البريئة – بحسب توقع أمي – وأفضت إلى لاشيئ، والتقيتها بعدها بسنوات ونظرت إلى ولم أعرفها فقد كانت تزن طن تقريبا، وتبدل الحال وبجوارها وفي بطنها فريق كرة وبجوارها رجل طويل عريض يرتدي جلبابا فخما ويملك عشرات الفدادين.
أتذكر أنني كنت أحكي لـ أمي فتدير وجهها لي وكأن لسان حالها يقول لي: (إنها المراهقة يابني) ولابد أنك ستنسى يوما ما، وقد صدقت فقد كان الحب سريعا وسريا للغاية، وكانت الخطابات هو الوسيلة الوحيدة لإقامة علاقات عاطفية على طريقة أفلام (الأبيض والأسود)، حتى أنه عرف عني أنني أفضل ما يدبج الكلمات الشعرية اقتباسا من بعض أغاني الست أم كلثوم والأستاذ عبد الحليم حافظ، وكانت تأخذ عقول البنات كلمات مثل (يا عبير الشوق يا حبيبي) مثلا، و(كامل الأوصاف شغلني) نموذجا.
أذكر في ذلك الوقت أنه حينما أتطلع إلى مقال الأستاذ هيكل (بصراحة) يوم الجمعة يشدني وأرد عليه أحيانا وأنا في المدرسة الثانوي ويصفق الطلاب والطالبات من حماس الخطاب الذي اكتشف أنهم لا يفهمون ولا يفقهون ولكنه الحماس والصدق والحمية، حتي أن (ليلي) ظلت تنتظر بعد الدراسة لتبلغني أنها لم تسمع مثل هذا الكلام قبل ذلك وأنني لست الكاتب وكنت مستغربا متعجبا ولم أرد.
كانت الحياة في تلك الأثناء في ظل وجود أمي التي تظللنا بحنانها طبيعية جدا والاختلاط مسموح في الأرياف لكن بحدود، ولم تكن هناك الممنوعات والمحرمات وعشرات الأفكار التي هلت علينا منذ بداية الثمانينات وحتي اليوم، رغم أن المورد الرئيسي قد تاب وآمن وعمل صالحا، واستضاف شيرين وأنغام وآصالة وكل نجوم الغناء والطرب والرقص في جميع أنحاء العالم، ولا تزال مصر تعاني وتمرض ولا تشفي.. من لم يري مصر في ما قبل الثمانينات فاته الكثير، ويبقى لي أمل في لقاء قريب.